الشيخ صالح آل الشيخ
هذا الحديث -أيضا- من الأحاديث التي قيل فيها: إنها أصل من أصول الدين، يعني: أن كثيرا من الأحكام تدور عليها.
وهذا الحديث فيه الأمر بالأكل من الطيب، وأنه سمة المرسلين، وسمة المؤمنين بالمرسلين، وأثر ذلك الأكل الطيب من الحلال على عبادة المرء، وعلى دعائه، وعلى قبول الله -جل وعلا- لعمله، فقَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -ﷺ-: ﴿إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا﴾.
وقوله: ﴿إن الله طيب﴾ يعني: أنه -جل وعلا- منزَّه عن النقائص والعيوب، وأنه -جل وعلا- له أنواع الكمالات في القول والفعل، فكلامه -جل وعلا- أطيب الكلام، وأفعاله -جل وعلا- كلها أفعال خير وحكمة، والشر ليس إلى الله جل وعلا.
فالله -سبحانه- طيب بما يرجع إلى ذاته، وإلى أسمائه، وإلى صفاته -جل وعلا- ومن أوجه كونه طيبا أنه -جل وعلا- هو المستحق للعبادة وحده دونما سواه، وهو المستحق لأنْ يسلم المرء وجهه وقلبه إليه -سبحانه- دونما سواه.
ولكونه -جل وعلا- طيبا لا يقبل إلا طيب، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا﴾.
ومعنى قوله: ﴿لا يقبل﴾ يعني: لا يرضى، ولا يحب إلا الطيب، وأيضا يعني: لا يثيب، ولا يأجر إلا على الطيب؛ فإن كلمة "لا يقبل" هذه -في نظائرها مما جاء في السنة- قد تتوجه إلى إبطال العمل، وقد تتوجه إلى إبطال الثواب، وقد تتوجه إلى إبطال الرضا بالعمل، وهو مستلزِم في الغالب لإبطال الثواب والأجر.
يعني: أن العمل قد يقع مُجْزئًا ولا يكون مقبولا، كما جاء في الحديث: ﴿لا يقبل الله صلاة عبد إذا أبق حتى يرجع﴾.
و ﴿من أتى كاهنا أو عرافا لم تقبل له صلاة أربعين ليلة﴾ وأشباه ذلك.
فتقرر أن كلمة "لا يقبل" هذه تتجه إلى نفي أصل العمل، يعني: إلى إبطاله، كما في قوله: ﴿لا يقبل الله صلاة حائض إلا بالخمار﴾. ﴿لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ﴾.
هذه فيه إبطال العمل إلا بهذا الشرط، وقد تتجه إلى إبطال الرضا به، أو الثواب عليه، فهذه ثلاثة أقسام.
هنا ﴿إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا﴾ تحتمل بحسب العمل، أن يكون المنفي الإجزاء، أو أن يكون المنفي الأجر والثواب، أو أن يكون المنفي الرضا به والمحبة له، يعني: لهذا العبد حين عمل هذا العمل.
فقال: ﴿لا يقبل إلا طيبا﴾ يعني الذي يوصف بأنه مجزئ، وأنه مرضي عنه عند الله -جل وعلا- وأنه يثاب عليه العبد هو الطيب، وأما غير الطيب فليس كذلك، فقد يكون غير مرضي، أو غير مثاب عليه، وقد يكون غير مجزئ أصلا، بحسب تفاصيل ذلك في الفروع الفقهية.
إذا تقرر هذا فقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا: ﴿لا يقبل إلا طيبا﴾ هذا فيه أن الله -جل وعلا- إنما يقبل الطيب على الحصر.
و"الطيب" جاءت النصوص ببيان أن الطيب يرجع إلى الأقوال، وإلى الأعمال، وإلى الاعتقادات. فحصل أن الله -جل وعلا- من آثار أنه طيب أنه لا يقبل من الأقوال إلا الطيب، ولا يقبل من الأعمال إلا الطيب، ولا يقبل من الاعتقادات إلا الطيب. ما هو القول الطيب، والعمل الطيب، والاعتقاد الطيب؟
فسرنا الطيب -أولا- بأنه هو المبرأ من النقائص والعيوب، وكذلك القول والعمل والاعتقاد هو المبرأ من النقص والعيب، يعني: الذي صار بريئا من خلاف الشريعة.
فالطيب هو الذي وُوفِق فيه الشرع، فالقول والطيب هو الذي كان على منهاج الشريعة، والعمل الطيب هو الذي كان على منهاج المصطفى -ﷺ-، والاعتقاد الطيب ما كان عليه الدليل من الكتاب ومن السنة.
فهذا هو الطيب من الأقوال والأعمال والاعتقادات.
وإذا صار قول المرء طيبا فإنه لا يكون خبيثا، والخبيث لا يستوي والطيب، كما في آية "المائدة": ﴿قُلْ لاَ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾.
وكذلك في الأعمال والاعتقادات، فنتج من ذلك أن العبد -إذا تحقق بالطِيبِ في قوله وعمله واعتقاده- صار طيبا في ذاته، والطيب له دار الطيبين، كما قال -جل وعلا-: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ﴾.
ومن صار عنده خبث في بدنه وروحه، نتيجة لخبث قوله، أو خبث عمله، أو خبث اعتقاد، ولم يغفر الله -جل وعلا- له، فإنه يُطَهَّر بالنار حتى يدخل الجنة طيبا؛ لأن الجنة طيبة لا يصلح لها إلا الطيب.
وهذا -في الحقيقة- فيه تحذير شديد، ووعيد وتخويف من كل قول أو عمل أو اعتقاد خبيث، يعني: لم يكن على وفق الشريعة، فالطيب هو المبرأ من النقص، وأعظم النقص في العمل، أو من أعظم ما ينقص العمل أن يتوجه به إلى غير الله -جل وعلا-، وأن تُقْصَد به الدنيا.
فتَحَصَّل هنا أن قوله: ﴿إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا﴾ يعني: لا يقبل من العمل والقول والاعتقاد إلا ما كان على وفق الشريعة، وأُرِيدَ به وجهه -جل وعلا-، هذا حاصل تعريف الطيب؛ لأن العلماء نظروا في كلمة "طيب" في وصف الله -جل وعلا- وفيما ما يقابلها، وتنوعت أقوالهم، والذي يحقق المقام هو ما ذكرته لك.
قال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين﴾.
المرسلون أُمِرُوا وأتباع المرسلين -الذين هم المؤمنون- أُمروا -أيضا- بما أُمر به المرسلون، فقال -جل وعلا- في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾ في آية "المؤمنون".
وقال -جل وعلا- في وصف المؤمنين، أو في أمره للمؤمنين في آية "البقرة": ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾.
فأمر المؤمنين بأن يأكلوا من الطيبات، وأمر المرسلين بأن يأكلوا من الطيبات، وأمر الجميع بأن يعملوا صالحا، وهذا يدل على أثر أكل الطيبات في العمل الصالح؛ لأن الاقتران في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ﴾لأن الاقتران يدل على أن بينهما صلة، والصلة ما بين أكل الطيب والعمل الصالح هي تأثير الأكل الطيب في العمل الصالح.
ولهذا قال كثير من أهل العلم: إن العمل لا يكون صالحا حتى يكون من مال طيب. فالصلاة لا تكون صلاة صالحة مقبولة حتى يكون فيها الطيب من الأقوال، ويكون لباس المرء طيبا، ويكون تخلص من الخبيث من النجاسات وغيرها، إلى آخر ذلك.
والزكاة لا تكون مقبولة حتى تكون طيبة، بأن تكون عن نفس طيبة، وألا يراد بها رياء ولا سمعة إلى آخر ذلك.
والحج كذلك؛ فمن حج من مال حرام لم يُقْبَل حجه؛ لأن الله -جل وعلا- لا يقبل إلا الطيب.
ثم ذكر -عليه الصلاة والسلام- مثالا من أمثلة تأثير الأكل الطيب في بعض الأعمال الصالحة، وأثر أكل الحرام في بعض الأعمال الصالحة، فقال أبو هريرة -رضي الله عنه-، ثم ذكر -يعني النبي عليه الصلاة والسلام-: ﴿الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا ربِ يا ربِ، أو يا رب يا رب. ومطعمه حرام، ومشربه حرام، ومأكله حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك﴾.
قال: ﴿ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء﴾.
ذكر هذه الصفات؛ لأن هذه الصفات مظنة الإجابة؛ فالسفر من أسباب إجابة الدعاء.
قد جاء في الحديث الحسن أن النبي -ﷺ- قال: ﴿ثلاث يستجاب لهم﴾ وذكر منهم المسافر. فالسفر من أسباب الإجابة، وهذا قد تعرَّض لسبب من أسباب الإجابة وهو السفر.
ووصفه بقوله: ﴿يطيل السفر﴾ وإطالة السفر تعطي كثيرا من الاغتراب، وفيه انكسار النفس، وحاجة النفس إلى الله -جل وعلا- إذا كان السفر للحاجة، قد يطيل السفر -يعني من حاجته- يحتاج إلى السفر في معيشته، يحتاج إلى السفر في أموره، وإلا فإن المرء لا يختار إطالة السفر إلا لحاجة.
قال: ﴿يطيل السفر أشعث أغبر﴾ وهاتان الصفتان تدلان على ذلته، وعلى استكانته، وهذه يحبها الله -جل وعلا-، وكان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لبس شيئا خَلِقا، ولم يتزين، وإنما صار أشعث، ثم توجه في خلوة، ودعا الله -جل وعلا- وقال: إنه أقرب للإجابة؛ لما في هذه الصفة من انتفاء الكبر، وقرب التذلل والاستكانة، وهذه يكون معها الاضطرار والرغب، وعدم الاستغناء.
فذكر -عليه الصلاة والسلام- هذه الصفة، فقال: ﴿أشعث أغبر يمدُّ يديه إلى السماء﴾ وهذه صفة -أيضا- ثالثة، في أنه يمد يديه إلى السماء في رغب أن يكون أتى بما يُجَابُ معه دعاء، ورفع اليدين في الدعاء سنة، كما سيأتي بيان بعض ذلك.
يقول: ﴿يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب﴾ وذكره هنا "يا رب" مكررة، ويجوز أن تقول: يا ربِ على حذف الياء، أو يا ربُ على القطع، في تكريرها ذكر لصفة الربوبية، ومعلوم أن إجابة الدعاء من آثار ربوبية الله -جل وعلا- على خلقه.
ولهذا لم تكن إجابة الدعاء للمؤمن دون الكافر، بل قد يجاب للكافر، ويجاب للمارد، وقد أجيب لإبليس؛ وذلك لأن إجابة الدعاء من آثار الربوبية، كرزق الله -جل وعلا- لعباده، وكإعطاءه لهم، وكإصحاحه إياهم، وإمدادهم بالمطر، وأشباه ذلك مما قد يحتاجون إليه. فقد يدعو النصراني ويستجاب له، وقد يدعو المشرك ويستجاب له، إلى آخر ذلك.
وتكون هنا الاستجابة لا لأنه متأهل لها؛ ولكن لأنه قام بقلبه الاضطرار والاحتياج لربه -جل وعلا-، والربوبية عامة للمؤمن وللكافر.
ذكر هنا: "يا رب، يا رب" وهذا من آداب الدعاء العام كما سيأتي، وذكر هذا بلفظ الربوبية -أيضا- من أسباب إجابة الدعاء.
قال في وصف حاله -مع أنه تعرض لهذه الأنواع مما يجاب معه الدعاء- قال في وصف حاله: ﴿مطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِي﴾-بالتخفيف، فغلط من يقولها بالتشديد غُذِّيَ، لا، هي غُذِيَ من الغذاء، ﴿غذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك﴾. يعني: فبعيد ويتعجب أن يستجاب لذلك وهو على هذه الحال. فمن كان ذا مطعم حرام، وذا مشرب حرام، وذا ملبس حرام، وغذي بالحرام، فهذه يستبعد أن يستجاب له.
وقد جاء في معجم الطبرانى بإسناد ضعيف: ﴿أن النبي -ﷺ- قال له سعد بن أبي وقاص: يا رسول الله، ادع الله لى أن أكون مجاب الدعاء. قال: يا سعد، أَطِبْ مطعمك تكن مستجاب الدعوة﴾.
وهذا في معنى هذا الحديث، فإن إطابة المطعم من أسباب الإجابة، فهذا تعرض لأنواع كثيرة من أسباب الإجابة، ولكنه لم يأكل طيبا؛ بل أكل حراما، فمُنِعَ الإجابة، واستُغْرِب أن يجاب له.
وقد جاء -أيضا- في بعض الآثار الإلهية أن موسى -عليه السلام- طلب من ربه أن يجيب لقومه دعاءهم، فقال: يا موسى، إنهم يرفعون أيديهم، وقد سفكوا بها الدم الحرام، وأكلوا بها الحرام، واستعملوها في حرام، فكيف يجابون؟
وهذا لا شك أنه مما يخيف المؤمن؛ لأن حاجته للدعاء أعظم حاجة، فدل هذا على أن إطابة المطعم من أعظم أسباب إجابة الدعاء، وأنه إذا تخلف هذا السبب -ولو وُجدت الأسباب الأخر- فإنها لا تجاب الدعوة غالبا لقوله: ﴿فأنى يستجاب لذلك﴾.
هذا الحديث دَلَّنَا في آخره على آداب من آداب الدعاء، فذكر منها السفر -يعني من أسباب إجابة الدعاء- فالسفر يُتَحَرَّى فيه الدعاء، والإتيان للدعاء بتذلل واستكانة في الظاهر والباطن، هذا -أيضا- من أسباب إجابة الدعاء، ورفع اليدين إلى السماء في الدعاء، هذا أيضا من أسباب إجابة الدعاء، ورفع اليدين إلى السماء له ثلاث صفات في ثلاثة أحوال دلت عليها السنة:
أما الأول : فهو بالنسبة للخطيب القائم، فإنه إذا دعا يشير بإصْبِعِه فقط، بإصبعه السبابة، وهذا دليل دعائه وتوحيده، ولا يُشْرع له أن يرفع يديه إذا خطب قائما على المنبر أو على غيره، إلا إذا استسقى، فإنه يرفع يديه، ويرفع الناس معه أيديهم، كما جاء في حديث أنس وغيره في البخاري والنسائى وغيرهما، هذه الحالة الأولى، رفع اليدين بالاكتفاء برفع الإصبع.
والثانى: أن يرفع يديه إلى السماء رفعا شديدا، بحيث يُرَى بياض الإبطين، يعني شديد جدا هكذا، وهذا إنما يكون في الاستسقاء، وفي الأمر الذي يصيب المرء معه كرب شديد، بما فيه استجارة عظيمة، وكرب شديد، فهذا يرفع يديه إلى السماء بشدة، وهذه لها صفتان: إما أن تكون اليدان بطنهما إلى السماء، وإما أن تكون اليدان ظهرهما إلى السماء، ورد هذا عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وورد هذا، وتفاصيل هذا -يعني- تحتاج إلى وقت.
الثالث: أن يرفع يديه مبسوطة الكفين إلى الصدر، يعني: إلى موازاة ثديي الرجل والمرء، وهذا هو أغلب دعاء النبي -عليه الصلاة والسلام-، بل كان دعاؤه في عرفه هكذا، يرفع يديه إلى الثديين، ويمدهما كهيئة المستطعم، لا يجعلهما إلى الوجه هكذا، ولا بعيدة عنه بحيث ما تكون إلى الثديين، بل يبسطها كهيئة المستطعم المسكين، يعني: كهيئة المسكين الذي يريد أن يُعْطَى شيئا في يديه.
وقد ثبت بالسنن من حديث سلمان الفارسي -رضي الله عنه- أن النبي -ﷺ- قال: ﴿إن الله حَييٌّ كريم، يستحيي من عبده أن يمد إليه يديه، يطلب فيها خيرا، فيردهما صِفْرا خائبتين﴾.
وهذا من أعظم الآداب، فإذن نخلص من ذلك إلى أن آداب الدعاء كثيرة، وهذا مثل قاله -عليه الصلاة والسلام- يعني مثل أثر الحلال الطيب في العبادة ذكر الدعاء، كذلك له أثر في الصلاة،، له أثر في العبادات، في الذكر، إلى آخره.
فالله -جل وعلا- لا يقبل إلا طيبا، فمن أكل حراما فيتحرك بجسده في حرام، فقد تجزئه صلاته، لكن لا يكون بتحركه في بدنه بحرام مرضيا عند الله -جل وعلا-، ولو كانت صلاته خاشعة؛ بل أعظم ما يُبَرّ به البدن أن يكون البدن طيبا بالأكل، فلا يأكل إلا ما يعلم أنه حلال، بما يعلم أنه طيب، فهذا له أثر في رضا الله -جل وعلا- عن العبد، وقبوله لصلاته وصيامه، وقبوله لأعماله كلها. قوله في آخره: ﴿فأنى يستجاب لذلك﴾ "أنى يستجاب لذلك": يعني عجيب وبعيد أن يستجاب له، وقد يستجاب له، قد يستجاب له لعارض آخر،، صادفه اضطرار، وشدة إلحاح، وحاجة ماسة، فهذه يُعْطَى معها حتى الكافر ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾.
فالمشرك قد يستجاب له، وكذلك المؤمن العاصي الذي أكل الحرام قد يستجاب له، لكن في حالات قليلة، وذلك إذا كان معها حالة اضطرار، أو شفع له غيره، وكان مع مُجاب الدعوة فأَمَّنَ عليه، أو ما شابه ذلك من الاستثناءات التي ذكرها أهل العلم.
الشيخ ابن العثيمين
﴿إِنَّ اللهَ تَعَالَى طَيِّبٌ﴾ كلمة طيب بمعنى طاهر منزّه عن النقائص، لايعتريه الخبث بأي حال من الأحوال، لأن ضد الطيب هو الخبيث، كما قال الله عزّ وجل: ﴿قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ﴾ (المائدة: من الآية 100) ، وقال: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَات﴾(النور: من الآية 26) ومعنى هذا أنه لايلحقه جل وعلا شيء من العيب والنقص. فهو عزّ وجل طيب في ذاته، وفي أسمائه، وفي صفاته، وفي أحكامه، وفي أفعاله، وفي كل ما يصدر منه، وليس فيها رديء بأي وجه.
﴿لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبَاً﴾ فهو سبحانه وتعالى، لا يقبل إلا الطيب من الأقوال، والأعمال وغيرها، وكل رديء فهو مردودٌ عند الله عزّ وجل، فلا يقبل الله إلا الطيب، ومن ذلك الصدقة بالمال الخبيث لايقبلها الله عزّ وجل، لأنه لايقبل إلا طيباً، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: ﴿مَنْ تَصَدَّقَ بِعِدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ طَيِّبٍ وَلاَ يَقْبَلُ اللهَ إِلاَّ الطَّيِّبَ فَإنَّ اللهَ تَعَالَى يَأْخُذُهَا بِيَمِيْنِهِ يُرَبِّيها كما يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُوْنَ مِثْلَ الجَبَلِ﴾.
فالطّيب من الأعمال: ما كان خالصاً لله، موافقاً للشريعة.
والطيب من الأموال: ما اكتسب عن طريق حلال، وأما ما اكتسب عن طريق محرّم فإنه خبيث.
﴿وَأَنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤمِنِينَ بمَا أَمَرَ بِهِ المُرْسَلِيْنَ﴾ تَعْلَيةً لشأن المؤمنين، وأنهم أهلٌ أن يوجّه إليهم ما أمر به الرسل، فقال عزّ وجل في أمر المرسلين: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً﴾ (المؤمنون: من الآية 51) فأمر الرسل أن يأكلوا من الطيبات وهي التي أحلها الله عزّ وجل، واكتسبت عن طريق شرعي. فإن لم يحلّها الله كالخمر فإنه لايؤكل، وإن أحلَّه الله ولكن اكتسب عن طريق محرّم فإنه لايؤكل، وأضرب لذلك مثَلين:
الأول: رجل أكل من شاة ميتة، فهذا لم يأكل من الطيبات، لأن الله تعالى حرّم أكل الميتة. وهذا محرّم لذاته.
الثاني: رجل غصب شاة وذبحها وأكل منها، فحكمها أنها ليست بطيبة وهي محرّمة لكسبها.
﴿وَاعْمَلُوْا صَالحَاً﴾ أي اعملوا عملاً صالحاً.
فأمرهم بالأكل الذي به قوام البدن، ثم أمرهم بالعمل الذي يكون نتيجة للأكل، لكنه قال: وَاعْمَلُوا صَالِحَاً وصالح العمل هو ما جمع بين: الإخلاص والمتابعة.
ولهذا روي عن بعض السلف أنه قال: العمل الصالح ماكان خالصاً صواباً. أي خالصاً لله صواباً على شريعة الله.
وقال تعالى في أمر المؤمنين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ (البقرة: من الآية172) كما قال للرسل: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ فأمر المؤمنين بما أمر به المرسلين.
إذاً نقول: المؤمنون مأمورون بالأكل من الطيبات، والمرسلون كذلك مأمورون بالأكل من الطيبات.
﴿ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيْلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ ...﴾ يعني ضرب النبي ﷺ مثلاً لهذا الرجل: ﴿يُطِيْلُ السَّفَرَ﴾ والسفر من أسباب إجابة الدعاء، ولاسيما إذا أطاله.
﴿أَشْعَث أَغْبَرَ﴾ يعني أشعث في شعره أغبر من التراب، أي أنه لا يهتم بنفسه بل أهم شيء عنده الدعاء.
﴿يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء﴾ ومد اليدين إلى السماء من أسباب إجابة الدعاء، كما جاء في الحديث: ﴿إنَّ اللهَ حَيِيٌّ كَرِيْمٌ يَسْتَحِييْ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفعَ يَديْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرَاً﴾.
﴿يَا رَبّ يَا رَبّ﴾ نداء بوصف الربوبية، لأن ذلك وسيلة لإجابة الدعاء، إذ إن إجابة الدعاء من مقتضيات الربوبية.
﴿وَ مَطْعَمُهُ حَرَامٌ﴾ يعني طعامه الذي يأكله حرام، أي حرام لذاته أولكسبه.
﴿وَمَشرَبُهُ حَرَامٌ﴾ يعني شربه الذي يشربه حرام، إما لذاته أو لكسبه.
﴿وغُذِيَ بالحَرَامِ﴾ يعني أنه تغذّى بالحرام الحاصل من فعل غيره.
﴿فَأَنَّى﴾ اسم استفهام، والمراد به الاستبعاد، يعني يبعد أن يستجاب لهذا، مع أن أسباب الإجابة موجودة.
وهذا للتحذير من أكل الحرام، وشربه، ولبسه، والتغذّي به.
من فوائد هذا الحديث:
1- أن من أسماء الله تعالى الطيّب، لقوله: ﴿إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ﴾ وهذا يشمل طيب ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه.
فأسماؤه كلّها حسنى، ولا يوجد في أ سماء الله ما يكون فيه النقص لاحقيقة ولافرضاً، فكلّ أسماء الله تعالى ليس فيها نقصٌ بوجه من الوجوه، لأن الله تعالى قال: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ (لأعراف: من الآية 180) والحسنى اسم تفضيل، يقابلها في المذكر: الأحسن.
ولذلك لاتجد في أسماء الله ما يحتمل النقص أبداً، ولهذا باب الصفات أوسع من باب الأسماء، لأن كل اسم متضمن لصفة، وأفعاله لامنتهى لها، كما أن أقواله لامنتهى لها، ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾ [لقمان: 27] فمن صفات الله المجيء، والإتيان والبطش كما قال تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ (الفجر: من الآية 22) وقال: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ (البروج: 12)
فنصف الله تعالى بهذه الصفات على الوجه الوارد، ولانسمّيه بها، فلا نقول من أسمائه: الجائي والممسك والباطش. وإن كنا نخبر بذلك عنه سبحانه ونصفه به
وهو سبحانه وتعالى طيب في صفاته: فكل صفات الله تعالى طيبة ليس فيها نقص بوجه من الوجوه، فمثلاً:
القدرة والسمع، والبصر، والتكلم، كل هذه صفات طيبة يتصف الله تعالى بها. وهناك من الصفات ما تكون كمالاً في حال ونقصاً في حال، وهذه الصفات لاتكون جائزة في حق الله ولا ممتنعة على سبيل الإطلاق، فلا تثبت له سبحانه إثباتاً مطلقاً، ولا تنفى عنه نفياً مطلقاً، بل لابد من التفصيل: فتجوز في الحال التي تكون كمالاً، وتمنع في الحال التي تكون نقصاً، وذلك كالمكر، والكيد، والخداع ونحوها، فهذه الصفات تكون كمالاً إذا كانت في مقابلة من يعاملون الفاعل بمثلها، لأنها حينئذٍ تدل على أن فاعلها قادر على مقابلة عدوه بمثل فعله أو أشد، وتكون نقصاً في غير هذه الحال، ولهذا لم يذكرها الله من صفاته على سبيل الإطلاق، وإنما ذكرها في مقابلة من يعاملونه ورسله بمثلها، كقوله تعالى: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (لأنفال: من الآية 30) و ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً* وَأَكِيدُ كَيْداً﴾ (الطارق: 15).
وأما الخيانة فلا يوصف الله بها، لأنها نقص بكل حال، فلا يوصف الله تعالى بالخيانة، ويدل لهذا قول الله تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُم﴾ (البقرة: من الآية 9) وقوله: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ (النساء: من الآية 142) فأثبت الخداع لأنه يدل على القوة.
لكن في الخيانة قال الله عزّ وجل: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ﴾ (لأنفال: من الآية 71) ولم يقل: فقد خانوا الله من قبل فخانهم، لأن الخيانة خِدعة في مقام الأمان، وهي صفة ذمّ مطلقاً، وبذا عرف أن القول خان اللهُ من يخون قول منكر فاحش يجب النّهي عنه ووصف ذم لا يوصف الله به.
إذاً صفات الله تعالى كلها طيبة، وقد قال الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ (النحل: من الآية 60) أي الوصف الأعلى من كل وجه.
كذلك أيضاً هو طيبٌ في أفعاله، فأفعال الله تعالى كلها طيبة، لايفعل إلا خيراً، وتقدم لنا الجواب عن قوله في القدر: ﴿خَيْرِهِ وَشَرِّهِ﴾ فأفعاله كلّها خيرٌ وأحكامه كذلك كلّها متضمنة لمصلحة العباد في معاشهم ومعادهم، ولذا فهي طيبة صالحة لكلّ زمان ومكان وحال.
2- كمال الله عزّ وجل في ذاته، وصفاته وأفعاله، وأحكامه.
3- أن الله تعالى غنيّ عن الخلق فلا يقبل إلا الطيب، لقوله: ﴿لا يَقبَلُ إلاَّ طَيِّبَاً﴾ فالعمل الذي فيه شرك لايقبله الله عزّ وجل لأنه ليس بطيب، وكذا التصدّق بالمال المسروق لا يقبله الله لأنه ليس بطيب، والتصدّق بالمحرّم لعينه لا يقبله الله لأنه ليس بطيب.
4- تقسيم الأعمال إلى مقبول ومردود، لقول: ﴿لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبَاً﴾ فنفي القبول يدل على ثبوته فيما إذا كان طيباً، وهذا شيء ظاهر.
ومن ذلك أيضاً قول النبي ﷺ : ﴿لاَ يَقْبَلُ اللهُ صَلاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأ﴾ هذا في العمل المقبول .
ومنها قوله : ﴿مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ﴾ وهذا في العمل المردود.
5- أن الرسل عليهم الصلاة والسلام يؤمرون وينهون، لقوله: ﴿إِنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤمِنينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرسَلِيْنَ﴾ وهو كذلك فالرسل عليهم الصلاة والسلام أكمل العباد عبادة لله عزّ وجل، ولهذا كان النبي ﷺ يقوم في الليل حتى تتورّم قدماه، فقيل له في ذلك:إنه قد غفر الله له ماتقدّم من ذنبه وما تأخّر. فقال: ﴿أَفَلا أَكُوْنُ عَبْدَاً شَكُوْرَاً﴾ صلوات الله وسلامه عليه. وقس حال النبي ﷺ بحالنا اليوم، فالإنسان منا ينام إلى طلوع الفجر مع أن نعم الله علينا لا تحصى، ولقد قام مع النبي ﷺ ثلاثة رجال شبّان وعجزوا أن يلحقوه في تهجّده.
فهذا الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قام مع النبي ﷺ ذات ليلة يتهجّد يقول: فقرأ سورة البقرة فقلت يركع عند المائة فمضى حتى أكملها، فقلت يركع، فشرع في سورة النساء وأكملها، ثم شرع في سورة آل عمران وأكملها، وهو شاب.
وابن عباس رضي الله عنهما قام مع النبي ﷺ ذات ليلة ورأى من تهجّده ما يطول. والحاصل: أن الرسل مأمورون منهيون وأنهم أقوم الناس بعبادة الله عزّ وجل.
6- أن المؤمنين مأمورون منهيون لقوله: ﴿وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرسَلِينَ﴾ وكلما كان الإنسان أقوى إيماناً كان أكثر امتثالاً لأمر الله عزّ وجل، وإذا رأيت من نفسك هبوطاً في امتثال الأوامر فاتّهمها بنقص الإيمان وصحح الوضع قبل أن يستشري هذا المرض فتعجز عن الاستقامة فيما بعد.
7- استعمال ما يشجع على العمل، وجهه: قول النبي ﷺ: ﴿إِنَّ الله أَمَرَ المُؤمنينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرسَلِيْنَ﴾ فإذا علم المؤمن أن هذا من مأمورات المرسلين فإنه يتقوَّى ويتشجّع على الامتثال.
8- الأمر بالأكل من الطيبات للمؤمنين والمرسلين.
ويتفرّع على هذا فائدة: ذم من امتنع عن الطيبات بدون سبب شرعي، فلو أن إنساناً بعد أن منَّ الله على الأمة بالغنى وأنواع الثمار والفواكه قال: أنا لن آكل هذه تورّعاً لا لعدم الرّغبة، فإنه قد أخطأ وعمله خلاف عمل السلف الصالح، لأن السلف الصالح لما فتحوا البلاد صاروا يأكلون ويشربون أكلاً وشرباً لايعرفونه في عهد النبي ﷺ ، فمن امتنع عن الطيبات بغير سبب شرعي فهو مذموم رادٌّ لمنّة الله عزّ وجل عليه، ومن المعلوم بالعقل أن ردّ منّة ذي المنّة إساءة أدب، فلو أن رجلاً من الكرماء أهدى إليك هدية ورددتها فإن هذا يعتبر سوء خلق وأدب، ولهذا كان النبي ﷺ لا يرد الهدية، ولو كانت الهدية شيئاً قليلاً فإنه يقبلها ويثيب عليها.
والخلاصة: أن الامتناع عن الطيّبات لغير سبب شرعي مذموم.
9- أنه يجب شكر نعمة الله عزّ وجل بالعمل الصالح لقوله تعالى: ﴿كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً﴾ (المؤمنون: من الآية 51) وفي المؤمنين قال: ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّه﴾ (البقرة: من الآية 172).
ويتفرّع من الجمع بين الآيتين: أن الشكر هو العمل الصالح، لقول النبي ﷺ : ﴿إِنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤمِنِيْنَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ﴾ والذي أمر به المرسلين شيئان:
الأول: الأكل من الطيبات .
والثاني: العمل الصالح.
فليس كل من قال: الشكر لله، والحمد لله يكون شاكراً حتى يعمل صالحاً، ولهذا قال بعض الفقهاء: الشكر طاعة المنعم، أي القيام بطاعته، وهذا معنى قوله ﴿وَاعْمَلُوا صَالِحاً﴾ (المؤمنون 51)
10- توجيه الأمر لمن هومتّصف به، لقوله: وَاعْملُوا صَالِحَاً فوجه الأمر بالعمل الصالح للمرسلين مع أنهم يعملون الصالحات ولا شك في ذلك، وهذا كقوله تعالى لرسوله محمد : ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾ (الأحزاب: من الآية 1) وقوله: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾ [الأحزاب: 37] ففي هذه الآيات أمر الله رسوله بالتقوى مع أنه أتقى الناس لله عزّ وجل والواحد منا -ونحن مفرطون - إذا قيل له: اتق الله.انتفخ غضباً، ولو قيل له: الله يهديك، لقال:وما الذي أنا واقع فيه، ورسول الله يخاطبه ربه بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾ [الأحزاب: 1].
فالرسل عليهم الصلاة والسلام مأمورون بالعمل الصالح وإن كانوا يعملونه تثبيتاً لهم على ماهم عليه ليستمرّوا عليه.
11- تحريم الخبائث، لقوله: ﴿مِنْ الطَيِّبَاتِ﴾ وقوله في المؤمنين: ﴿مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة:172].
* لكن ماهو مدار الخبث: أعلى ما يستخبثه الناس وكل إنسان بطبيعته أو أن نقول: الخبيث ما استخبثه الشرع.
والجواب: الخبيث ما استخبثه الشرع، لأنه لايمكن أن يرد هذا إلى عقول الناس، لأنه يفتح من الشر والخلاف ما هو معلوم، ولنضرب لهذا مثالاً: بعض الناس يستقذر ويستخبث أكل الجراد. ومن الناس من يستخبث الضب، وهما حلال، وعلى هذا فالاستخباث ليس مرجعه للكراهة الطبيعية، لأن كل إنسان يكره ما لا يعتاد أكله.
وعلى هذا فالمرجع في كون الشيء طيباً أو خبيثاً إلى الشرع لا إلى أذواق الناس، فبعض العرب كما قيل عنهم: يأكل كل ماهب ودب إلاالخنفساء أو شيءٍ مثل الخنفساء، والباقي كله يؤكل.
12- استبعاد إجابة آكل الحرام لو عمل من أسباب الإجابة ما عمل، لأن النبي ﷺ ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر.... وقال بعد ذلك أَنَّى يُسْتَجَابُ لذلك وهذا استفهام استبعاد.
لكن هل هذا يعني أنه يستحيل أن يجاب؟
والجواب: لا، لأن الإنسان قد يستبعد شيئاً ولكن يقع، وإلا فإن النبي ﷺ استبعد هذا تنفيراً عن أكل الحرام.
13- أن السفر من أسباب إجابة الدعاء، وجه هذا: أنه وردت أحاديث في أن المسافر لاتردّ دعوته، ثم إن ذِكْرَ الرسول ﷺ السفر يدل على أن للسفر تأثيراً في إجابة الدعاء، ولاسيما إذا أطال السفر وبعد عن الوطن فإن قلبه يكون أشد انكساراً ولجوءاً إلى الله عزّ وجل.
14- أن الشعث والغبرة من أسباب إجابة الدعاء.
لكن هذا قد يرد عليه أن التورع عن المباحات بدون سبب شرعي مذموم، فيقال المراد بالحديث: أن هذا الرجل يهتم بأمور الآخرة أكثر من اهتمامه بأمور الدنيا.
15- أن رفع اليدين في الدعاء من أسباب الإجابة.
ويكون الرفع بأن ترفع يديك تضم بعضهما إلى بعض على حذاء الثُّندُؤتين أي أعلى الصدر، ودعاء الابتهال ترفع أكثر من هذا، حتى إن النبي ﷺ في دعاء الاستسقاء رفع يديه كثيراً حتى ظن الظانّ أن ظهورهما نحو السماء من شدة الرفع، وكلما بالغت في الابتهال فبالغ في الرفع.
وهنا مسألة: هل رفع اليدين مشروع في كل دعاء؟
الجواب: هذا على ثلاثة أقسام:القسم الأول: ما ورد فيه رفع اليدين. والقسم الثاني: ماورد فيه عدم الرفع. والقسم الثالث: مالم يرد فيه شيء.
فمثال القسم الأول: إذا دعا الخطيب باستسقاء، أو استصحاء فإنه يرفع يديه والمأمومون كذلك، لما رواه البخاري في حديث أنس رضي الله عنه في قصّة الأعرابي الذي طلب من الرسول ﷺ في خطبة الجمعة أن يستسقي فرفع النبي ﷺ يدعو ورفع الناس أيديهم معه يدعون.
ومما جاء في السنة رفع اليدين في القنوت في النوازل أو في الوتر. وكذلك رفع اليدين على الصفا وعلى المروة، وفي عرفة، وما أشبه ذلك فالأمر في هذا واضح.
الثاني: ماورد فيه عدم الرفع كالدعاء حال خطبة الجمعة في غير الاستسقاء والاستصحاء، فلو دعا الخطيب للمؤمنين والمؤمنات أو لنصر المجاهدين في خطبة الجمعة فإنه لايرفع يديه، ولو رفعهما لأنكر عليه، ففي صحيح مسلم عن عمارة بن رؤيبة أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعاً يديه فقال: قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله ما يزيد أن يقول بيده هكذا.وأشار بإصبعه المسبحة، وكذلك رفع اليدين في دعاء الصلاة كالدعاء بين السجدتين، والدعاء بعد التشهّد الأخير ، وما أشبه ذلك، هذا أيضاً أمره ظاهر.
الثالث: ما لم يرد فيه الرفع ولا عدمه: فالأصل الرّفع لأنه من آداب الدعاء ومن أسباب الإجابة، قال النبي ﷺ ﴿إِنَّ اللهَ حَيِيٌّ كَرِيْمٌ يَسْتَحْيِيْ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهَ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرَاً﴾.
لكن هناك أحوال قد يُرَجَّحُ فيها عدم الرّفع وإن لم يرد كالدعاء بين الخطبتين مثلاً، فهنا لا نعلم أن الصحابة كانوا يدعون فيرفعون أيديهم بين الخطبتين، فرفع اليدين في هذه الحال محلّ نظر، فمن رفع على أن الأصل في الدعاء رفع اليدين فلا يُنْكَرُ عليه، ومن لم يرفع بناءً على أن هذا ظاهر عمل الصحابة فلا ينكر عليه، فالأمر في هذا إن شاء الله واسع.
16- أن من أسباب إجابة الدعاء التوسل إلى الله تعالى بالربوبية لقوله: ﴿يَا رَبّ يَا رَبّ﴾ وقد ورد في حديث: أن الإنسان إذا قال: يارب يارب يارب قال الله تعالى: ماذا تريد، أو كلمة نحوها، ثم استجاب له، ولهذا تجد أكثر الأدعية الموجودة في القرآن مصدرة بـ: يارب.
ولما سمع بعض السلف داعياً يقول: ياسيدي، فقال: لاتقل ياسيدي، قل ما قالت الرسل: يارب. وذلك لأن العدول عن الألفاظ الشرعية غلط؛ وإن كان الإنسان يجد أن ذلك أشد تعظيماً.
وهذه بليّة ابتُليَ بها كثير من الناس، تجدهم يأتون بأسجاع كثيرة من الأدعية لا زمام لها، وربما يكون بعضها محذوراً، ويعدلون عن الأدعية الشرعية، ولهذا أوصي بأن لا تعدلوا عن الأدعية الشرعية إلى غيرها، إلامن له حاجة خاصة ، يريد أن يسأل ربه إياها، فهذا شيء آخر، لكن تأتي بأسجاع طويلة عريضة لاأصل لها ولا زمام ، فهذا خلاف ما ينبغي للإنسان إذا دعا الله عزّ وجل.
17- التحذير البالغ من أكل الحرام، لأن أكل الحرام من أسباب ردّ الدعاء وإن توفرت أسباب الإجابة، لقول النبي ﷺ: ﴿فَأنى يُسْتَجَابُ﴾ لذلك هذا مع أن أكل الحرام - والعياذ بالله - سبب لانصراف الإنسان عن القيام بواجب الدين، لأن البدن يكون متغذّياً على شيءٍ فاسد، والمتغذي على فاسد سيؤثر عليه هذا الغذاء. والله المستعان.
الشيخ صالح آل الشيخ
هذا الحديث -أيضا- من الأحاديث التي قيل فيها: إنها أصل من أصول الدين، يعني: أن كثيرا من الأحكام تدور عليها.
وهذا الحديث فيه الأمر بالأكل من الطيب، وأنه سمة المرسلين، وسمة المؤمنين بالمرسلين، وأثر ذلك الأكل الطيب من الحلال على عبادة المرء، وعلى دعائه، وعلى قبول الله -جل وعلا- لعمله، فقَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -ﷺ-: ﴿إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا﴾.
وقوله: ﴿إن الله طيب﴾ يعني: أنه -جل وعلا- منزَّه عن النقائص والعيوب، وأنه -جل وعلا- له أنواع الكمالات في القول والفعل، فكلامه -جل وعلا- أطيب الكلام، وأفعاله -جل وعلا- كلها أفعال خير وحكمة، والشر ليس إلى الله جل وعلا.
فالله -سبحانه- طيب بما يرجع إلى ذاته، وإلى أسمائه، وإلى صفاته -جل وعلا- ومن أوجه كونه طيبا أنه -جل وعلا- هو المستحق للعبادة وحده دونما سواه، وهو المستحق لأنْ يسلم المرء وجهه وقلبه إليه -سبحانه- دونما سواه.
ولكونه -جل وعلا- طيبا لا يقبل إلا طيب، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا﴾.
ومعنى قوله: ﴿لا يقبل﴾ يعني: لا يرضى، ولا يحب إلا الطيب، وأيضا يعني: لا يثيب، ولا يأجر إلا على الطيب؛ فإن كلمة "لا يقبل" هذه -في نظائرها مما جاء في السنة- قد تتوجه إلى إبطال العمل، وقد تتوجه إلى إبطال الثواب، وقد تتوجه إلى إبطال الرضا بالعمل، وهو مستلزِم في الغالب لإبطال الثواب والأجر.
يعني: أن العمل قد يقع مُجْزئًا ولا يكون مقبولا، كما جاء في الحديث: ﴿لا يقبل الله صلاة عبد إذا أبق حتى يرجع﴾.
و ﴿من أتى كاهنا أو عرافا لم تقبل له صلاة أربعين ليلة﴾ وأشباه ذلك.
فتقرر أن كلمة "لا يقبل" هذه تتجه إلى نفي أصل العمل، يعني: إلى إبطاله، كما في قوله: ﴿لا يقبل الله صلاة حائض إلا بالخمار﴾. ﴿لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ﴾.
هذه فيه إبطال العمل إلا بهذا الشرط، وقد تتجه إلى إبطال الرضا به، أو الثواب عليه، فهذه ثلاثة أقسام.
هنا ﴿إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا﴾ تحتمل بحسب العمل، أن يكون المنفي الإجزاء، أو أن يكون المنفي الأجر والثواب، أو أن يكون المنفي الرضا به والمحبة له، يعني: لهذا العبد حين عمل هذا العمل.
فقال: ﴿لا يقبل إلا طيبا﴾ يعني الذي يوصف بأنه مجزئ، وأنه مرضي عنه عند الله -جل وعلا- وأنه يثاب عليه العبد هو الطيب، وأما غير الطيب فليس كذلك، فقد يكون غير مرضي، أو غير مثاب عليه، وقد يكون غير مجزئ أصلا، بحسب تفاصيل ذلك في الفروع الفقهية.
إذا تقرر هذا فقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا: ﴿لا يقبل إلا طيبا﴾ هذا فيه أن الله -جل وعلا- إنما يقبل الطيب على الحصر.
و"الطيب" جاءت النصوص ببيان أن الطيب يرجع إلى الأقوال، وإلى الأعمال، وإلى الاعتقادات. فحصل أن الله -جل وعلا- من آثار أنه طيب أنه لا يقبل من الأقوال إلا الطيب، ولا يقبل من الأعمال إلا الطيب، ولا يقبل من الاعتقادات إلا الطيب. ما هو القول الطيب، والعمل الطيب، والاعتقاد الطيب؟
فسرنا الطيب -أولا- بأنه هو المبرأ من النقائص والعيوب، وكذلك القول والعمل والاعتقاد هو المبرأ من النقص والعيب، يعني: الذي صار بريئا من خلاف الشريعة.
فالطيب هو الذي وُوفِق فيه الشرع، فالقول والطيب هو الذي كان على منهاج الشريعة، والعمل الطيب هو الذي كان على منهاج المصطفى -ﷺ-، والاعتقاد الطيب ما كان عليه الدليل من الكتاب ومن السنة.
فهذا هو الطيب من الأقوال والأعمال والاعتقادات.
وإذا صار قول المرء طيبا فإنه لا يكون خبيثا، والخبيث لا يستوي والطيب، كما في آية "المائدة": ﴿قُلْ لاَ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾.
وكذلك في الأعمال والاعتقادات، فنتج من ذلك أن العبد -إذا تحقق بالطِيبِ في قوله وعمله واعتقاده- صار طيبا في ذاته، والطيب له دار الطيبين، كما قال -جل وعلا-: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ﴾.
ومن صار عنده خبث في بدنه وروحه، نتيجة لخبث قوله، أو خبث عمله، أو خبث اعتقاد، ولم يغفر الله -جل وعلا- له، فإنه يُطَهَّر بالنار حتى يدخل الجنة طيبا؛ لأن الجنة طيبة لا يصلح لها إلا الطيب.
وهذا -في الحقيقة- فيه تحذير شديد، ووعيد وتخويف من كل قول أو عمل أو اعتقاد خبيث، يعني: لم يكن على وفق الشريعة، فالطيب هو المبرأ من النقص، وأعظم النقص في العمل، أو من أعظم ما ينقص العمل أن يتوجه به إلى غير الله -جل وعلا-، وأن تُقْصَد به الدنيا.
فتَحَصَّل هنا أن قوله: ﴿إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا﴾ يعني: لا يقبل من العمل والقول والاعتقاد إلا ما كان على وفق الشريعة، وأُرِيدَ به وجهه -جل وعلا-، هذا حاصل تعريف الطيب؛ لأن العلماء نظروا في كلمة "طيب" في وصف الله -جل وعلا- وفيما ما يقابلها، وتنوعت أقوالهم، والذي يحقق المقام هو ما ذكرته لك.
قال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين﴾.
المرسلون أُمِرُوا وأتباع المرسلين -الذين هم المؤمنون- أُمروا -أيضا- بما أُمر به المرسلون، فقال -جل وعلا- في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾ في آية "المؤمنون".
وقال -جل وعلا- في وصف المؤمنين، أو في أمره للمؤمنين في آية "البقرة": ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾.
فأمر المؤمنين بأن يأكلوا من الطيبات، وأمر المرسلين بأن يأكلوا من الطيبات، وأمر الجميع بأن يعملوا صالحا، وهذا يدل على أثر أكل الطيبات في العمل الصالح؛ لأن الاقتران في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ﴾لأن الاقتران يدل على أن بينهما صلة، والصلة ما بين أكل الطيب والعمل الصالح هي تأثير الأكل الطيب في العمل الصالح.
ولهذا قال كثير من أهل العلم: إن العمل لا يكون صالحا حتى يكون من مال طيب. فالصلاة لا تكون صلاة صالحة مقبولة حتى يكون فيها الطيب من الأقوال، ويكون لباس المرء طيبا، ويكون تخلص من الخبيث من النجاسات وغيرها، إلى آخر ذلك.
والزكاة لا تكون مقبولة حتى تكون طيبة، بأن تكون عن نفس طيبة، وألا يراد بها رياء ولا سمعة إلى آخر ذلك.
والحج كذلك؛ فمن حج من مال حرام لم يُقْبَل حجه؛ لأن الله -جل وعلا- لا يقبل إلا الطيب.
ثم ذكر -عليه الصلاة والسلام- مثالا من أمثلة تأثير الأكل الطيب في بعض الأعمال الصالحة، وأثر أكل الحرام في بعض الأعمال الصالحة، فقال أبو هريرة -رضي الله عنه-، ثم ذكر -يعني النبي عليه الصلاة والسلام-: ﴿الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا ربِ يا ربِ، أو يا رب يا رب. ومطعمه حرام، ومشربه حرام، ومأكله حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك﴾.
قال: ﴿ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء﴾.
ذكر هذه الصفات؛ لأن هذه الصفات مظنة الإجابة؛ فالسفر من أسباب إجابة الدعاء.
قد جاء في الحديث الحسن أن النبي -ﷺ- قال: ﴿ثلاث يستجاب لهم﴾ وذكر منهم المسافر. فالسفر من أسباب الإجابة، وهذا قد تعرَّض لسبب من أسباب الإجابة وهو السفر.
ووصفه بقوله: ﴿يطيل السفر﴾ وإطالة السفر تعطي كثيرا من الاغتراب، وفيه انكسار النفس، وحاجة النفس إلى الله -جل وعلا- إذا كان السفر للحاجة، قد يطيل السفر -يعني من حاجته- يحتاج إلى السفر في معيشته، يحتاج إلى السفر في أموره، وإلا فإن المرء لا يختار إطالة السفر إلا لحاجة.
قال: ﴿يطيل السفر أشعث أغبر﴾ وهاتان الصفتان تدلان على ذلته، وعلى استكانته، وهذه يحبها الله -جل وعلا-، وكان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لبس شيئا خَلِقا، ولم يتزين، وإنما صار أشعث، ثم توجه في خلوة، ودعا الله -جل وعلا- وقال: إنه أقرب للإجابة؛ لما في هذه الصفة من انتفاء الكبر، وقرب التذلل والاستكانة، وهذه يكون معها الاضطرار والرغب، وعدم الاستغناء.
فذكر -عليه الصلاة والسلام- هذه الصفة، فقال: ﴿أشعث أغبر يمدُّ يديه إلى السماء﴾ وهذه صفة -أيضا- ثالثة، في أنه يمد يديه إلى السماء في رغب أن يكون أتى بما يُجَابُ معه دعاء، ورفع اليدين في الدعاء سنة، كما سيأتي بيان بعض ذلك.
يقول: ﴿يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب﴾ وذكره هنا "يا رب" مكررة، ويجوز أن تقول: يا ربِ على حذف الياء، أو يا ربُ على القطع، في تكريرها ذكر لصفة الربوبية، ومعلوم أن إجابة الدعاء من آثار ربوبية الله -جل وعلا- على خلقه.
ولهذا لم تكن إجابة الدعاء للمؤمن دون الكافر، بل قد يجاب للكافر، ويجاب للمارد، وقد أجيب لإبليس؛ وذلك لأن إجابة الدعاء من آثار الربوبية، كرزق الله -جل وعلا- لعباده، وكإعطاءه لهم، وكإصحاحه إياهم، وإمدادهم بالمطر، وأشباه ذلك مما قد يحتاجون إليه. فقد يدعو النصراني ويستجاب له، وقد يدعو المشرك ويستجاب له، إلى آخر ذلك.
وتكون هنا الاستجابة لا لأنه متأهل لها؛ ولكن لأنه قام بقلبه الاضطرار والاحتياج لربه -جل وعلا-، والربوبية عامة للمؤمن وللكافر.
ذكر هنا: "يا رب، يا رب" وهذا من آداب الدعاء العام كما سيأتي، وذكر هذا بلفظ الربوبية -أيضا- من أسباب إجابة الدعاء.
قال في وصف حاله -مع أنه تعرض لهذه الأنواع مما يجاب معه الدعاء- قال في وصف حاله: ﴿مطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِي﴾-بالتخفيف، فغلط من يقولها بالتشديد غُذِّيَ، لا، هي غُذِيَ من الغذاء، ﴿غذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك﴾. يعني: فبعيد ويتعجب أن يستجاب لذلك وهو على هذه الحال. فمن كان ذا مطعم حرام، وذا مشرب حرام، وذا ملبس حرام، وغذي بالحرام، فهذه يستبعد أن يستجاب له.
وقد جاء في معجم الطبرانى بإسناد ضعيف: ﴿أن النبي -ﷺ- قال له سعد بن أبي وقاص: يا رسول الله، ادع الله لى أن أكون مجاب الدعاء. قال: يا سعد، أَطِبْ مطعمك تكن مستجاب الدعوة﴾.
وهذا في معنى هذا الحديث، فإن إطابة المطعم من أسباب الإجابة، فهذا تعرض لأنواع كثيرة من أسباب الإجابة، ولكنه لم يأكل طيبا؛ بل أكل حراما، فمُنِعَ الإجابة، واستُغْرِب أن يجاب له.
وقد جاء -أيضا- في بعض الآثار الإلهية أن موسى -عليه السلام- طلب من ربه أن يجيب لقومه دعاءهم، فقال: يا موسى، إنهم يرفعون أيديهم، وقد سفكوا بها الدم الحرام، وأكلوا بها الحرام، واستعملوها في حرام، فكيف يجابون؟
وهذا لا شك أنه مما يخيف المؤمن؛ لأن حاجته للدعاء أعظم حاجة، فدل هذا على أن إطابة المطعم من أعظم أسباب إجابة الدعاء، وأنه إذا تخلف هذا السبب -ولو وُجدت الأسباب الأخر- فإنها لا تجاب الدعوة غالبا لقوله: ﴿فأنى يستجاب لذلك﴾.
هذا الحديث دَلَّنَا في آخره على آداب من آداب الدعاء، فذكر منها السفر -يعني من أسباب إجابة الدعاء- فالسفر يُتَحَرَّى فيه الدعاء، والإتيان للدعاء بتذلل واستكانة في الظاهر والباطن، هذا -أيضا- من أسباب إجابة الدعاء، ورفع اليدين إلى السماء في الدعاء، هذا أيضا من أسباب إجابة الدعاء، ورفع اليدين إلى السماء له ثلاث صفات في ثلاثة أحوال دلت عليها السنة:
أما الأول : فهو بالنسبة للخطيب القائم، فإنه إذا دعا يشير بإصْبِعِه فقط، بإصبعه السبابة، وهذا دليل دعائه وتوحيده، ولا يُشْرع له أن يرفع يديه إذا خطب قائما على المنبر أو على غيره، إلا إذا استسقى، فإنه يرفع يديه، ويرفع الناس معه أيديهم، كما جاء في حديث أنس وغيره في البخاري والنسائى وغيرهما، هذه الحالة الأولى، رفع اليدين بالاكتفاء برفع الإصبع.
والثانى: أن يرفع يديه إلى السماء رفعا شديدا، بحيث يُرَى بياض الإبطين، يعني شديد جدا هكذا، وهذا إنما يكون في الاستسقاء، وفي الأمر الذي يصيب المرء معه كرب شديد، بما فيه استجارة عظيمة، وكرب شديد، فهذا يرفع يديه إلى السماء بشدة، وهذه لها صفتان: إما أن تكون اليدان بطنهما إلى السماء، وإما أن تكون اليدان ظهرهما إلى السماء، ورد هذا عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وورد هذا، وتفاصيل هذا -يعني- تحتاج إلى وقت.
الثالث: أن يرفع يديه مبسوطة الكفين إلى الصدر، يعني: إلى موازاة ثديي الرجل والمرء، وهذا هو أغلب دعاء النبي -عليه الصلاة والسلام-، بل كان دعاؤه في عرفه هكذا، يرفع يديه إلى الثديين، ويمدهما كهيئة المستطعم، لا يجعلهما إلى الوجه هكذا، ولا بعيدة عنه بحيث ما تكون إلى الثديين، بل يبسطها كهيئة المستطعم المسكين، يعني: كهيئة المسكين الذي يريد أن يُعْطَى شيئا في يديه.
وقد ثبت بالسنن من حديث سلمان الفارسي -رضي الله عنه- أن النبي -ﷺ- قال: ﴿إن الله حَييٌّ كريم، يستحيي من عبده أن يمد إليه يديه، يطلب فيها خيرا، فيردهما صِفْرا خائبتين﴾.
وهذا من أعظم الآداب، فإذن نخلص من ذلك إلى أن آداب الدعاء كثيرة، وهذا مثل قاله -عليه الصلاة والسلام- يعني مثل أثر الحلال الطيب في العبادة ذكر الدعاء، كذلك له أثر في الصلاة،، له أثر في العبادات، في الذكر، إلى آخره.
فالله -جل وعلا- لا يقبل إلا طيبا، فمن أكل حراما فيتحرك بجسده في حرام، فقد تجزئه صلاته، لكن لا يكون بتحركه في بدنه بحرام مرضيا عند الله -جل وعلا-، ولو كانت صلاته خاشعة؛ بل أعظم ما يُبَرّ به البدن أن يكون البدن طيبا بالأكل، فلا يأكل إلا ما يعلم أنه حلال، بما يعلم أنه طيب، فهذا له أثر في رضا الله -جل وعلا- عن العبد، وقبوله لصلاته وصيامه، وقبوله لأعماله كلها. قوله في آخره: ﴿فأنى يستجاب لذلك﴾ "أنى يستجاب لذلك": يعني عجيب وبعيد أن يستجاب له، وقد يستجاب له، قد يستجاب له لعارض آخر،، صادفه اضطرار، وشدة إلحاح، وحاجة ماسة، فهذه يُعْطَى معها حتى الكافر ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾.
فالمشرك قد يستجاب له، وكذلك المؤمن العاصي الذي أكل الحرام قد يستجاب له، لكن في حالات قليلة، وذلك إذا كان معها حالة اضطرار، أو شفع له غيره، وكان مع مُجاب الدعوة فأَمَّنَ عليه، أو ما شابه ذلك من الاستثناءات التي ذكرها أهل العلم.