الشيخ صالح آل الشيخ
هذا الحديث -أيضا- من الأحاديث الأربعة التي قال فيها طائفة من أهل العلم -منهم ابن أبي زيد القيرواني المالكي المعروف-: إنه أحد أحاديث أربعة هي أصول الأدب في السنة؛ فهذا الحديث أصل من الأصول في الآداب، كما ذكرنا لكم في أول هذه الدروس أن النووي -رحمه الله- اختار هذه الأحاديث كلية في أبواب مختلفة، في كل باب أصل من الأصول فيه.
قال هنا، قال رسول الله -ﷺ-: ﴿من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه﴾.
﴿من حسن إسلام المرء﴾ "من" هنا: تبعيضية، يعني: ترك ما لا يعني، وبعض ما يحصل به إحسان الإسلام.
﴿من حسن إسلام المرء﴾ من هنا تبعيضية، يعني: أن ترك ما لا يعني: هو بعض ما يحصل به إحسان الإسلام، وحسن الإسلام يعني: ﴿من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه﴾ بعض ما به حُسْن إسلام المرء ترك ما لا يعني، وهذا ظاهر من اللغة.
وقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا: ﴿حسن إسلام المرء﴾ حسن الإسلام جاء هذا اللفظ ومشتقاته في أحاديث متعددة منها -مثلا- قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ﴿إذا أحسن أحدكم إسلامه كان له بكل حسنة يعملها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا عمل بالسيئة كانت السيئة بمثلها﴾ وله ألفاظ أُخَر، فدل هذا وغيره على أن إحسان الإسلام مرتبة عظيمة، وفيها فضل عظيم.
وإحسان الإسلام مما اختلف فيه أهل العلم: -
فقالت طائفة: إحسان الإسلام: أن يأتي بالواجبات، وأن ينتهي عن المحرمات، وهي مرتبة المقتصدين، يعني: الذين جاءوا بقول الله -جل وعلا-: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ فالمقتصد هو: الذي يأتي بالواجبات، ويترك المحرمات، ويجعل مع الواجبات بعض النوافل، فقالوا: المحسن لإسلامه هم أهل هذه الصفة، يعني: الذين يأتون بالواجبات وبعض النوافل، ويَدَعون المحرمات جميعا، فمن كان كذلك فقد حسن إسلامه.
والقول الثاني: إن إحسان الإسلام معناه: أن يكون على رتبة الإحسان في العبادة التي جاءت في حديث جبريل المعروف ﴿قال: فأخبرني عن الإحسان قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك﴾ فالذي يحسن إسلامه هو الذي وصل إلى مرتبة الإحسان، إما على درجتها الأولى: درجة المراقبة، أو على كمالها وهو: درجة المشاهدة.
وهذا القول الثاني ظاهر في الكمال، ولكنه ليس ظاهرا في كل المراتب؛ ولهذا قالت طائفة -أيضا- من أهل العلم: إن إحسان الإسلام ليس مرتبة واحدة بل الناس مختلفون فيها، فبقدر إحسان الإسلام يكون له الفضل والثواب الذي أعطيه من أحسن إسلامه.
فمثلا: في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿إذا أحسن أحدكم إسلامه كان له بكل حسنة يعملها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف﴾ قالوا هنا: عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، عشر حسنات لكل من أحسن الإسلام، يعني: لمن كان له الإسلام، وحسن منه فإنه يبدأ من عشر أضعاف للحسنة يعني تكتب له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، هذا بحسب درجته في إحسان الإسلام.
فدل تنوع الثواب على تنوع الإحسان، يعني أن درجة الإحسان تختلف، وأهل إحسان الإسلام فيه متفاوتون لتفاوت الفضل والمرتبة والأجر على ذلك فقال: "إلى سبعمائة ضعف"، فمن أسباب مزيدها إلى سبعمائة ضعف أن يكون إحسانه للإسلام عظيما؛ ولهذا قال ابن عباس وغيره من المفسرين: إن الحسنة بعشر أمثالها لكل أحد. يعني: لكل مسلم في قوله -جل وعلا- في آخر الأنعام: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ قال: هذا لكل أحد، أما من أحسن إسلامه فإنه في قول الله -جل وعلا-: ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ وهذا تقرير صحيح، فإن الناس في إحسان الإسلام مراتب. وهذه المسألة مشكلة، يعني: لو راجعت في الشروح، وكلام أهل العلم مشكلة، لكن كلام أهل التحقيق الذين قرروا هذه المسألة بينوا أن إحسان الإسلام له مراتب، يعني: ليس مرتبة واحدة، وأن أهل المعصية، يعني: من ظلم نفسه، ليس من أهل إحسان الإسلام فقال: ﴿من حسن إسلام المرء﴾ يعني: هذا الفعل، وهو ترك ما لا يعني من حسن إسلامه، وهذا ظاهر في المرتبتين جميعا، فإن الذي يأتي الطاعات، ويبتعد عن المحرمات فإنه منشغل بطاعة ربه عن أن يتكلف ما لا يعنيه. وأما أهل الإحسان في مقام المراقبة، أو ما هو أعظم منها، وهو مشاهدة آثار العصمة والصفات في خليقة الله -جل وعلا- فهؤلاء منشغلون بإحسان العمل الظاهر والباطن عن أن يكون لهم هم فيما لا يعنيهم.
إذا تقرر هذا فما معنى قوله: ﴿ما لا يعنيه﴾؟ ما هو الذي يعني والذي لا يعني ؟ العناية في اللغة: شدة الاهتمام بالشيء، أو الشيء المهم الذي يُهْتَم به، والذي لا يعني وليس لي به عناية هو الشيء الذي لا ينفع المعتني به، يعني: لا ينفع المتوجه إليه، وليس له به مصلحة، ومعلوم أن أمور الشرع المسلم له بها عناية، وأن فقه الكتاب والسنة له به لكل مسلم به عناية، يعني: فيشتد اهتمامه بها.
فإذاً الاهتمام بما فيه فقه للنصوص هذا مما يدل على حسن إسلام المرء، قال: ﴿من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه﴾ بالمفهوم أن من حسن إسلام المرء الاهتمام بما يعنيه، ما لا يعني المرء المسلم من الأقوال التي ليس لها نفع له في دينه، ولا في دنياه أو في آخرته أو في أولاه، فإن تركها من حسن إسلام المرء، وهذا عام يشمل ما يتصل بفضول العلوم التي لا تنفعه، وبفضول المعاملات، وبفضول العلاقات، ونحو ذلك فتركه ما لا يعنيه في دينه فإنه هذا دليل حسن إسلامه.
يعني: دليل رغبته في الخير؛ لأن التوسع، أو إتيان ما لا يعني في العلاقات، أو في الأقوال أو في السمع … إلخ هذا زريعة لأن يرتكب شيئا محرما، أو أن يفرط في واجب، تفوته رتبة المقتصدين التي هي أقل رتب أهل حسن الإسلام.
أدخل الشراح أيضا وهذا واضح وبَيِّن، وقد جاء في بعض الأحاديث أن مما لا يعني المرء الكلام أو السماع، الكلام نطقا أو سماع الكلام، يعني: أن من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه من الكلام، سماعا أو نطقا، وهذا ظاهر بين؛ لأن اللسان هو مورد الزلل، والأذن أيضا هي مورد الزلل، فاللسان نطقا محاسب عليه العبد ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ وهذه الآية عامة، فإن الملك يكتب كل شيء حتى الأشياء التي لا تؤاخذ بها. قال بعض السلف: يكتب حتى أنين المريض، يعني: حتى ما لا يؤاخذ به فإنه يكتبه، وهذا هو الراجح في أنه يكتب كل شيء، ولا تختص كتابته بما فيه الثواب والعقاب، وذلك لدليلين:
الأول: أن قوله: "من قول" هذه نكرة في سياق النفي، وسبقتها من، وهذا يدل على التنصيص الصريح في العموم يعني: الذي لا يتخلف معه شيء من أفراده ألبته ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ﴾ فأي قول لفظ فإنه يكتب.
الدليل الثاني: أن تقسيم ما يكتبه الملك إلى أنه يكتب ما فيه الثواب والعقاب، هذا يُحتاج له، أن يُثبت أن الملك الذي يكتب عنده التمييز في الأعمال ما بين ما فيه الثواب، وما لا ثواب فيه، والتمييز في النيات وأعمال القلب والأقوال التي تصدر عن أعمال القلوب... و إلخ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان: وهذا لا دليل عليه، يعني: أن الملك يعلم ما يثاب عليه من الأقوال، وما لا يثاب عليه، وإنما الملك كاتب، كما قال -جل وعلا-: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ ﴿كِرَامًا كَاتِبِينَ﴾ إلخ. دل هذا على أن ترك ما لا يعني في الأقوال في القول لفظا أو سماعا أن هذا مما تعظم به درجة العبد.
﴿لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ فلهذا يظهر من الحديث عند كثيرين أن المراد به -كما ذكرت- القول أو السماع، فيدخل فيه إذن البحث عن أحوال لا تخصك، أو لا تعنيك في دينك، أو الحرص على معرفة الأخبار، أخبار فلان، وأيش عمل، وأيش سوَّى وقال وفعل، وخبره مع فلان، وأيش عندك من الأخبار، وأيش قال فلان، والناس أيش عملوا، ونحو ذلك.
فالاهتمام بهذه الأشياء بما لا يعني هذا مخالف لما يدل عليه حسن الإسلام، فمن أدلة حسن الإسلام ترك ما لا يعني من فضول الأقوال، وفضول ما يسمع. فإذاً هذا الحديث من أحاديث الآداب العظيمة فينبغي لنا -وجوبا- أن نحرص على حسن الإسلام؛ لأن فيه من الفضل العظيم ما فيه، ومن حسن الإسلام أن نترك ما لا يعني من الكلام أو السماع، الكلام، الأسئلة التي ليس لها داع، يأتي يستفصل وتارة مع من هو أكبر منه، أو من قد يحرج باستفصاله، وتدقيق في الأسئلة، تجميع الأخبار عن الناس، وهذا فعل، وهذا ترك، وهذا ذهب، وهذا جاء... إلخ.
والتحدث بها، وتوسيع ذلك هذا كله مذموم، ويسلب عن العبد حسن الإسلام إذا غلب عليه، ولهذا نقول: في هذا الحديث وصية عظيمة في هذا الأدب العظيم من المصطفى -عليه الصلاة والسلام- فإن من حسن إسلام المرء أن يترك ما لا يعنيه، ما لا يعنيه في دينه، ما لا يعنيه في أمر دنياه، ما لا يعنيه من الأقوال، ومما يسمع أو مما لا يسمع، وأشباه ذلك.
فإن في هذا الأثر الصالح له في صلاح قلبه، وصلاح عمله، والناس يؤتون من كثرة ما يسمعون أو يتكلمون، ولهذا قال بعض السلف في أناس يكثرون الكلام والحديث مع بعضهم قال: هؤلاء خف عليهم العمل، فأكثروا الكلام، وهذا مذموم أن نكثر الكلام بلا عمل، نجلس مجالس طويلة ساعة، ساعتين، ثلاث في كلام مكرر، وضار لا نفع فيه والواجبات لو تأملها كثيرة، تجد أنه يتوسع في مباح، وربما كان معه بعض الحرام في الأقوال والأعمال ويترك واجبات كثيرة، وهذا ليس من صفة طلاب العلم، فطالب العلم يتحرى أن يكون عمله دائما فيما فيه نفع له، يعني فيما يعنيه مما أمر به في الشريعة أو حُث عليه، وأن يترك ما لا يعنيه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
هذا الحديث قال عنه النووي في آخره: حديث حسن رواه الترمذي وغيره هكذا، وتحسينه من جهة كثرة طرقه، من كثرة شواهده.
والراجح عند علماء العلل أنه مرسل، فقد قال أحمد ويحيى بن معين وجماعة: إن الصواب فيه أنه مرسل، ولكن له شواهد كثيرة قريبة من لفظه؛ ولهذا حسنه النووي -رحمه الله- وقال: حديث حسن، رواه الترمذي وغيره هكذا، فالصواب أنه حسن لغيره لشواهده.
الشيخ ابن العثيمين
﴿مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ المَرْءِ﴾ خبر مقدم و: تَرْكُ مبتدأ مؤخّر.
وقوله: ﴿مَا لاَيَعْنِيْهِ﴾ أي ما لاتتعلق به عنايته ويهتم به، وهذا مثل قوله : ﴿مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرَاً أَولِيَصْمُتْ﴾ فإنه يشابهه من بعض الوجوه.
من فوائد هذا الحديث:
1- أن الإسلام جمع المحاسن، وقد ألّف شيخنا عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - رسالة في هذا الموضوع: (محاسن الدين الإسلامي) وكذلك ألّف الشيخ عبد العزيز بن محمد بن سلمان - رحمه الله - رسالة في هذا الموضوع.
ومحاسن الإسلام كلّها تجتمع في كلمتين: قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ﴾ (النحل: من الآية 90).
2- أن ترك الإنسان ما لايهتم به ولا تتعلق به أموره وحاجاته من حسن إسلامه.
3- أن من اشتغل بما لا يعنيه فإن إسلامه ليس بذاك الحسن، وهذا يقع كثيراً لبعض الناس فتجده يتكلم في أشياء لاتعنيه، أو يأتي لإنسان يسأله عن أشياء لاتعنيه ويتدخل فيما لايعنيه، وكل هذا يدل على ضعف الإسلام.
4- أنه ينبغي للإنسان أن يتطلب محاسن إسلامه فيترك ما لايعنيه ويستريح، لأنه إذا اشتغل بأمور لاتهمّه ولاتعنيه فقد أتعب نفسه. وهنا قد يَرِدُ إشكالٌ: وهو هل ترك العبد ما لايعنيه هو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
والجواب: لا، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يعني الإنسان، كما قال الله عزّ وجل: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ (آل عمران: من الآية 104) فلو رأيت إنساناً علىمنكر وقلت له: يا أخي هذا منكر لايجوز. فليس له الحق أن يقول: هذا لايعنيك، ولو قاله لم يقبل منه، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني الأمة الإسلامية كلها.
ومن ذلك أيضاً: ما يتعلق بالأهل والأبناء والبنات فإنه يعني راعي البيت أن يدلّهم على الخير ويأمرهم به ويحذرهم من الشر وينهاهم عنه. قال الله عزّ وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ (التحريم: من الآية 6) والله الموفق
الشيخ صالح آل الشيخ
هذا الحديث -أيضا- من الأحاديث الأربعة التي قال فيها طائفة من أهل العلم -منهم ابن أبي زيد القيرواني المالكي المعروف-: إنه أحد أحاديث أربعة هي أصول الأدب في السنة؛ فهذا الحديث أصل من الأصول في الآداب، كما ذكرنا لكم في أول هذه الدروس أن النووي -رحمه الله- اختار هذه الأحاديث كلية في أبواب مختلفة، في كل باب أصل من الأصول فيه.
قال هنا، قال رسول الله -ﷺ-: ﴿من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه﴾.
﴿من حسن إسلام المرء﴾ "من" هنا: تبعيضية، يعني: ترك ما لا يعني، وبعض ما يحصل به إحسان الإسلام.
﴿من حسن إسلام المرء﴾ من هنا تبعيضية، يعني: أن ترك ما لا يعني: هو بعض ما يحصل به إحسان الإسلام، وحسن الإسلام يعني: ﴿من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه﴾ بعض ما به حُسْن إسلام المرء ترك ما لا يعني، وهذا ظاهر من اللغة.
وقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا: ﴿حسن إسلام المرء﴾ حسن الإسلام جاء هذا اللفظ ومشتقاته في أحاديث متعددة منها -مثلا- قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ﴿إذا أحسن أحدكم إسلامه كان له بكل حسنة يعملها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا عمل بالسيئة كانت السيئة بمثلها﴾ وله ألفاظ أُخَر، فدل هذا وغيره على أن إحسان الإسلام مرتبة عظيمة، وفيها فضل عظيم.
وإحسان الإسلام مما اختلف فيه أهل العلم: -
فقالت طائفة: إحسان الإسلام: أن يأتي بالواجبات، وأن ينتهي عن المحرمات، وهي مرتبة المقتصدين، يعني: الذين جاءوا بقول الله -جل وعلا-: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ فالمقتصد هو: الذي يأتي بالواجبات، ويترك المحرمات، ويجعل مع الواجبات بعض النوافل، فقالوا: المحسن لإسلامه هم أهل هذه الصفة، يعني: الذين يأتون بالواجبات وبعض النوافل، ويَدَعون المحرمات جميعا، فمن كان كذلك فقد حسن إسلامه.
والقول الثاني: إن إحسان الإسلام معناه: أن يكون على رتبة الإحسان في العبادة التي جاءت في حديث جبريل المعروف ﴿قال: فأخبرني عن الإحسان قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك﴾ فالذي يحسن إسلامه هو الذي وصل إلى مرتبة الإحسان، إما على درجتها الأولى: درجة المراقبة، أو على كمالها وهو: درجة المشاهدة.
وهذا القول الثاني ظاهر في الكمال، ولكنه ليس ظاهرا في كل المراتب؛ ولهذا قالت طائفة -أيضا- من أهل العلم: إن إحسان الإسلام ليس مرتبة واحدة بل الناس مختلفون فيها، فبقدر إحسان الإسلام يكون له الفضل والثواب الذي أعطيه من أحسن إسلامه.
فمثلا: في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿إذا أحسن أحدكم إسلامه كان له بكل حسنة يعملها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف﴾ قالوا هنا: عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، عشر حسنات لكل من أحسن الإسلام، يعني: لمن كان له الإسلام، وحسن منه فإنه يبدأ من عشر أضعاف للحسنة يعني تكتب له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، هذا بحسب درجته في إحسان الإسلام.
فدل تنوع الثواب على تنوع الإحسان، يعني أن درجة الإحسان تختلف، وأهل إحسان الإسلام فيه متفاوتون لتفاوت الفضل والمرتبة والأجر على ذلك فقال: "إلى سبعمائة ضعف"، فمن أسباب مزيدها إلى سبعمائة ضعف أن يكون إحسانه للإسلام عظيما؛ ولهذا قال ابن عباس وغيره من المفسرين: إن الحسنة بعشر أمثالها لكل أحد. يعني: لكل مسلم في قوله -جل وعلا- في آخر الأنعام: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ قال: هذا لكل أحد، أما من أحسن إسلامه فإنه في قول الله -جل وعلا-: ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ وهذا تقرير صحيح، فإن الناس في إحسان الإسلام مراتب. وهذه المسألة مشكلة، يعني: لو راجعت في الشروح، وكلام أهل العلم مشكلة، لكن كلام أهل التحقيق الذين قرروا هذه المسألة بينوا أن إحسان الإسلام له مراتب، يعني: ليس مرتبة واحدة، وأن أهل المعصية، يعني: من ظلم نفسه، ليس من أهل إحسان الإسلام فقال: ﴿من حسن إسلام المرء﴾ يعني: هذا الفعل، وهو ترك ما لا يعني من حسن إسلامه، وهذا ظاهر في المرتبتين جميعا، فإن الذي يأتي الطاعات، ويبتعد عن المحرمات فإنه منشغل بطاعة ربه عن أن يتكلف ما لا يعنيه. وأما أهل الإحسان في مقام المراقبة، أو ما هو أعظم منها، وهو مشاهدة آثار العصمة والصفات في خليقة الله -جل وعلا- فهؤلاء منشغلون بإحسان العمل الظاهر والباطن عن أن يكون لهم هم فيما لا يعنيهم.
إذا تقرر هذا فما معنى قوله: ﴿ما لا يعنيه﴾؟ ما هو الذي يعني والذي لا يعني ؟ العناية في اللغة: شدة الاهتمام بالشيء، أو الشيء المهم الذي يُهْتَم به، والذي لا يعني وليس لي به عناية هو الشيء الذي لا ينفع المعتني به، يعني: لا ينفع المتوجه إليه، وليس له به مصلحة، ومعلوم أن أمور الشرع المسلم له بها عناية، وأن فقه الكتاب والسنة له به لكل مسلم به عناية، يعني: فيشتد اهتمامه بها.
فإذاً الاهتمام بما فيه فقه للنصوص هذا مما يدل على حسن إسلام المرء، قال: ﴿من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه﴾ بالمفهوم أن من حسن إسلام المرء الاهتمام بما يعنيه، ما لا يعني المرء المسلم من الأقوال التي ليس لها نفع له في دينه، ولا في دنياه أو في آخرته أو في أولاه، فإن تركها من حسن إسلام المرء، وهذا عام يشمل ما يتصل بفضول العلوم التي لا تنفعه، وبفضول المعاملات، وبفضول العلاقات، ونحو ذلك فتركه ما لا يعنيه في دينه فإنه هذا دليل حسن إسلامه.
يعني: دليل رغبته في الخير؛ لأن التوسع، أو إتيان ما لا يعني في العلاقات، أو في الأقوال أو في السمع … إلخ هذا زريعة لأن يرتكب شيئا محرما، أو أن يفرط في واجب، تفوته رتبة المقتصدين التي هي أقل رتب أهل حسن الإسلام.
أدخل الشراح أيضا وهذا واضح وبَيِّن، وقد جاء في بعض الأحاديث أن مما لا يعني المرء الكلام أو السماع، الكلام نطقا أو سماع الكلام، يعني: أن من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه من الكلام، سماعا أو نطقا، وهذا ظاهر بين؛ لأن اللسان هو مورد الزلل، والأذن أيضا هي مورد الزلل، فاللسان نطقا محاسب عليه العبد ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ وهذه الآية عامة، فإن الملك يكتب كل شيء حتى الأشياء التي لا تؤاخذ بها. قال بعض السلف: يكتب حتى أنين المريض، يعني: حتى ما لا يؤاخذ به فإنه يكتبه، وهذا هو الراجح في أنه يكتب كل شيء، ولا تختص كتابته بما فيه الثواب والعقاب، وذلك لدليلين:
الأول: أن قوله: "من قول" هذه نكرة في سياق النفي، وسبقتها من، وهذا يدل على التنصيص الصريح في العموم يعني: الذي لا يتخلف معه شيء من أفراده ألبته ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ﴾ فأي قول لفظ فإنه يكتب.
الدليل الثاني: أن تقسيم ما يكتبه الملك إلى أنه يكتب ما فيه الثواب والعقاب، هذا يُحتاج له، أن يُثبت أن الملك الذي يكتب عنده التمييز في الأعمال ما بين ما فيه الثواب، وما لا ثواب فيه، والتمييز في النيات وأعمال القلب والأقوال التي تصدر عن أعمال القلوب... و إلخ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان: وهذا لا دليل عليه، يعني: أن الملك يعلم ما يثاب عليه من الأقوال، وما لا يثاب عليه، وإنما الملك كاتب، كما قال -جل وعلا-: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ ﴿كِرَامًا كَاتِبِينَ﴾ إلخ. دل هذا على أن ترك ما لا يعني في الأقوال في القول لفظا أو سماعا أن هذا مما تعظم به درجة العبد.
﴿لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ فلهذا يظهر من الحديث عند كثيرين أن المراد به -كما ذكرت- القول أو السماع، فيدخل فيه إذن البحث عن أحوال لا تخصك، أو لا تعنيك في دينك، أو الحرص على معرفة الأخبار، أخبار فلان، وأيش عمل، وأيش سوَّى وقال وفعل، وخبره مع فلان، وأيش عندك من الأخبار، وأيش قال فلان، والناس أيش عملوا، ونحو ذلك.
فالاهتمام بهذه الأشياء بما لا يعني هذا مخالف لما يدل عليه حسن الإسلام، فمن أدلة حسن الإسلام ترك ما لا يعني من فضول الأقوال، وفضول ما يسمع. فإذاً هذا الحديث من أحاديث الآداب العظيمة فينبغي لنا -وجوبا- أن نحرص على حسن الإسلام؛ لأن فيه من الفضل العظيم ما فيه، ومن حسن الإسلام أن نترك ما لا يعني من الكلام أو السماع، الكلام، الأسئلة التي ليس لها داع، يأتي يستفصل وتارة مع من هو أكبر منه، أو من قد يحرج باستفصاله، وتدقيق في الأسئلة، تجميع الأخبار عن الناس، وهذا فعل، وهذا ترك، وهذا ذهب، وهذا جاء... إلخ.
والتحدث بها، وتوسيع ذلك هذا كله مذموم، ويسلب عن العبد حسن الإسلام إذا غلب عليه، ولهذا نقول: في هذا الحديث وصية عظيمة في هذا الأدب العظيم من المصطفى -عليه الصلاة والسلام- فإن من حسن إسلام المرء أن يترك ما لا يعنيه، ما لا يعنيه في دينه، ما لا يعنيه في أمر دنياه، ما لا يعنيه من الأقوال، ومما يسمع أو مما لا يسمع، وأشباه ذلك.
فإن في هذا الأثر الصالح له في صلاح قلبه، وصلاح عمله، والناس يؤتون من كثرة ما يسمعون أو يتكلمون، ولهذا قال بعض السلف في أناس يكثرون الكلام والحديث مع بعضهم قال: هؤلاء خف عليهم العمل، فأكثروا الكلام، وهذا مذموم أن نكثر الكلام بلا عمل، نجلس مجالس طويلة ساعة، ساعتين، ثلاث في كلام مكرر، وضار لا نفع فيه والواجبات لو تأملها كثيرة، تجد أنه يتوسع في مباح، وربما كان معه بعض الحرام في الأقوال والأعمال ويترك واجبات كثيرة، وهذا ليس من صفة طلاب العلم، فطالب العلم يتحرى أن يكون عمله دائما فيما فيه نفع له، يعني فيما يعنيه مما أمر به في الشريعة أو حُث عليه، وأن يترك ما لا يعنيه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
هذا الحديث قال عنه النووي في آخره: حديث حسن رواه الترمذي وغيره هكذا، وتحسينه من جهة كثرة طرقه، من كثرة شواهده.
والراجح عند علماء العلل أنه مرسل، فقد قال أحمد ويحيى بن معين وجماعة: إن الصواب فيه أنه مرسل، ولكن له شواهد كثيرة قريبة من لفظه؛ ولهذا حسنه النووي -رحمه الله- وقال: حديث حسن، رواه الترمذي وغيره هكذا، فالصواب أنه حسن لغيره لشواهده.