الشيخ صالح آل الشيخ
هذا حديث أنس -رضي الله عنه- وهو الحديث الثالث عشر من هذه الأحاديث النووية. قال: عن أبي حمزة أنس بن مالك -رضي الله عنه- خادم رسول الله -ﷺ- عن النبي -ﷺ- قال: ﴿لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه﴾.
﴿لا يؤمن أحدكم﴾: هذه الكلمة تدل على أن ما بعدها مأمور به في الشريعة، إما أمر إيجاب أو أمر استحباب، ونفي الإيمان هنا قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان -كما أحضرنيه بعض الأخوة-: ﴿لا يؤمن أحدكم﴾ إن هذا نفي لكمال الإيمان الواجب، فإذا نُفِي الإيمان بفعل دل على وجوبه، يعني: على وجوب ما نفي الإيمان لأجله.
﴿لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه﴾ دل على أن محبة المرء لأخيه ما يحب لنفسه واجبة، قال: لأن نفي الإيمان لا يكون لنفي شيء مستحب، فمن ترك مستحبا لا ينفي عنه الإيمان، فنفي الإيمان دال على أن هذا الأمر واجب، فيكون إذاً نفي الإيمان نفي لكماله الواجب، فيدل على أن الأمر المذكور، والمعلق به النفي يدل على أنه واجب.
إذا تقرر هذا فقوله هنا: ﴿لا يؤمن أحدكم حتى...﴾ له نظائر كثيرة في الشريعة يعني: في السنة: ﴿لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين﴾ ﴿لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه﴾ ﴿لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه﴾ وهكذا إذا تقرر ذلك فإن نفي الإيمان فيها على باب واحد، وهو أنه ينفي كمال الإيمان الواجب.
ثم قوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه﴾ هذا يشمل الاعتقاد والقول والعمل، يعني: يشمل جميع الأعمال الصالحة من الأقوال والاعتقادات والأفعال، فقوله: ﴿حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه﴾ يشمل أن يحب لأخيه أن يعتقد الاعتقاد الحسن كاعتقاده، وهذا واجب، ويشمل أن يحب لأخيه أن يكون مصليا كفعله.
فلو أحب لأخيه أن يكون على غير الهداية فإنه ارتكب محرما فانتفى عنه كمال الإيمان الواجب، لو أحب أن يكون فلان من الناس على غير الاعتقاد الصحيح الموافق للسنة، يعني: على اعتقاد بدعي فإنه كذلك ينفي عنه كمال الإيمان الواجب، وهكذا في سائر العبادات، وفي سائر أنواع اجتناب المحرمات، فإذا أحب لنفسه أن يترك الرشوة، وأحب لأخيه أن يقع في الرشوة حتى يبرز هو كان منفيا عنه كمال الإيمان الواجب، وهكذا في نظائرهما. وقد جاء في النسائي -يعني: في سنن النسائي- وفي غيره تقييد ما يحب هنا بما هو معلوم، وهو قوله: ﴿حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير﴾ وهذا ظاهر غير بين، ولكن التنصيص عليه واضح. أما أمور الدنيا فإن محبة الخير لأخيه كما يحب لنفسه هذا مستحب؛ لأن الإيثار بها مستحب، وليس بواجب، فيحب لأخيه أن يكون ذا مال مثل ما يحب لنفسه هذا مستحب، يحب لأخيه أن يكون ذا وجاهة مثل ما له هذا مستحب، يعني: لو فرط فيه لم يكن منفيا عنه، لم يكن كمال الإيمان الواجب منفيا عنه؛ لأن هذه الأفعال مستحبة، فإذا صار المقام هنا على درجتين، إذا كان ما يحبه لنفسه متعلقا بأمور الدين فهذا واجب أن يحب لإخوانه ما يحب لنفسه، وهذا هو الذي تسلط نفي الإيمان عليه.
﴿لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه﴾ يعني: من أمور الدين أو من الأمور التي يرغب فيها الشارع وأمر بها أمر إيجاب أو أمر استحباب وكذلك ما نهى عنه الشارع، فيحب لأخيه أن ينتهي عن المحرمات ويحب لأخيه أن يأتي الواجبات، هذا لو لم يحب لأنتفى عنه كمال الإيمان الواجب، أما أمور الدنيا -كما ذكرنا- فإنها على الاستحباب يحب لأخيه أن يكون ذا سعة في الرزق فهذا مستحب، يحب أن يكون لأخيه مثل ما له من الجاه مثلا أو من المال أو من حسن الترتيب أو من الكتب أو… إلخ فهذا كله راجع إلى الاستحباب.
ويتفرع عن هذا مسألة الإيثار، والإيثار منقسم إلى قسمين: إيثار بالقُرَب، وإيثار بأمور الدنيا...، أما الإيثار بالقرب فإنه مكروه لأنه يخالف ما أمرنا به من المسابقة في الخيرات والمسارعة في أبواب الطاعات ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ ﴿وَسَارِعُوا إِلَى﴾ فالمسارعة والمسابقة تقتضي أن كل باب من أبواب الخير يسارع إليه المسلم ويسبق أخاه إليه ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾.
والقسم الثاني الإيثار في أمور الدنيا يعني: في الطعام في الملبس في المركب في التصدر في مجلس أو ما أشبه ذلك فهذا مستحب أن يؤثر أخاه في أمور الدنيا كما قال -جل وعلا- في وصف خاصة المؤمنين: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ فدلت الآية على أن الإيثار بأمور الدنيا من صفات المؤمنين وهذا يدل على استحبابه، صلة هذا بالحديث، قال: ﴿لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه﴾ يحب للأخ ما يحب للنفس، قد يقتضي هذا أن يقدمه، فهل إذا كان في أمور الدنيا يقدمه على ما ذكرنا؟ إن الإيثار بالقرب مكروه، الإيثار في أمور الدنيا مستحب فحبه لأخيه ما يحب لنفسه من أمور الدنيا مستحب هنا أيضا، يستحب أن يقدم أخاه على نفسه في أمور الدنيا.
هذا خلاصة ما في الحديث من البحث، وبهذا يظهر ضابط قوله: ﴿لا يؤمن أحدكم﴾ وما يتصل بها من الفعل ﴿حتى يحب لأخيه﴾ ﴿حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده والناس أجمعين﴾ إن هذا أمر مطلوب شرعا، ﴿من لا يأمن جاره بوائقه﴾ إلخ.
نكتفي بهذا القدر. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:
فكثر السؤال بعد درس البارحة عن معنى "الإيثار بالقُرَب"، وأنا ظننت أنها واضحة عند الجميع فنقررها لمن لم تتضح له.
الإيثار بالقرب معناه: أن المسألة إذا كانت قربة إلى الله -جل وعلا- فإن الإيثار -إيثار أخيك- بها مكروه؛ لأن هذا ينافي المسابقة التي ذكرنا لكم أدلتها والمسارعة في الخيرات والمنافسة. فمثلا: أن يكون هناك فرجة في الصف الأول، أو مكان متقدم خلف الإمام فتقف أنت وأخوك المسلم فتقول له: تقدم، تفضل، فيقول لك: لا، تقدم فتقول: تقدم، فمثل هذا لا ينبغي؛ لأنه مكروه بل ينبغي المسارعة في تحصيل هذه القربة، وهي فضيلة الصف الأول. مثلا: أتى رجل محتاج إلى مبلغ من المال يسد عوزه، خمسين، مائة ريال، أكثر، فأنت مقتدر وأخوك أيضا المسلم مقتدر فتقول له: ساعده أنا معطيك الفرصة، تفضل ساعده، وهذا يقول: لا أنت تفضل من باب المحبة، يعني: أن كل واحد يقدم أخاه، فمثل هذا -أيضا- مكروه لا ينبغي؛ لأن في هذا الباب المسارعة والمسابقة في الخيرات.
كذلك من جهة القراءة، قراءة العلم على الأشياخ، وأخذ الفرص لنيل الطاعات، والجهاد وأشباه هذا، فمثل هذه المسائل تسمى قُرَبا يعني طاعات، فالإيثار في الطاعات يعني: بالقرب لا ينبغي، مكروه؛ لأنه كما ذكرنا ينافي الأمر بالمسارعة والمسابقة، والتنافس في الخير.
الشيخ ابن العثيمين
وله: ﴿لاَ يُؤمِنُ أَحَدُكُمْ﴾ أي لا يتم إيمان أحدنا، فالنفي هنا للكمال والتمام، وليس نفياً لأصل الإيمان.
فإن قال قائل: ما دليلكم على هذا التأويل الذي فيه صرف الكلام عن ظاهره؟
قلنا: دليلنا على هذا أن ذلك العمل لا يخرج به الإنسان من الإيمان، ولا يعتبر مرتدّاً، وإنما هو من باب النصيحة، فيكون النفي هنا نفياً لكمال الإيمان.
فإن قال قائل: ألستم تنكرون على أهل التأويل تأويلهم؟
فالجواب: نحن لاننكر على أهل التأويل تأويلهم، إنما ننكر على أهل التأويل تأويلهم الذي لادليل عليه، لأنه إذا لم يكن عليه دليلٌ صار تحريفاً وليس تأويلاً، أما التأويل الذي دلّ عليه الدليل فإنه يعتبر من تفسير الكلام، كما قال النبي ﷺ في عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ﴿اللَّهُمَّ فَقِّههُ فِي الدِّيْنِ وَعَلِّمْهُ التَّأوِيْلَ﴾.
فإن قال قائل: في قول الله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ (النحل: 98).
المراد به: إذا أردت قراءة القرآن، فهل يعتبر هذا تأويلاً مذموماً، أو تأويلاً صحيحاً؟
والجواب: هذا تأويل صحيح، لأنه دلّ عليه الدليل من فعل النبي ﷺ ، فقد كان يتعوّذ عند القراءة لا في آخر القراءة .
وإذا قال قائل: في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ (المائدة: من الآية 6) إن المراد إذا أردتم القيام إليها، فهل يعتبر هذا تأويلاً مذموماً، أو صحيحاً ؟
والجواب: هذا تأويل صحيح.
وعليه فلا ننكر التأويل مطلقاً، إنما ننكر التأويل الذي لا دليل عليه ونسميه تحريفاً.
﴿لاَ يُؤمِنُ أَحَدُكُمْ﴾ الإيمان في اللغة هو: الإقرار المستلزم للقبول والإذعان والإيمان وهو مطابق للشرع وقيل: هو التصديق وفيه نظر؛ لأنه يقال: آمنت بكذا وصدقت فلاناً ولايقال: آمنت فلاناً. وقيل الإيمان في اللغة الإقرار واستدل القائل لذلك أنه يقال: آمن به وأقرّ به، ولا يقال: آمنه بمعنى صدقه، فلمّا لم يتوافق الفعلان في التعدّي واللزوم عُلم أنهما ليسا بمعنى واحد.
فالإيمان في اللغة حقيقة : إقرار القلب بما يرد عليه، وليس التصديق.
وقد يرد الإيمان بمعنى التصديق بقرينة مثل قوله تعالى: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ (العنكبوت: من الآية 26) على أحد القولين مع أنه يمكن أن يقال: فآمن له لوط أي انقاد له - أي إبراهيم - وصدّق دعوته.
أما الإيمان في الشرع فهوكما سبق في تعريفه في اللغة.
فمن أقرّ بدون قبول وإذعان فليس بمؤمن، وعلى هذا فاليهود والنصارى اليوم ليسوا بمؤمنين لأنهم لم يقبلوا دين الإسلام ولم يذعنوا.
وأبو طالب كان مقرّاً بنبوة النبي ﷺ ، ويعلن بذلك، ويقول:
لقدْ عَلموا أَنَّ ابننا لا مكذّب ** لدينا ولا يُعنى بقول الأباطل
ويقول:
ولقد علمتُ بأنّ دينَ محمّدٍ ** من خير أديانِ البريّة ديناً
لولا الملامة أو حذار مسبّةٍ ** لرأيتني سمْحَاً بذاكَ مبيناً
وهذا إقرار واضح ودفاع عن الرسول ﷺ ومع ذلك ليس بمؤمن، لفقده القبول والانقياد، فلم يقبل الدعوة ولم ينقد لها فمات على الكفر - والعياذ بالله -.
ومحل الإيمان: القلب واللسان والجوارح، فالإيمان يكون بالقلب، ويكون باللسان، ويكون بالجوارح، أي أن قول اللسان يسمى إيماناً، وعمل الجوارح يسمى إيماناً، والدليل: قول الله عزّ وجل: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ (البقرة: من الآية 143) قال المفسّرون: إيمانكم: أي صلاتكم إلى بيت المقدس، وقال النبي ﷺ : ﴿الإِيْمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً فَأَعْلاهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، وأدنْاهَا إِمَاطَةُ الأذى عَنِ الطَّرِيْقِ وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيْمَانِ﴾.
أعلاها قول: لا إله إلا الله، هذا قول اللسان.
وأدناها : إماطة الأذى عن الطريق وهذا فعل الجوارح، والحياء عمل القلب. وأما القول بأن الإيمان محلّه القلب فقط، وأن من أقرّ فقد آمن فهذا غلط ولا يصحّ.
وقوله: ﴿حَتَّى يُحِبَّ﴾ (حتى) هذه للغاية، يعني: إلى أن ﴿يُحِبَّ لأَخِيه﴾ والمحبة: لاتحتاج إلى تفسير، ولايزيد تفسيرها إلا إشكالاً وخفاءً، فالمحبة هي المحبة، ولا تفسَّر بأبين من لفظها.
وقوله: ﴿لأَخِيْهِ﴾ أي المؤمن مَا يُحبُّ لِنَفْسِهِ من خير ودفع شر ودفاع عن العرض وغير ذلك، وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: ﴿مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الجَنَّةَ فَلْتَأتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، وَلْيَأتِ إِلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤتَى إِلَيْهِ﴾ الشاهد هنا قوله: ﴿وَلْيَأتِ إِلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤتَى إِلَيْهِ﴾.
من فوائد هذا الحديث:
1- جواز نفي الشيء لانتفاء كماله، لقول: ﴿لا يُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيْهِ ومثله قوله: لا يُؤمنُ مَنْ لا يَأَمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ﴾.
ومن الأمثلة على نفي الشيء لانتفاء كماله قول النبي ﷺ : ﴿لاصَلاةَ بِحَضْرَةِ طَعَام﴾ أي لا صلاة كاملة، لأن هذا المصلي سوف يشتغل قلبه بالطعام الذي حضر، والأمثلة على هذا كثيرة.
2- وجوب محبة المرء لأخيه ما يحب لنفسه، لأن نفي الإيمان عمن من لايحب لأخيه ما يحب لنفسه يدل على وجوب ذلك، إذ لايُنفى الإيمان إلا لفوات واجب فيه أو وجود ما ينافيه.
3- التحذير من الحسد، لأن الحاسد لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، بل يتمنّى زوال نعمة الله عن أخيه المسلم.
وقد اختلف أهل العلم في تفسير الحسد: فقال بعضهم تمنّي زوال النعمة عن الغير. وقال بعضهم الحسد هو: كراهة ما أنعم الله به على غيره، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: إذا كره العبد ما أنعم الله به على غيره فقد حسده، وإن لم يتمنَّ الزوال .
4- أنه ينبغي صياغة الكلام بما يحمل على العمل به، لأن من الفصاحة، صياغة الكلام بما يحمل على العمل به، والشاهد لهذا قوله: لأَخِيهِ لأن هذه يقتضي العطف والحنان والرّقة، ونظير هذا قول الله عزّ وجل في آية القصاص: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْء﴾ (البقرة: من الآية 178) مع أنه قاتل، تحنيناً وتعطيفاً لهذا المخاطب.
فإن قال قائل: هذه المسألة قد تكون صعبة، أي: أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، بمعنى: أن تحب لأخيك أن يكون عالماً، وأن يكون غنياً، وأن يكون ذا مال وبنين، وأن يكون مستقيماً، فقد يصعب هذا؟
فنقول: هذا لايصعب إذا مرّنت نفسك عليه، مرّن نفسك على هذا يسهل عليك، أما أن تطيع نفسك في هواها فنعم سيكون هذا صعباً.
فإن قال تلميذ من التلاميذ: هل يدخل في ذلك أن ألقن زميلي في الاختبار لأنني أحب أن أنجح فألقنه لينجح؟
فالجواب: لا، لأن هذا غشّ، وهو في الحقيقة إساءة لأخيك وليس إحساناً إليه، لأنك إذا عودته الخيانة اعتاد عليها، ولأنك تخدعه بذلك حيث يحمل شهادة ليس أهلاً لها. والله الموفق.
الشيخ صالح آل الشيخ
هذا حديث أنس -رضي الله عنه- وهو الحديث الثالث عشر من هذه الأحاديث النووية. قال: عن أبي حمزة أنس بن مالك -رضي الله عنه- خادم رسول الله -ﷺ- عن النبي -ﷺ- قال: ﴿لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه﴾.
﴿لا يؤمن أحدكم﴾: هذه الكلمة تدل على أن ما بعدها مأمور به في الشريعة، إما أمر إيجاب أو أمر استحباب، ونفي الإيمان هنا قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان -كما أحضرنيه بعض الأخوة-: ﴿لا يؤمن أحدكم﴾ إن هذا نفي لكمال الإيمان الواجب، فإذا نُفِي الإيمان بفعل دل على وجوبه، يعني: على وجوب ما نفي الإيمان لأجله.
﴿لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه﴾ دل على أن محبة المرء لأخيه ما يحب لنفسه واجبة، قال: لأن نفي الإيمان لا يكون لنفي شيء مستحب، فمن ترك مستحبا لا ينفي عنه الإيمان، فنفي الإيمان دال على أن هذا الأمر واجب، فيكون إذاً نفي الإيمان نفي لكماله الواجب، فيدل على أن الأمر المذكور، والمعلق به النفي يدل على أنه واجب.
إذا تقرر هذا فقوله هنا: ﴿لا يؤمن أحدكم حتى...﴾ له نظائر كثيرة في الشريعة يعني: في السنة: ﴿لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين﴾ ﴿لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه﴾ ﴿لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه﴾ وهكذا إذا تقرر ذلك فإن نفي الإيمان فيها على باب واحد، وهو أنه ينفي كمال الإيمان الواجب.
ثم قوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه﴾ هذا يشمل الاعتقاد والقول والعمل، يعني: يشمل جميع الأعمال الصالحة من الأقوال والاعتقادات والأفعال، فقوله: ﴿حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه﴾ يشمل أن يحب لأخيه أن يعتقد الاعتقاد الحسن كاعتقاده، وهذا واجب، ويشمل أن يحب لأخيه أن يكون مصليا كفعله.
فلو أحب لأخيه أن يكون على غير الهداية فإنه ارتكب محرما فانتفى عنه كمال الإيمان الواجب، لو أحب أن يكون فلان من الناس على غير الاعتقاد الصحيح الموافق للسنة، يعني: على اعتقاد بدعي فإنه كذلك ينفي عنه كمال الإيمان الواجب، وهكذا في سائر العبادات، وفي سائر أنواع اجتناب المحرمات، فإذا أحب لنفسه أن يترك الرشوة، وأحب لأخيه أن يقع في الرشوة حتى يبرز هو كان منفيا عنه كمال الإيمان الواجب، وهكذا في نظائرهما. وقد جاء في النسائي -يعني: في سنن النسائي- وفي غيره تقييد ما يحب هنا بما هو معلوم، وهو قوله: ﴿حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير﴾ وهذا ظاهر غير بين، ولكن التنصيص عليه واضح. أما أمور الدنيا فإن محبة الخير لأخيه كما يحب لنفسه هذا مستحب؛ لأن الإيثار بها مستحب، وليس بواجب، فيحب لأخيه أن يكون ذا مال مثل ما يحب لنفسه هذا مستحب، يحب لأخيه أن يكون ذا وجاهة مثل ما له هذا مستحب، يعني: لو فرط فيه لم يكن منفيا عنه، لم يكن كمال الإيمان الواجب منفيا عنه؛ لأن هذه الأفعال مستحبة، فإذا صار المقام هنا على درجتين، إذا كان ما يحبه لنفسه متعلقا بأمور الدين فهذا واجب أن يحب لإخوانه ما يحب لنفسه، وهذا هو الذي تسلط نفي الإيمان عليه.
﴿لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه﴾ يعني: من أمور الدين أو من الأمور التي يرغب فيها الشارع وأمر بها أمر إيجاب أو أمر استحباب وكذلك ما نهى عنه الشارع، فيحب لأخيه أن ينتهي عن المحرمات ويحب لأخيه أن يأتي الواجبات، هذا لو لم يحب لأنتفى عنه كمال الإيمان الواجب، أما أمور الدنيا -كما ذكرنا- فإنها على الاستحباب يحب لأخيه أن يكون ذا سعة في الرزق فهذا مستحب، يحب أن يكون لأخيه مثل ما له من الجاه مثلا أو من المال أو من حسن الترتيب أو من الكتب أو… إلخ فهذا كله راجع إلى الاستحباب.
ويتفرع عن هذا مسألة الإيثار، والإيثار منقسم إلى قسمين: إيثار بالقُرَب، وإيثار بأمور الدنيا...، أما الإيثار بالقرب فإنه مكروه لأنه يخالف ما أمرنا به من المسابقة في الخيرات والمسارعة في أبواب الطاعات ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ ﴿وَسَارِعُوا إِلَى﴾ فالمسارعة والمسابقة تقتضي أن كل باب من أبواب الخير يسارع إليه المسلم ويسبق أخاه إليه ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾.
والقسم الثاني الإيثار في أمور الدنيا يعني: في الطعام في الملبس في المركب في التصدر في مجلس أو ما أشبه ذلك فهذا مستحب أن يؤثر أخاه في أمور الدنيا كما قال -جل وعلا- في وصف خاصة المؤمنين: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ فدلت الآية على أن الإيثار بأمور الدنيا من صفات المؤمنين وهذا يدل على استحبابه، صلة هذا بالحديث، قال: ﴿لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه﴾ يحب للأخ ما يحب للنفس، قد يقتضي هذا أن يقدمه، فهل إذا كان في أمور الدنيا يقدمه على ما ذكرنا؟ إن الإيثار بالقرب مكروه، الإيثار في أمور الدنيا مستحب فحبه لأخيه ما يحب لنفسه من أمور الدنيا مستحب هنا أيضا، يستحب أن يقدم أخاه على نفسه في أمور الدنيا.
هذا خلاصة ما في الحديث من البحث، وبهذا يظهر ضابط قوله: ﴿لا يؤمن أحدكم﴾ وما يتصل بها من الفعل ﴿حتى يحب لأخيه﴾ ﴿حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده والناس أجمعين﴾ إن هذا أمر مطلوب شرعا، ﴿من لا يأمن جاره بوائقه﴾ إلخ.
نكتفي بهذا القدر. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:
فكثر السؤال بعد درس البارحة عن معنى "الإيثار بالقُرَب"، وأنا ظننت أنها واضحة عند الجميع فنقررها لمن لم تتضح له.
الإيثار بالقرب معناه: أن المسألة إذا كانت قربة إلى الله -جل وعلا- فإن الإيثار -إيثار أخيك- بها مكروه؛ لأن هذا ينافي المسابقة التي ذكرنا لكم أدلتها والمسارعة في الخيرات والمنافسة. فمثلا: أن يكون هناك فرجة في الصف الأول، أو مكان متقدم خلف الإمام فتقف أنت وأخوك المسلم فتقول له: تقدم، تفضل، فيقول لك: لا، تقدم فتقول: تقدم، فمثل هذا لا ينبغي؛ لأنه مكروه بل ينبغي المسارعة في تحصيل هذه القربة، وهي فضيلة الصف الأول. مثلا: أتى رجل محتاج إلى مبلغ من المال يسد عوزه، خمسين، مائة ريال، أكثر، فأنت مقتدر وأخوك أيضا المسلم مقتدر فتقول له: ساعده أنا معطيك الفرصة، تفضل ساعده، وهذا يقول: لا أنت تفضل من باب المحبة، يعني: أن كل واحد يقدم أخاه، فمثل هذا -أيضا- مكروه لا ينبغي؛ لأن في هذا الباب المسارعة والمسابقة في الخيرات.
كذلك من جهة القراءة، قراءة العلم على الأشياخ، وأخذ الفرص لنيل الطاعات، والجهاد وأشباه هذا، فمثل هذه المسائل تسمى قُرَبا يعني طاعات، فالإيثار في الطاعات يعني: بالقرب لا ينبغي، مكروه؛ لأنه كما ذكرنا ينافي الأمر بالمسارعة والمسابقة، والتنافس في الخير.