الشيخ صالح آل الشيخ
هذا الحديث حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- فيه ذكر ما به يحل دم المرء المسلم، فإنه تقدم لنا قول النبي -ﷺ-: ﴿أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله -عز وجل-﴾.
فهذا الحديث فيه أن دم المسلم معصوم، وأنه إذا شهد لا إله إلا الله، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، يعني: أدى حقوق التوحيد فإنه معصوم الدم، وحرام المال، هذا الحديث حديث ابن مسعود فيه الأحوال التي يباح بها دم المسلم الموحد، الذي شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأتى بحقوق ذلك، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿لا يحل دم امرئ مسلم...﴾ وقوله: "لا يحل" يعني: يحرم، وهو كبيرة من الكبائر أن يباح دم مسلم بغير حق؛ ولهذا ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ﴿لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض﴾ فجعل ضرب المسلم أخاه المسلم، وقتله بغير حق من خصال أهل الكفر.
وثبت عنه أيضا -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ﴿إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله ! هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه﴾ وهذا يدل على أن من سعى في قتل المسلم، وأتى بالأسباب التي بها يقتل المسلم فإنه في النار، قال: ﴿فالقاتل والمقتول في النار﴾ وهذا لا ينافي عدم المؤاخذة، مؤاخذة المسلم بهمه.
وما جاء في الحديث ﴿إذا هم عبدي بالسيئة فلا تكتبوها عليه﴾ والحديث الآخر -أيضا- الذي في الصحيح ﴿إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم﴾؛ لأن هذا الحديث الذي هو ﴿القاتل والمقتول في النار﴾ المقتول وإن لم يفعل فهو في النار؛ لأنه قد سعى في الأسباب، وعدم الحصول لم يكن لإرادته عدم الحصول، وإنما لتخلف ذلك عنه بأمر قدري، فيدل هذا على أن من سعى في أسباب القتل، أو في أسباب المحرم، وتمكن منها لكن تخلفت عنه لسبب ليس إليه فإنه يعتبر كفاعلها من جهة الإثم، بل إن الذي يرضى بالذنب كالذي فعله يعني: من جهة الإثم وهذا ظاهر من الأدلة.
فقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا: ﴿لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث﴾ يدل على تعظيم حرمة دم المرء المسلم، وقوله: ﴿دم امرئ مسلم﴾ هنا قال: مسلم، والمقصود بالمسلم هو: الذي حقق الإسلام، يعني: أصبح مسلما على الحقيقة، لا على الدعوة، يعني: من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأتى بالتوحيد.
أما المشرك -الشرك الأكبر- والمبتدع -البدعة المكفرة المخرجة من الدين- وأشباه ذلك فلا يدخلوا في وصف الإسلام في هذا الحديث، ولا في غيره؛ لأن المسلم هو من حقق الإسلام بتحقيق التوحيد يعني: بإتيانه بالشهادتين ومقتضى ذلك، وكونه لم يرتكب مكفرا، ولا شركا أكبر. قال: ﴿إلا بإحدى ثلاث﴾ وهذا استثناء أو يسمى حصرا؛ لأنه استثناء بعد النفي.
والاستثناء بعد النفي يدل على الحصر، وقوله -عليه الصلاة والسلام- في أولها: "لا يحل" أتى على النفي، ومجيء النفي يدل على النهي، بل مجيء النفي أبلغ من مجرد النهي، يعني: كأنه صار حقيقة ماضية، أنه لا يحل، بحيث إن النهي عنه قد تقرر، وإنما ينفي وجوده في الشريعة أصلا، وله نظائر كقوله: ﴿لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ﴾ وأشباه ذلك مما يعدل فيه من النهي إلى النفي للمبالغة في النهي، وهذه قاعدة معروفة في اللغة وفي أصول الفقه.
قال: ﴿إلا بإحدى ثلاث﴾ هذه الثلاث أصول، قال فيها: الثيب الزاني، والزاني له حالات: إما أن يكون ثيبا، يعني: أنه قد ذاق العُسَيْلة من قبل، يعني: أنه سبق له أن أحصن -أن تزوج- بعقد شرعي صحيح، فهذا يقال له: ثيب، إذا كان كذلك فإنه لا يكون ثيبا بزنا، ولا يكون ثيبا بعقد فاسد باطل، ولا يكون ثيبا بعقد متعة، متعة زواج وأشباه ذلك، لا يكون محصنا ثيبا في الشريعة إلا إذا تزوج، نكح نكاحا صحيحا مستوفيا للشروط.
فالثيب إذا زنى فإنه يحل دمه، وقد كان فيما أنزل ونسخ لفظه وبقى حكمه قوله -جل وعلا-: "والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم"، وفيما بقي لفظا وحكما قول الله -جل وعلا-: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ فدلت الآية على عموم أن الزاني يجلد مائة، ودلت الآية التي نسخ لفظها وبقي حكمها أنه يرجم.
وكذلك السنة دلت على الرجم، ودلت أيضا على الجمع بين الجلد والرجم؛ ولهذا اختلف العلماء في الزاني الثيب هل يجمع له بين الجلد والرجم؟ يعني: هل يجلد أولا ثم يرجم؟ أم يكتفى فيه بالرجم؟ والنبي -عليه الصلاة والسلام- رجم أو أمر برجم ماعز والغامدية، وأمر برجم اليهودي واليهودية، وأشباه ذلك في حوادث تدل على أن الرجم فُعِل من غير جلد. وقد قال بعض أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم كعلي -رضي الله عنه-: إنه يجلد ثم يرجم، كما ثبت في صحيح البخاري -رحمه الله- ﴿أن عليا جلد زانيا ثيبا ثم رجمه فقال: جلدته بكتاب الله ورجمته بسنة رسول الله -ﷺ-﴾ يريد -رضي الله عنه- أنه جلده بعموم قوله -جل وعلا-: ﴿فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ لأن الآية ليس فيها تفصيل هل هو محصن أم غير محصن؟ هل هو ثيب أم بكر؟
والسنة فيها الرجم، فدل هذا عنده -رضي الله عنه- على الجمع بين الجلد والرجم، وهو رواية عن الإمام أحمد، وكثير من أهل العلم على الاكتفاء بالرجم؛ لأن النبي -ﷺ- اكتفى بالرجم في حوادث كثيرة، أو في حوادث متعددة، حيث رجم ماعزا والغامدية، واليهودي واليهودية دون جلد -كما هو معروف-. فقال بعضهم: الجمع بين الجلد والرجم راجع إلى الإمام فيما يراه من جهة كثرة النكال، والمبالغة فيه.
المقصود من هذا: أن الثيب إذا زنى، وتحققت شروط الزنا كاملة، بما هو معروف بشهادة أربعة، أو باعترافه على نفسه اعترافا محققا، لا يرجع فيه أنه يرجم، وذلك حتى يموت، قال هنا: ﴿الثيب الزاني﴾ يعني: يحل دمه، يحل دم الثيب إذا زنى، قال: ﴿والنفس بالنفس﴾ النفس بالنفس هذه كما قال -جل وعلا- في القرآن: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ وقال -جل وعلا- أيضا: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ اْلأُنْثَى بِاْلأُنْثَى﴾ الآية فدل ذلك على أن النفس تقتل بالنفس، فإذا اعتدى أحد على نفس معصومة فإنه يقتل، إذا كان اعتداؤه بالقتل عمدا.
ثم نظر أهل العلم في قوله: ﴿النفس بالنفس﴾ هل هذا عام لا تخصيص فيه؟ أو هو عام مخصوص؟ أو هو مقيد في أقوال لهم؟
والذي عليه جهور أهل العلم أن قوله: ﴿النفس بالنفس﴾ هذا يقيد بأن النفس تكون مكافئة للنفس بدلالة السنة على ذلك، كما قال -جل وعلا-: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ اْلأُنْثَى بِاْلأُنْثَى﴾.
والسنة دلت على أن المسلم لا يقتل بكافر، وعلى أن الحر لا يقتل بعبد، حتى في القصاص في الأطراف بين الحر و العبد لا توجد المكافأة وهكذا.
فإذن لا بد من وجود المكافأة من جهة الدين، ومن جهة الحرية فقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا: "النفس بالنفس" يعني فيما دلت عليه الآية -آية البقرة- ودلت عليه مواضعها من السنة أن النفس المكافئة للنفس.
أما قتل كل نفس بكل نفس فهذا خلاف السنة، وذهب أبو حنيفة الإمام المعروف -رحمه الله- وأصحابه إلى أن المسلم يقتل بالكافر لعموم الآية ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ ولعموم الحديث، وعلى أن الحر يقتل بالعبد، والجمهور على إعمال الأحاديث الأُخَر في هذا الباب من أن النفس بالنفس تقيد بما جاء في الأحاديث، فيكون هذا من العام المخصوص.
قال: ﴿والتارك لدينه المفارق للجماعة﴾. "التارك لدينه" فسرت بتفسيرين:
الأول: التارك لدينه يعني: المرتد الذي ترك دينه كله فارتد عن الدين، فيباح دمه.
والتفسير الثاني: أن التارك للدين هو: من ترك بعض الدين، مما فيه مفارقة للجماعة، يعني: ترك بعض أمر الدين، مما فيه المفارقة للجماعة، قالوا: ولهذا عطف ﴿المفارق للجماعة﴾ على ﴿التارك لدينه﴾ فقال: ﴿والتارك لدينه المفارق للجماعة﴾ فجعل مفارقة الجماعة عطفا لبيان ترك الدين، فدل هذا على أن إباحة الدم في ترك الدين يكون بترك الجماعة، وترك الجماعة يراد بها ترك الجماعة التي اجتمعت على الدين الحق بمفارقته للدين، وتركه للدين بما يكفره.
والثاني: يعني: مفارق للجماعة، جماعة الدين أو الاجتماع في الدين، والثاني: أن المفارقة للجماعة يعني بالخروج على الإمام، أو البغي، فيكون المفارقة للجماعة المقصود بها الاجتماع بالأبدان.
وهنا تكلم العلماء في كثير من المسائل التي تدخل تحت ترك الدين، فجعلوا باب الردة فيه، أو باب حكم المرتد فيه مسائل كثيرة، فيها يخرج المرء من الدين، ويكون مرتدا بذلك، فكل مسألة حكم العلماء فيها على أنها من أسباب الردة، أو بها يرتد المسلم، فإنه بعد اكتمال الشروط، وانتفاء الموانع يحل دمه، يعني: يحل دم المرتد، وكذلك المفارق للجماعة بالأبدان يحل دمه لقوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم فاقتلوه كائنا من كان﴾.
فدل هذا على أن ترك الجماعة، ومفارقة الجماعة يحصل بترك الدين، بالردة عن الدين، وبمفارقة الاجتماع على الإمام، وهذا ظاهر بين في تعلية ترك الدين بمفارقة الجماعة، ولهذا جعل أهل العلم في ترك الدين هذا كل المسائل التي يقتل بها.
إذا تقرر هذا فإن إحلال الدم هذا متوجه إلى الامام -إمام المسلمين- فإنه لا يجوز لأحد أن يستبيح دم أحد؛ لأنه عنده قد أتى بشيء من هذه الثلاث. فإذا قال: أنا رأيت هذا يزني رأيته بعيني فاستبحت دمه لذلك فإنه يقتل، ولا يجوز له؛ لأن الله -جل وعلا- جعل ثبوت الزنا منوطا بشهادة أربع.
ولو شهد ثلاثة من أعظم المسلمين صلاحا على حصول الزنا، وأنهم رأوا ذلك بأعينهم لَدُرِئَ الحدُّ، ولأقيم على هؤلاء الصلحاء حد القذف؛ لأنهم قذفوه، ولم يكمل أربعة من الشهداء، كما هو بين لكم في أوائل سورة النور.
كذلك من قال: هذا ارتد عن دينه فأنا أقيم عليه الحد وأقتله، وأبيح دمه لأجل هذا الحديث فإن هذا افتئات وتعد، ولا يباح له أن يفعل ذلك، ودمه لا يحل لكل أحد.
فإذن قوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث﴾ إحلاله لولي الأمر أو لنوابه ممن جعل الله -جل وعلا- إليهم إنفاذ الحدود وقتل من يستحق القتل، أما لو جعل هذا لكل أحد لصار في ذلك استباحة عظيمة للدماء؛ إذ المختلفون كثيرا ما يكفر أحدهم الآخر إذا لم يكونوا من أهل السنة والاعتدال، فإذا قيل بظاهره -ولا قائل به- فإنه يعني أن من حكم على الآخر بأنه كافر فإنه ينفذ ذلك.
ثم ها هنا مسألة متعلقة بذلك: إذا كان في بلد لا يوجد إمام أو ولي أمر ينفذ الأحكام، فهل للمسلم إذا ثبت عنده شيء من ذلك أن ينفذ الأحكام؟ والجواب: لا، كما هو قول عامة أهل العلم، إذ يشترط لإنفاذ الأحكام التي فيها استباحة للدم أو المال أو الأعراض، أو ما أشبه ذلك، هذا إنما يكون للإمام، فإذا لم يوجد لم يجز لأحد أن ينفذ هذا إلا في حالة واحدة وهي: أن يأتي أحد إلى من يرى فيه العلم أو الصلاح ويقول: أنا ارتكبت حدا -فيما دون القتل- يعني ارتكبت زنا، وكان غير محصن أو قال: شربت الخمر أو قذفت فلانا فطهرني بالجلد يعني: بما دون القتل فهذا لا بأس به عند كثير من أهل العلم؛ لأن إرادة التطهير له، وإذا جلد فإن هذا له، وليس فيه استباحة الدم.
أما استباحة الدم، أو تطبيق الحدود في غير حال من يرضى بتطبيقها عليه فإنه لا يجوز بقول عامة أهل العلم، فتلخص من هذا أن إقامة هذه الأشياء راجعة إلى الإمام ولي الأمر المسلم، أو من ينيبه.
والثاني: أنه في بلد لا يوجد فيها من ينفذ أحكام الله -جل وعلا- فلا يجوز إنفاذ أحكام القتل؛ لأن هذه معلقة بولي الأمر المسلم، والنبي -ﷺ- في مكة، والصحابة في بعض البلاد التي لا يقام لم يقيموا فيها ذلك، وكذلك العلماء في بعض البلاد كما كان في الدولة العبيدية، وأشباه ذلك فإن العلماء لم يقيموا الحدود بالقتل، وأشباه ذلك.
الحالة الثالثة: فيما دون القتل، يعني فيما فيه تطهير بجلد ونحوه: إذا اختار المسلم عالما وقال: طهرني بالجلد من ذلك فإن ذلك جائز؛ لأن هذا فيه حق له، ويريد التطهير ولا يتعدى ضرره، وهذا عند بعض أهل العلم.
وآخرون يشترطون في الجميع إذن الإمام، أو وجود ولي الأمر المسلم.
الشيخ ابن العثيمين
﴿لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ﴾ أي لا يحل قتله، وفسّرناها بذلك لأن هذا هو المعروف في اللغة العربية، قال النبي ﷺ : ﴿إِنَّ دِمَاءَكَمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاَضَكُمْ عَليْكُمْ حَرَامٌ﴾.
وقوله: ﴿امرِئٍ مُسْلِمٍ﴾ التعبير بذلك لايعني أن المرأة يحل دمها، ولكن التعبير بالمذكر في القرآن والسنة أكثر من التعبير بالمؤنث، لأن الرجال هم الذين تتوجه إليهم الخطابات وهم المعنيّون بأنفسهم وبالنساء.
وقوله: ﴿مُسْلِمٍ﴾ أي داخل في الإسلام.
﴿إِلاَّ بإِحْدَى ثَلاثٍ﴾ يعني بواحدة من الثلاث.
﴿الثَّيِّبُ الزَّانِي﴾ فالثيب الزاني يحلّ دمه، والثيب هو : ا لذي جامع في نكاح صحيح، فإذا زنا بعد أن أنعم الله عليه بنعمة النكاح الصحيح صار مستحقاً للقتل، ولكن صفة قتله سنذكرها إن شاء الله تعالى في الفوائد.
ومفهوم قوله ﴿الثَّيِّبُ﴾ أن البكر لايحل دمه إذا زنا، وهو الذي لم يجامع في نكاح صحيح.
﴿وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ﴾ المقصود به القصاص، أي أنه إذا قتل إنسانٌ إنساناً عمداً قُتِلَ به بالشروط المعروفة.
﴿وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ﴾ يعني بذلك المرتدّ بأي نوع من أنواع الرّدة.
وقوله: ﴿المُفَارِقُ للجَمَاعَةِ﴾ هذا عطف بيان، يعني أن التارك لدينه مفارق للجماعة خارج عنها.
من فوائد هذا الحديث:
1- احترام دماء المسلمين، لقوله: ﴿لا يَحِلُّ دَمُ امرِئٍ مُسلمٍ﴾ وهذا أمر مجمع عليه دلَّ عليه الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾ (النساء: 93).
فقتل المسلم المعصوم الدم من أعظم الذنوب، ولهذا أول ما يقضى بين الناس في الدماء.
2- أن غير المسلم يحلّ دمه ما لم يكن معَاهَداً، أومستأمِناً، أو ذميّاً، فإن كان كذلك فدمه معصوم.
والمعاهد: من كان بيننا وبينه عهد، كما جرى بين النبي ﷺ وقريش في الحديبية.
والمستأمن: الذي قدم من دار حرب لكن دخل إلينا بأمان لبيع تجارته أو شراء أو عمل، فهذا محترم معصوم حتى وإن كان من قوم أعداء ومحاربين لنا، لأنه أعطي أماناً خاصاً.
والذّميّ: وهو الذي يسكن معنا ونحميه ونذبّ عنه، وهذا هو الذي يعطي الجزية بدلاً عن حمايته وبقائه في بلادنا.
إذاً قوله: ﴿لايَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ﴾ يخرج بذلك غير المسلم فإن دمه حلال إلا هؤلاء الثلاثة.
3- حسن تعليم النبي ﷺ حيث يرد كلامه أحياناً بالتقسيم، لأن التقسيم يحصر المسائل ويجمعها وهو أسرع حفظاً وأبطأ نسياناً.
4- أن الثيب الزاني يقتل، برجمه بالحجارة، وصفته: أن يوقف ويرميه الناس بحجارة لاكبيرة ولا صغيرة، لأن الكبيرة تقتله فوراً فيفوت المقصود من الرّجم، والصغيرة يتعذّب بها قبل أن يموت، بل تكون وسطاً، فالثيب الزاني يرجم بالحجارة حتى يموت، سواء كان رجلاً أم امرأة.
فإن قال قائل: كيف تقتلونه على هذا الوجه، لماذا لا يقتل بالسيف وقد قال النبي ﷺ : ﴿إذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ﴾؟
فالجواب : أنه ليس المراد بإحسان القتلة سلوك الأسهل في القتل، بل المراد بإحسان القتلة موافقة الشريعة، كما قال الله عزّ وجل: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً﴾ (المائدة: من الآية 50) فرجم الزاني من القتلة الحسنة، لموافقة الشريعة.
فإن قال قائل: ما ا لحكمة من كونه يقتل علىهذا الوجه؟
فالجواب: أن شهوة الجماع لا تختص بعضو معين، بل تشمل كل البدن، فلما تلذذ بدن الزاني المحصن بهذه اللذة المحرّمة كان من المناسب أن يذوق البدن كلّه ألم هذه العقوبة التي هي الحدّ، فالمناسبة إذاً ظاهرة.
لكن بماذا يثبت الزّنا؟
الجواب: يثبت الزنا بشهادة أربعة رجال مرضيين أنهم رأوا ذكر الزاني في فرج المزني بها ولابدّ، والشهادة على هذا الوجه صعبة جداً، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: إنه لم يثبت الزنا بالشهادة قطّ، وهو في وقته.
والطريق الثاني لثبوت الزنا أن يقرّ الزاني بأنه زنا .
وهل يشترط تكرار الإقرار أربع مرات، أو يكفي الإقرار مرة واحدة، أو يفصل بين ما اشتهر وبين ما لم يشتهر؟
في هذا خلاف بين أهل العلم:
فمن قال لابد من التكرار استدل بقصة ماعز بن مالك رضي الله عنه فإنه أتى إلى النبي ﷺ وقال: إنه زنا، فأعرض عنه، ثم عاد فقال: إنه زنا، فأعرض عنه، ثم عاد فقال: إنه زنا، فأعرض عنه، ثم عاد فقال: إنه زنا، أربع مرات، فقال له: أَبِكَ جُنُونٌ؟ فقال: لا، فأرسل إلى قومه. هل عهدتم بماعز جنونا ً؟ فقالوا: لا، فأمر رجلاً أن يستنكهه، أي يشم رائحته هل قد شرب الخمر وهو سكران، فلم يجد فيه شيئاً، ثم أمر به فَرُجِمَ.
والاستدلال بقصة ماعز التي وردت على هذه الصفة بأنه لابد من تكرار الإقرار في النفس منه شيء، لأن ظاهر القصة أن النبي ﷺ لم يقبل منه الإقرار في أ ول مرة لكونه شاكّاً فيه حتى استثبت.
أما الذين قالوا يكفي الإقرار مرة واحدة فاستدلوا بقصة المرأة التي زنا بها الأجير عند زوجها، وكان هذا الزاني شاباً، وشاعت القصة وقيل لأبيه إنه يجب أن تفدي ولدك بمائة شاة وجارية، ففعل، فسأل أهل العلم فقالوا: ليس عليك هذا، على ابنك جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأة الرجل الرجم، فترافعا إلى النبي ﷺ فقال: ﴿الغَنَمُ وَالوَلِيْدَةُ﴾ أي الجارية ﴿رَدٌّ عَلَيْكَ﴾ أي مردودة عليك، لأنها أخذت بغير حق ﴿وَعَلَى ابنِكَ جَلْدُ مَائَةٍ وَتَغْرِيْبُ عَامٍ﴾ لأنه لم يتزوج ﴿وَاغْدُ يَا أَنِيْسُ إِلَى امْرَأةِ هَذَا فَإِن اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا﴾ فغدا إليها فاعترفت، فرجمها.
ولم يقلّ النبي ﷺ فإن اعترفت أربع مرات، بل قال: إن اعترفت فارجمها، وهذا يدل على عدم اشتراط تكرار الإقرار، ولأن جميع الحقوق التي يقرّ بها الإنسان على نفسه لا تحتاج إلىتكرار، فهكذا الزنا.
وقال بعض أهل العلم: إن اشتهر الأمر وانتشر بين الناس اكتفي بإقرار مرة واحدة، وإلا فلابد من التكرار، وعللوا ذلك: بأن هذه القصة اشتهرت بين الناس، وأن هذا الأجير زنا بامرأة مستأجره فاستغني بشهرتها عن تكرار الإقرار.
والأقرب أنه لايشترط تكرار الإقرار، إلا إذا كان هناك شبهة، وإلا فأكبر بيّنة وأكبر دليل أن يقرّ الفاعل، فكيف يقرّ وهو بالغ عاقل يدري ما يقول ثم نقول: لا حكم لهذا الإقرار، فلو أقرّ ثلاث مرات لا نعتبره إقراراً.
فالصواب: أن الإقرار مرة واحدة يكفي إلا مع وجود شبهة.
وهل اللواط مثل الزنا؟
فالجواب: نعم مثل الزنا بل أخبث، فاللواط لايشترط أن يكون اللائط أو الملوط به ثيباً، وإنما يشترط أن يكونا بالغين عاقلين، فإذا كانا بالغين عاقلين أقيم عليهما الحد.
والحد: قال فقهاء الحنابلة: الحد كحد الزنا، فيرجم الثيب، ومن ليس بثيبٍ يجلد مائة جلدةويغرّب سنة.
ولكن هذا يحتاج إلى دليل، ولا دليل على هذا إلا تعليل عليل، وهو أن اللواط وطء في فرج محرّم فكان الواجب فيه ما يجب بالزنا.
لكن يقال: هذا قياس مع الفارق، لأن فاحشة اللواط أعظم من فاحشة الزنا.
وقال بعض العلماء: بل يعزر الفاعل والمفعول به تعزيراً فقط، وهذا ليس بصواب لما سيأتي إن شاء الله تعالى في ذكر دليل من يرى وجوب قتلهما بكل حال.
ومن غرائب العلم أني رأيت منقولاً عن بعض العلماء من يقول: لاشيء عليهما اكتفاءً بالرادع الفطري، قال: لأن النفوس لا تقبل هذا إطلاقاً يعني أن يتلوّط رجل برجل، فاكتفي بالرادع الفطري عن الرادع بالعقوبة، وقال: هذا كما لو أن الإنسان أكل عذرة فإنه لا يعاقب، ولو شرب خمراً فإنه يعاقب.
ولكن هذا غلط عظيم على الشريعة، وقياس باطل، لأننا لانسلم أن من أكل عذرة لانعاقبه، بل نعاقبه لأن هذا معصية، والتعزير واجب في كل معصية لاحد فيها ولا كفارة.
وإنما ذكرت هذا القول لأبين أنه قول باطل لاتجوز حكايته، إلا لمن أراد أن يبطله: كالحديث الضعيف لايجوز ذكره إلا لمن أراد أن يبين أنه ضعيف.
والقول الصواب في هذا: إن الفاعل والمفعول به يجب قتلهما بكل حال، لأن هذه الجرثومة في المجتمع إذا شاعت وانتشرت فسد المجتمع كله، وكيف يمكن للإنسان المفعول به أن يقابل الناس وهو عندهم بمنزلة المرأة يُفعل به، فهذا قتل للمعنويات والرجولة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أجمع الصحابة على قتل الفاعل والمفعول به، وقد ورد فيه حديث: ﴿مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الفَاعِلَ وَالمَفْعُولَ بهِ﴾ قال شيخ الإسلام: لكن الصحابة اختلفوا كيف يقتل الفاعل والمفعول به؟
فقيل:يحرقان بالنار، وروي هذا عن أبي بكر رضي الله عنه وذلك لشناعة عملهما، فيعاقبان بأشنع عقوبة وهو التحريق بالنار، ولأن تحريقهما بالنار أشد ردعاً لغيرهما.
وقال بعضهم: يرجمان كما يرجم الثيب الزاني
وقال آخرون: يصعد بهما إلى أعلى شاهق في البلد ثم يرميان ويتبعان بالحجارة بناء على أن قوم لوط فعل الله تعالى بهم هكذا.
وأهم شيء عندنا أنه لابد من قتل الفاعل والمفعول به على كل حال إذا كانا بالغين عاقلين، لأن هذا مرض فتّاك لايمكن التحرّز منه، فأنت مثلاً لو رأيت رجلاً مع امرأة واستنكرت ذلك فممكن أن تقول: من هذه المرأة؟ لكن رجل مع رجل لايمكن، فكل الرجال يمشي بعضهم مع بعض.
إذاً الثيب الزاني دمه حلال، ولكن إذا كان دمه حلالاً فهل لكل واحد أن يقيم عليه الحد؟
فالجواب: لا، ليس لأحد أن يقيم عليه الحد إلا الإمام أو من ينيبه الإمام، لقول النبي ﷺ : ﴿أُغْدُ يَا أَنِيْسُ إِلَى امْرأةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارجُمْهَا﴾ ولو قلنا لكل إنسان أن يقتل هذا الزاني لأن دمه هدر لحصل من الفوضى والشر ما لايعلمه إلا الله عزّ وجل، ولهذا قال العلماء: لاتجوز إقامة الحدود ولا التعزيرات إلا للإمام أو نائبه.
الثاني ممن يباح دمه: ﴿النَّفْسُ بالنَّفسِ﴾ أي إذا قتل الإنسان شخصاً مكافئاً له في الدين والحرية والرّق قتل به.
وعلى قولنا: في الدين وهو أهم شيء لايقتل المسلم بالكافر، لأن المسلم أعلى من الكافر، ويقتل الكافر بالمسلم لأنه دونه.
وهل يشترط أن لايكون القاتل من أصول المقتول، أو لا يشترط؟
فالجواب: قال بعض أهل العلم إنه يشترط أن لايكون القاتل من أصول المقتول والأصول هم: الأب والأم والجد والجدة وما أشبه ذلك، وقالوا: لا يقتل والد بولده واستدلّوا بحديث: ﴿لا يُقتَلُ الوَالِدُ بوَلَدِهِ﴾، وبتعليل قالوا: لأن الوالد هو الأصل في وجود الولد فلا يليق أن يكون الولد سبباً في إعدامه.
وقال بعض أهل العلم: هذا ليس بشرط، وأنه يقتل الوالد بالولد إذا علمنا أنه قتله عمداً، واستدلوا بعموم الحديث: ﴿النَّفْسُ بالنَّفسِ﴾ وعموم قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ (المائدة: من الآية 45) .
وأجابوا عن أدلة الآخرين فقالوا: الحديث ضعيف، ولايمكن أن يقاوم النصوص المحكمة الدّالة على قتل النفس بالنفس.
وأما التعليل فالتعليل عليل، وجه ذلك: أن الوالد إذا قتل الولد ثم قتِلَ به فليس الولد هو السبب في إعدامه، بل السبب في إعدامه فعل الوالد القاتل، فهو الذي جنى علىنفسه، وهذا القول هو الراجح لقوة دليله بالعمومات التي ذكرناها، ولأن هذا من أشدّ قطيعة الرحم، فكيف نعامل هذا القاطع الظالم المعتدي بالرّفق واللين، ونقول: لا قصاص عليه.
فالصواب: أن الوالد يقتل بولده سواء بالذكر كالأب، أو الأنثى كالأم.
﴿التَّارِكُ لدينِهِ﴾ أي المرتدّ المُفارقُ للجَمَاعَةِ المراد بالجماعة أي جماعة المسلمين فالمرتد يقتل .
ولكن هل يستتاب قبل أن يقتل؟
في ذلك خلاف بين العلماء: منهم من قال: لايستتاب، بل بمجرّد أن يثبت كفره فإنه يقتل لقول النبي ﷺ : ﴿مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلوهُ﴾ ولم يذكر استتابة.
ومنهم من قال: يستتاب ثلاثة أيام إن كان ممن تقبل توبتهم، لأن المرتدين بعضهم تقبل توبتهم، وبعضهم لاتقبل، فإذا كان ممن تقبل توبته فإننا نستتيبه ثلاثة أيام، أي نحبسه ونقول: لك مهلة ثلاثة أيام فإن أسلم رفعنا عنه القتل، وإن لم يسلم قتلناه.
والصحيح في الاستتابة: أنها ترجع إلى اجتهاد الحاكم، فإن رأى من المصلحة استتابته استتابه، وإلا فلا، لعموم قوله : ﴿مَنْ بَدَّلَ دِيْنَهُ فَاقتُلُوهُ﴾ ولأن الاستتابة وردت عن الصحابة رضي الله عنهم.
وهذا يختلف فقد يكون هذا الرجل الكافر أعلن كفره واستهتر فلاينبغي أن نستتيبه، وقد يكون أخفى كفره وتاب إلى الله ورأينا منه محبة التوبة، فلكل مقام مقال.
وقولنا: يستتاب من تقبل توبته إشارة إلى أن المرتدين قسمان:
قسم تقبل توبتهم، وقسم لاتقبل.
قال أهل العلم: من عظمت ردته فإنه لاتقبل توبته بأن سب الله، أو سب رسوله، أو سب كتابه، أو فعل أشياء منكرة عظيمة في الردة، فإن توبته لاتقبل، ومن ذلك المنافق فإنه لاتقبل توبته، لأن المنافق من الأصل يقول إنه مسلم، فلا تقبل توبته.
وقيل: إن توبته مقبولة ولو عظمت ردته ولو سب الله أو رسوله أو كتابه ولو نافق، وهذا القول هو الراجح، لكن يحتاج إلى تأنٍّ ونظر: هل هذا الرجل يبقى مستقيماً أو لا؟
فإذا علمنا من حاله أنه صادق التوبة قبلنا توبته لعموم قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً﴾ (الزمر: من الآية 53) ولقول النبي ﷺ : ﴿التَّوبَةُ تَهْدِمُ مَا قَبْلَهَا﴾ وهذا عام، وهذا القول هو الراجح وله أدلة.
اما المستهزئ فتقبل توبته بدليل قول الله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ* لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ (التوبة: 65-66) ولا عفو إلا بالتوبة.
وفي المنافقين قال الله تعالى ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً﴾ (النساء: 145-146).
فالصواب: أن كل كافر أصلي أو مرتدّ إذا تاب من أي نوع من الكفر فإن توبته مقبولة.
ولكن مثل هؤلاء يحتاجون إلى مراقبة أحوالهم: هل هم صادقون، أو هم يستهزؤون بنا؟ يقولون: إنهم رجعوا إلى الإسلام وهم لم يرجعوا.
وإذا تاب يرتفع عنه القتل، لأن إباحة قتله إنما كانت لكفره، فإذا قبلنا توبته ارتفع الكفرعنه فارتفع قتله إلا من سب الرسول ﷺ فإن توبته تقبل لكن يجب أن يقتل، ويقتل مسلماً بحيث نغسله ونكفنه ونصلي عليه وندفنه مع المسلمين، لكننا لانبقيه حياً. ومن سب الله عزّ وجل إذا تاب فإنه لا يقتل.
فإن قال قائل: على ضوء هذا الكلام أيكون سب الله عزّ وجل دون سب الرسول ﷺ؟
فالجواب: لا والله لا يكون، بل سب الله أعظم، لكن الله تعالى قد أخبرنا أنه عافٍ عن حقه إذا تاب العبد، فإذا تاب علمنا أن الله تاب عليه.
أما الرسول ﷺ فإنه لم يقل: من سبّني أو استهزأ بي ثم تاب فأنا أسقط حقي، وعلى هذا فنحن نقتله لأن سب الرسول ﷺ حق آدمي لم نعلم أنه عفا عنه.
فإن قال قائل: إن النبي ﷺ عفا عن أناس سبّوه في عهده وارتفع عنهم القتل؟
فالجواب: هذا لا يمنع ما قلنا به لأن الحق حقه، وإذا عفا علمنا أنه أسقط حقه فسقط، لكن بعد موته هل نعلم أنه أسقط حقه؟
الجواب: لا نعلم، ولا يمكن أن نقيس حال الموت علىحال الحياة، لأننا نعلم أن هذا القياس فاسد، ولأننا نخشىأن يكثر سب الرسول ﷺ لأن هيبة الرسول ﷺ في حياته أعظم من هيبته بعد مماته. والله أعلم
الشيخ صالح آل الشيخ
هذا الحديث حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- فيه ذكر ما به يحل دم المرء المسلم، فإنه تقدم لنا قول النبي -ﷺ-: ﴿أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله -عز وجل-﴾.
فهذا الحديث فيه أن دم المسلم معصوم، وأنه إذا شهد لا إله إلا الله، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، يعني: أدى حقوق التوحيد فإنه معصوم الدم، وحرام المال، هذا الحديث حديث ابن مسعود فيه الأحوال التي يباح بها دم المسلم الموحد، الذي شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأتى بحقوق ذلك، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿لا يحل دم امرئ مسلم...﴾ وقوله: "لا يحل" يعني: يحرم، وهو كبيرة من الكبائر أن يباح دم مسلم بغير حق؛ ولهذا ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ﴿لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض﴾ فجعل ضرب المسلم أخاه المسلم، وقتله بغير حق من خصال أهل الكفر.
وثبت عنه أيضا -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ﴿إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله ! هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه﴾ وهذا يدل على أن من سعى في قتل المسلم، وأتى بالأسباب التي بها يقتل المسلم فإنه في النار، قال: ﴿فالقاتل والمقتول في النار﴾ وهذا لا ينافي عدم المؤاخذة، مؤاخذة المسلم بهمه.
وما جاء في الحديث ﴿إذا هم عبدي بالسيئة فلا تكتبوها عليه﴾ والحديث الآخر -أيضا- الذي في الصحيح ﴿إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم﴾؛ لأن هذا الحديث الذي هو ﴿القاتل والمقتول في النار﴾ المقتول وإن لم يفعل فهو في النار؛ لأنه قد سعى في الأسباب، وعدم الحصول لم يكن لإرادته عدم الحصول، وإنما لتخلف ذلك عنه بأمر قدري، فيدل هذا على أن من سعى في أسباب القتل، أو في أسباب المحرم، وتمكن منها لكن تخلفت عنه لسبب ليس إليه فإنه يعتبر كفاعلها من جهة الإثم، بل إن الذي يرضى بالذنب كالذي فعله يعني: من جهة الإثم وهذا ظاهر من الأدلة.
فقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا: ﴿لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث﴾ يدل على تعظيم حرمة دم المرء المسلم، وقوله: ﴿دم امرئ مسلم﴾ هنا قال: مسلم، والمقصود بالمسلم هو: الذي حقق الإسلام، يعني: أصبح مسلما على الحقيقة، لا على الدعوة، يعني: من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأتى بالتوحيد.
أما المشرك -الشرك الأكبر- والمبتدع -البدعة المكفرة المخرجة من الدين- وأشباه ذلك فلا يدخلوا في وصف الإسلام في هذا الحديث، ولا في غيره؛ لأن المسلم هو من حقق الإسلام بتحقيق التوحيد يعني: بإتيانه بالشهادتين ومقتضى ذلك، وكونه لم يرتكب مكفرا، ولا شركا أكبر. قال: ﴿إلا بإحدى ثلاث﴾ وهذا استثناء أو يسمى حصرا؛ لأنه استثناء بعد النفي.
والاستثناء بعد النفي يدل على الحصر، وقوله -عليه الصلاة والسلام- في أولها: "لا يحل" أتى على النفي، ومجيء النفي يدل على النهي، بل مجيء النفي أبلغ من مجرد النهي، يعني: كأنه صار حقيقة ماضية، أنه لا يحل، بحيث إن النهي عنه قد تقرر، وإنما ينفي وجوده في الشريعة أصلا، وله نظائر كقوله: ﴿لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ﴾ وأشباه ذلك مما يعدل فيه من النهي إلى النفي للمبالغة في النهي، وهذه قاعدة معروفة في اللغة وفي أصول الفقه.
قال: ﴿إلا بإحدى ثلاث﴾ هذه الثلاث أصول، قال فيها: الثيب الزاني، والزاني له حالات: إما أن يكون ثيبا، يعني: أنه قد ذاق العُسَيْلة من قبل، يعني: أنه سبق له أن أحصن -أن تزوج- بعقد شرعي صحيح، فهذا يقال له: ثيب، إذا كان كذلك فإنه لا يكون ثيبا بزنا، ولا يكون ثيبا بعقد فاسد باطل، ولا يكون ثيبا بعقد متعة، متعة زواج وأشباه ذلك، لا يكون محصنا ثيبا في الشريعة إلا إذا تزوج، نكح نكاحا صحيحا مستوفيا للشروط.
فالثيب إذا زنى فإنه يحل دمه، وقد كان فيما أنزل ونسخ لفظه وبقى حكمه قوله -جل وعلا-: "والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم"، وفيما بقي لفظا وحكما قول الله -جل وعلا-: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ فدلت الآية على عموم أن الزاني يجلد مائة، ودلت الآية التي نسخ لفظها وبقي حكمها أنه يرجم.
وكذلك السنة دلت على الرجم، ودلت أيضا على الجمع بين الجلد والرجم؛ ولهذا اختلف العلماء في الزاني الثيب هل يجمع له بين الجلد والرجم؟ يعني: هل يجلد أولا ثم يرجم؟ أم يكتفى فيه بالرجم؟ والنبي -عليه الصلاة والسلام- رجم أو أمر برجم ماعز والغامدية، وأمر برجم اليهودي واليهودية، وأشباه ذلك في حوادث تدل على أن الرجم فُعِل من غير جلد. وقد قال بعض أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم كعلي -رضي الله عنه-: إنه يجلد ثم يرجم، كما ثبت في صحيح البخاري -رحمه الله- ﴿أن عليا جلد زانيا ثيبا ثم رجمه فقال: جلدته بكتاب الله ورجمته بسنة رسول الله -ﷺ-﴾ يريد -رضي الله عنه- أنه جلده بعموم قوله -جل وعلا-: ﴿فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ لأن الآية ليس فيها تفصيل هل هو محصن أم غير محصن؟ هل هو ثيب أم بكر؟
والسنة فيها الرجم، فدل هذا عنده -رضي الله عنه- على الجمع بين الجلد والرجم، وهو رواية عن الإمام أحمد، وكثير من أهل العلم على الاكتفاء بالرجم؛ لأن النبي -ﷺ- اكتفى بالرجم في حوادث كثيرة، أو في حوادث متعددة، حيث رجم ماعزا والغامدية، واليهودي واليهودية دون جلد -كما هو معروف-. فقال بعضهم: الجمع بين الجلد والرجم راجع إلى الإمام فيما يراه من جهة كثرة النكال، والمبالغة فيه.
المقصود من هذا: أن الثيب إذا زنى، وتحققت شروط الزنا كاملة، بما هو معروف بشهادة أربعة، أو باعترافه على نفسه اعترافا محققا، لا يرجع فيه أنه يرجم، وذلك حتى يموت، قال هنا: ﴿الثيب الزاني﴾ يعني: يحل دمه، يحل دم الثيب إذا زنى، قال: ﴿والنفس بالنفس﴾ النفس بالنفس هذه كما قال -جل وعلا- في القرآن: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ وقال -جل وعلا- أيضا: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ اْلأُنْثَى بِاْلأُنْثَى﴾ الآية فدل ذلك على أن النفس تقتل بالنفس، فإذا اعتدى أحد على نفس معصومة فإنه يقتل، إذا كان اعتداؤه بالقتل عمدا.
ثم نظر أهل العلم في قوله: ﴿النفس بالنفس﴾ هل هذا عام لا تخصيص فيه؟ أو هو عام مخصوص؟ أو هو مقيد في أقوال لهم؟
والذي عليه جهور أهل العلم أن قوله: ﴿النفس بالنفس﴾ هذا يقيد بأن النفس تكون مكافئة للنفس بدلالة السنة على ذلك، كما قال -جل وعلا-: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ اْلأُنْثَى بِاْلأُنْثَى﴾.
والسنة دلت على أن المسلم لا يقتل بكافر، وعلى أن الحر لا يقتل بعبد، حتى في القصاص في الأطراف بين الحر و العبد لا توجد المكافأة وهكذا.
فإذن لا بد من وجود المكافأة من جهة الدين، ومن جهة الحرية فقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا: "النفس بالنفس" يعني فيما دلت عليه الآية -آية البقرة- ودلت عليه مواضعها من السنة أن النفس المكافئة للنفس.
أما قتل كل نفس بكل نفس فهذا خلاف السنة، وذهب أبو حنيفة الإمام المعروف -رحمه الله- وأصحابه إلى أن المسلم يقتل بالكافر لعموم الآية ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ ولعموم الحديث، وعلى أن الحر يقتل بالعبد، والجمهور على إعمال الأحاديث الأُخَر في هذا الباب من أن النفس بالنفس تقيد بما جاء في الأحاديث، فيكون هذا من العام المخصوص.
قال: ﴿والتارك لدينه المفارق للجماعة﴾. "التارك لدينه" فسرت بتفسيرين:
الأول: التارك لدينه يعني: المرتد الذي ترك دينه كله فارتد عن الدين، فيباح دمه.
والتفسير الثاني: أن التارك للدين هو: من ترك بعض الدين، مما فيه مفارقة للجماعة، يعني: ترك بعض أمر الدين، مما فيه المفارقة للجماعة، قالوا: ولهذا عطف ﴿المفارق للجماعة﴾ على ﴿التارك لدينه﴾ فقال: ﴿والتارك لدينه المفارق للجماعة﴾ فجعل مفارقة الجماعة عطفا لبيان ترك الدين، فدل هذا على أن إباحة الدم في ترك الدين يكون بترك الجماعة، وترك الجماعة يراد بها ترك الجماعة التي اجتمعت على الدين الحق بمفارقته للدين، وتركه للدين بما يكفره.
والثاني: يعني: مفارق للجماعة، جماعة الدين أو الاجتماع في الدين، والثاني: أن المفارقة للجماعة يعني بالخروج على الإمام، أو البغي، فيكون المفارقة للجماعة المقصود بها الاجتماع بالأبدان.
وهنا تكلم العلماء في كثير من المسائل التي تدخل تحت ترك الدين، فجعلوا باب الردة فيه، أو باب حكم المرتد فيه مسائل كثيرة، فيها يخرج المرء من الدين، ويكون مرتدا بذلك، فكل مسألة حكم العلماء فيها على أنها من أسباب الردة، أو بها يرتد المسلم، فإنه بعد اكتمال الشروط، وانتفاء الموانع يحل دمه، يعني: يحل دم المرتد، وكذلك المفارق للجماعة بالأبدان يحل دمه لقوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم فاقتلوه كائنا من كان﴾.
فدل هذا على أن ترك الجماعة، ومفارقة الجماعة يحصل بترك الدين، بالردة عن الدين، وبمفارقة الاجتماع على الإمام، وهذا ظاهر بين في تعلية ترك الدين بمفارقة الجماعة، ولهذا جعل أهل العلم في ترك الدين هذا كل المسائل التي يقتل بها.
إذا تقرر هذا فإن إحلال الدم هذا متوجه إلى الامام -إمام المسلمين- فإنه لا يجوز لأحد أن يستبيح دم أحد؛ لأنه عنده قد أتى بشيء من هذه الثلاث. فإذا قال: أنا رأيت هذا يزني رأيته بعيني فاستبحت دمه لذلك فإنه يقتل، ولا يجوز له؛ لأن الله -جل وعلا- جعل ثبوت الزنا منوطا بشهادة أربع.
ولو شهد ثلاثة من أعظم المسلمين صلاحا على حصول الزنا، وأنهم رأوا ذلك بأعينهم لَدُرِئَ الحدُّ، ولأقيم على هؤلاء الصلحاء حد القذف؛ لأنهم قذفوه، ولم يكمل أربعة من الشهداء، كما هو بين لكم في أوائل سورة النور.
كذلك من قال: هذا ارتد عن دينه فأنا أقيم عليه الحد وأقتله، وأبيح دمه لأجل هذا الحديث فإن هذا افتئات وتعد، ولا يباح له أن يفعل ذلك، ودمه لا يحل لكل أحد.
فإذن قوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث﴾ إحلاله لولي الأمر أو لنوابه ممن جعل الله -جل وعلا- إليهم إنفاذ الحدود وقتل من يستحق القتل، أما لو جعل هذا لكل أحد لصار في ذلك استباحة عظيمة للدماء؛ إذ المختلفون كثيرا ما يكفر أحدهم الآخر إذا لم يكونوا من أهل السنة والاعتدال، فإذا قيل بظاهره -ولا قائل به- فإنه يعني أن من حكم على الآخر بأنه كافر فإنه ينفذ ذلك.
ثم ها هنا مسألة متعلقة بذلك: إذا كان في بلد لا يوجد إمام أو ولي أمر ينفذ الأحكام، فهل للمسلم إذا ثبت عنده شيء من ذلك أن ينفذ الأحكام؟ والجواب: لا، كما هو قول عامة أهل العلم، إذ يشترط لإنفاذ الأحكام التي فيها استباحة للدم أو المال أو الأعراض، أو ما أشبه ذلك، هذا إنما يكون للإمام، فإذا لم يوجد لم يجز لأحد أن ينفذ هذا إلا في حالة واحدة وهي: أن يأتي أحد إلى من يرى فيه العلم أو الصلاح ويقول: أنا ارتكبت حدا -فيما دون القتل- يعني ارتكبت زنا، وكان غير محصن أو قال: شربت الخمر أو قذفت فلانا فطهرني بالجلد يعني: بما دون القتل فهذا لا بأس به عند كثير من أهل العلم؛ لأن إرادة التطهير له، وإذا جلد فإن هذا له، وليس فيه استباحة الدم.
أما استباحة الدم، أو تطبيق الحدود في غير حال من يرضى بتطبيقها عليه فإنه لا يجوز بقول عامة أهل العلم، فتلخص من هذا أن إقامة هذه الأشياء راجعة إلى الإمام ولي الأمر المسلم، أو من ينيبه.
والثاني: أنه في بلد لا يوجد فيها من ينفذ أحكام الله -جل وعلا- فلا يجوز إنفاذ أحكام القتل؛ لأن هذه معلقة بولي الأمر المسلم، والنبي -ﷺ- في مكة، والصحابة في بعض البلاد التي لا يقام لم يقيموا فيها ذلك، وكذلك العلماء في بعض البلاد كما كان في الدولة العبيدية، وأشباه ذلك فإن العلماء لم يقيموا الحدود بالقتل، وأشباه ذلك.
الحالة الثالثة: فيما دون القتل، يعني فيما فيه تطهير بجلد ونحوه: إذا اختار المسلم عالما وقال: طهرني بالجلد من ذلك فإن ذلك جائز؛ لأن هذا فيه حق له، ويريد التطهير ولا يتعدى ضرره، وهذا عند بعض أهل العلم.
وآخرون يشترطون في الجميع إذن الإمام، أو وجود ولي الأمر المسلم.