الشيخ صالح آل الشيخ
هذا الحديث أدب من الآداب العظيمة، وهو صنو حديث: ﴿من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه﴾ من جهة أنه أصل في الآداب العامة، وهذا الحديث دل على أن من صفات المؤمن بالله وباليوم الآخر، الذي يخاف الله ويتقيه، ويخاف ما يحصل له في اليوم الآخر، ويرجو أن يكون ناجيا في اليوم الآخر، أن من صفاته أنه يقول الخير أو يصمت. ومن صفاته أنه يكرم الجار. ومن صفاته أنه يكرم الضيف. ومن صفاته أنه يكرم الجار، هذا بعموم ما دل عليه الحديث، الحديث دل على أن الحقوق منقسمة إلى: حقوق لله، وحقوق للعباد.
وحقوق الله -جل وعلا- مدارها على مراقبته، ومراقبة الحق -جل وعلا- أعسر شيء أن تكون في اللسان، ولهذا نبه بقوله: ﴿من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت﴾ على حقوق الله -جل وعلا-، والتي من أعسرها من حيث العمل والتطبيق: حفظ اللسان، وهنا أمره بأن يقول خيرا أو أن يصمت، فدل على أن الصمت متراخ في المرتبة عن قول الخير؛ لأنه ابتدأ الأمر بقول الخير فقال: ﴿فليقل خيرا﴾ فهذا هو الاختيار، هو المقدم أن يسعى في أن يقول الخير.
والمرتبة الثانية: أنه إذا لم يجد خيرا يقوله أن يختار الصمت؛ وهذا لأن الإنسان محاسب على ما يتكلم به، وقد قال -جل وعلا-: ﴿لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾.
فهذا الحديث فيه: ﴿فليقل خيرا﴾ وعلق هذا بالإيمان بالله واليوم الآخر، وقول الخير متعلق بالثلاثة التي في آية النساء قال: ﴿إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ فالصدقة واضحة والإصلاح أيضا واضح، والمعروف هو ما عرف حسنه في الشريعة، ويدخل في ذلك جميع الأمر بالواجبات والمستحبات، وجميع النهي عن المحرمات والمكروهات، وتعليم العلم والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر... إلخ.
فإذن قوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿فليقل خيرا﴾ يعني: فليقل أمرا بالصدقة، فليقل أمرا بالمعروف، فليقل بما فيه إصلاح بين الناس، وغير هذه ليس فيها خير، ما خرج عن هذه فإنه ليس فيها خير، وقد تكون من المباحة، وقد تكون من المكروهة، وإذا كان كذلك فالاختيار أن يصمت، وخاصة إذا كان في ذلك إحداث لإصلاح ذات البين، يعني أن يكون ما بينه وبين الناس صالحا على جهة الاستقامة بين المؤمنين الإخوة.
قال -عليه الصلاة والسلام- هنا: ﴿من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت﴾ يعني أن حفظ اللسان من الفضول بقول الخير، أو بالصمت إن لم تجد خيرا أن هذا من علامات الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لأن أشد شيء على الإنسان أن يحفظه لسانه، لهذا جاء في حديث معاذ المعروف أنه سأل النبي -ﷺ- لما قال له -عليه الصلاة والسلام-: ﴿وكف عليك هذا﴾ فاستعجب معاذ ﴿فقال: يا رسول الله أوإنا مؤاخذون بما نقول؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على مناخرهم -أو قال: على وجوههم- إلا حصائد ألسنتهم﴾ فدل على أن اللسان خطير تحركه، إذا لم يكن تحركه في خير فإنه عليك لا لك.
والتوسع في الكلام المباح قد يؤدي إلى الاستئناس بكلام مكروه أو كلام محرم كما هو مجرب في الواقع، فإن الذين توسعوا في الكلام، وأكثروا منه في غير الثلاثة المذكورة في الآية جرهم ذلك إلى أن يدخلوا في أمور محرمة من غيبة أو نميمة أو بهتان أو مداهنة، أو ما أشبه ذلك مما لا يحل.
فإذن الإيمان بالله واليوم الآخر يحض على حفظ اللسان، وفي حفظ اللسان الإشارة لحفظ جميع الجوارح الأُخر؛ لأن حفظ اللسان أشد ذلك، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ﴿من ضمن لي ما بين لَحيَيْهِ وما بين فخذيه ضمنت له الجنة﴾.
ثم قال -عليه الصلاة والسلام- ﴿ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره﴾ وإكرام الجار يعني: أن يكون معه على صفة الكرم، والكرم هو: اشتمال الصفات المحمودة التي يحسن اجتماعها في الشيء فيقال: هذا كريم؛ لأنه ذو صفات محمودة، وفي أسماء الله -جل وعلا- الكريم، والكريم في أسماء الله -جل وعلا- هو: الذي تفرد بصفات الكمال، والأسماء الحسنى فاجتمع له -جل وعلا- الحسن الأعظم في الأسماء، والعلو في الصفات، والحكمة في الأفعال.
فالكريم: من فاق -يعني في اللغة- من فاق جنسه في صفات الكمال. فالإكرام هو: أن تسعى في تحقق صفات الكمال، أو في تحقيقها، فإكرام الجار: أن تسعى في تحقيق صفات الكمال التي تتطلبها المجاورة.
وإكرام الضيف: أن تسعى في تحقيق صفات الكمال التي تتطلبها الضيافة.
وقوله: "فليكرم جاره" على هذا، يدخل فيه إكرام الجار بالألفاظ الحسنة، إكرام الجار بحفظ الجار في أهله، حفظ الجار في عرضه، في الاطلاع على مسكنه.
ويدخل في هذا حفظ الجار في أداء الحقوق العامة له، في الجدار الذي بينهما، أو النوافذ التي تطل على الجار، أو في موقف السيارات -مثلا- أو في غذاء الأطفال، أو ما أشبه ذلك، فيدخل هذا جميعا في إكرام الجار، ويدخل فيه -أيضا- أن يكرم الجار في المطعم والملبس، وأشباه ذلك يعني أنه إذا كان عنده طعام فإنه يطعم جاره منه.
وقد كان -عليه الصلاة والسلام- ربما طُهِىَ في بيته بعضُ اللحم فقال: ﴿أرسلوا لجارنا اليهودي من مرقة هذا اللحم﴾ وهذا في حق الجار الكافر، ولهذا رأى طائفة من أهل العلم كأحمد في رواية، وكغيره أن إكرام الجار في هذا الحديث عام يدخل فيه إكرام الجار المسلم، وإكرام الجار الكافر.
وإكرام الجار المسلم له حقان: لإسلامه ولجواره، فإذا إكرام الجار كلمة عامة يدخل فيها أداء ما له من الحقوق، وكف الأذى عنه، وبسط اليد له بالطعام وما يحتاجه، وهذا -أيضا- مع قول الله -جل وعلا-: ﴿الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ والماعون هو: ما يحتاج إليه في الإعارة.
﴿وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ يعني: يمنعون ما يحتاج إليه المسلمون في الإعارة، فإذا احتاج جارك إلى أن تعيره شيئا من أدوات الطهي أو شيئا من أدوات المنزل، أو من الأثاث، أو ما أشبه ذلك فإن من إكرامه أن تعطيه ذلك.
أما إذا كان يتعدى على أشيائك، ويتلف المال فهذا لا يكون له الحق في إكرامه بذلك؛ لأنه مظنة التعدي.
الجار هنا قسمان: جار قريب، وجار بعيد، وفي القسمين جاء قول الله -جل وعلا- في سورة النساء: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ فقوله: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ فسرت بتفسيرين:
الأول: أن الجار ذي القربى هو من له جوار وقرابة فقدمه على الجار الجنب يعني الذي ليس له قرابة، التفسير الثاني: أن الجار ذا القربى في قوله: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ أنه الجار القريب والجار الجنب أنه الجار البعيد؛ لأن كلمة "جنب" في اللغة تعني: البعيد، ومنه سميت "الجنابة" جنابة، وفلان جنب لأنه من البعد، فدل هذا على أن إكرام الجار يدخل فيه الجار القريب والجار البعيد.
ما حد الجار البعيد؟ بعضهم حده بسبعة يعني سبعة بيوت، وبعضهم حده بأربعين بيتا من يمين وشمال، وأمام وخلف، وهذه كلها تقديرات لم يصح فيها شيء عن المصطفى -عليه الصلاة والسلام-، وهذا محكوم بالعرف فما كان فيه العرف أنه قريب فهو قريب، وما كان فيه العرف أنه جار بعيد فيدخل في ذلك، وهذا يتنوع بتنوع البلاد والأعراف، فيه تفاصيل أُخر تقرءونها في المطولات -إن شاء الله-.
قال: ﴿ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه﴾ إكرام الضيف أن تبذل للضيف من الصفات المحمودة ما به يحصل له الحق، والصفات المحمودة التي تعطى للضيف، وبشاشة الوجه، وانطلاق الأسارير، والكرم باللسان يعني أن يضاف بألفاظ حسنة، ومنها أيضا من إكرام الضيف أن تطعمه، وهو المقصود؛ لأن الأضياف يحتاجون لذلك، وقوله هنا: ﴿فليكرم جاره﴾ ﴿فليكرم ضيفه﴾ ﴿فليقل خيرا﴾ كلها أوامر، وهي على الوجوب.
وإكرام الضيف واجب كما دل عليه الحديث بإطعامه، وهذا فيه تفصيل وهو أنه يجب أن يضاف الضيف بالإطعام يوما وليلة، كما جاء في الحديث أنها جائزة الضيف يوم وليلة، وتمام الضيافة ثلاثة أيام بلياليها، يعني يومين بعد اليوم والليلة الأولى، فيجب أن تكرم الضيف يوما وليلة، يعني بأن تعطيه ما يحتاجه.
قال العلماء: هذا في حق أهل القرى الذين ليس ثم مكان يمكن الضيف أن يستأجر له، أما في المدن الكبار الذي يوجد فيها الخان، ويوجد فيها الدور التي تؤجر فإنه لا تجب الضيافة؛ لأنه لا يضيف مع ذلك إلا إذا كان محتاجا لها، ولا مكان له يؤويه فإنه يجب على الكفاية أن يعطيه كفايته، وأن يضيفه يوما وليلة، وتمام الثلاثة مستحب، يعني في مكان لا يوجد فيه دار يمكنه أن يستأجرها.
أما مثل الآن في مدننا الكبار هذه فإنها لا تجب، وإنما تستحب، في القرى في الأطراف، وأهل الخيام، ونحو ذلك إذا نزل بهم الأضياف فإنه يجب عليه أن يقريهم يوما وليلة، وتمام الضيافة ثلاثة أيام بلياليها.
إذا تقرر هذا فما الذي يقدمه؟ الذي يقدمه للضيف ما تيسر له، يعني ما يطعمه هو وأهله، ولا يجب عليه أن يتكلف له في ذبح، أو تكلف طعام كثير، أو ما أشبه ذلك، فالذي يجب ما يطعمه به، ويسد عوزة هذا الضيف، أو ما يسد جوعه يعني من الطعام المعتاد الذي يأكله.
وقد جاء في الأثر: أن قوما من أهل الكتاب أرسلوا لعمر -رضي الله عنه-، عمر بن الخطاب فقالوا له: إن المسلمين إذا مروا بنا كلفونا ذبح الدجاج لهم، وإن هذا لا نطيقه، فأرسل إليهم عمر بما حاصله أن أطعموهم مما تأكلون ولا تتكلفوا لهم.
وهذا ظاهر من حيث الأصول في أن الإكرام لا يعني التكلف، وهذا الوجوب في حق من عنده فضل في ماله، يفيض ويزيد عن حاجته الضرورية، وحاجة من يعوله، أما إذا كان محتاجا هو ومن يعوله محتاج لهذا الطعام، فإن من يعوله أولى من الضيف في الشرع.
الشيخ ابن العثيمين
﴿مَنْ كَانَ يُؤمِنُ﴾ هذه جملة شرطية، جوابها: ﴿فَليَقُلْ خَيْرَاً أَو لِيَصْمُتْ﴾، والمقصود بهذه الصيغة الحث والإغراء على قول الخير أوالسكوت كأنه قال: إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فقل الخير أو اسكت.
والإيمان بالله واليوم الآخر سبق ذكرهما.
﴿فَلَيَقُلْ خَيرَاً﴾ اللام للأمر، والخير نوعان:
خير في المقال نفسه، وخير في المراد به.
أما الخير في المقال: فأن يذكر الله عزّ وجل ويسبّح ويحمد ويقرأ القرآن ويعلم العلم ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فهذا خير بنفسه.
وأما الخير لغيره: فأن يقول قولاً ليس خيراً في نفسه ولكن من أجل إدخال السرور على جلسائه، فإن هذا خير لما يترتب عليه من الأنس وإزالة الوحشة وحصول الإلفة، لأنك لو جلست مع قوم ولم تجد شيئاً يكون خيراً بذاته وبقيت صامتاً من حين دخلت إلى أن قمت صار في هذا وحشة وعدم إلفة، لكن تحدث ولو بكلام ليس خيراً في نفسه ولكن من أجل إدخال السرور على جلسائك، فإن هذا خير لغيره.
﴿أو لِيَصْمُتْ﴾ أي يسكت.
﴿وَمَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ﴾ أي جاره في البيت، والظاهر أنه يشمل حتى جاره في المتجر كجارك في الدكان مثلاً، لكن هو في الأول أظهر أي الجار في البيت، وكلما قرب الجار منك كان حقه أعظم.
وأطلق النبي ﷺ الإكرام فقال: ﴿فليُكْرِم جَارَهُ﴾ ولم يقل مثلاً بإعطاء الدراهم أو الصدقة أو اللباس أو ما أشبه هذا، وكل شيء يأتي مطلقاً في الشريعة فإنه يرجع فيه إلى العرف، وفي المنظومة الفقهية:
وكلُّ ما أتى ولم يحدد ** بالشرع كالحرز فبالعرف أحدد
فالإكرام إذاً ليس معيناً بل ما عدّه الناس إكراماً، ويختلف من جار إلى آخر، فجارك الفقير ربما يكون إكرامه برغيف خبز، وجارك الغني لايكفي هذا في إكرامه، وجارك الوضيع ربما يكتفي بأدنى شيء في إكرامه، وجارك الشريف يحتاج إلى أكثر
والجار: هل هو الملاصق، أو المشارك في السوق، أو المقابل أو ماذا؟
هذا أيضاً يرجع فيه إلى العرف، لكن قد ورد أن الجار أربعون داراً من كل جانب، وهذا في الوقت الحاضر صعب جداً.
في عهد النبي ﷺ أربعون داراً مساحتهم قليلة، لكن في عهدنا أربعون داراً قرية، فإذا قلنا إن الجار أربعون داراً والبيوت قصور صار فيها صعوبة، ولهذا نقول: إن صح الحديث فهو مُنَزَّل على الحال في عهد النبي ﷺ ، وإن لم يصح رجعنا إلى العرف.
﴿وَمَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فَليُكرِمْ ضَيْفَهُ﴾ الضيف هو النازل بك، كرجل مسافر نزل بك، فهذا ضيف يجب إكرامه بما يعد إكراماً.
قال بعض أهل العلم - رحمهم الله -: إنما تجب الضيافة إذا كان في القرى أي المدن الصغيرة، وأما في الأمصار والمدن الكبيرة فلايجب، لأن هذه فيها مطاعم وفنادق يذهب إليها ولكن القرى الصغيرة يحتاج الإنسان إلىمكان يؤويه.
ولكن ظاهر الحديث أنه عام: ﴿فَليُكْرِمْ ضَيْفَهُ﴾.
من فوائد هذا الحديث:
1- وجوب السكوت إلا في الخير، لقوله: ﴿مَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فَليَقُلْ خَيرَاً أو لِيَصمُتْ﴾ هذا ظاهر الحديث، ولكن ظاهر أحوال الناس أن ذلك ليس بواجب، وأن المقال ثلاثة أقسام: خير، وشر، ولغو.
فالخير: هو المطلوب. والشر: محرم، أي أن يقول الإنسان قولاً شراً سواء كان القول شراً في نفسه أو شراً فيما يترتب عليه. واللغو: ما ليس فيه خير ولاشرّ فلا يحرم أن يقول الإنسان اللغو، ولكن الأفضل أن يسكت عنه.
ويقال: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، وكم كلمة ألقت في قلب صاحبها البلاء، والكلمة بيدك ما لم تخرج من لسانك، فإن خرجت من لسانك لم تملكها.
وإذا دار الأمر بين أن أسكت أو أتكلم فالمختار السكوت، لأن ذلك أسلم.
2- الحث على حفظ اللسان لقوله: ﴿مَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيرَاً أَوْ لِيَصْمُتْ﴾ ولما حدث النبي ﷺ معاذ بن جبل رضي الله عنه قال له: ﴿أَلا أُخْبِرُكَ بِمِلاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قَالَ: بَلَى يَارَسُولَ اللهِ، فَأَخذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ وَقَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا ، قَالَ: يَارَسُولَ اللهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟﴾ - الجملة استفهامية - قَالَ: ﴿ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَامُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّار عَلَى وُجُوهِهِم، أَو قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلسِنَتِهِمْ﴾ فاحرص على أن لاتتكلم إلا حيث كان الكلام خيراً، فإن ذلك أقوى لإيمانك وأحفظ للسانك وأهيب عند إخوانك.
3- وجوب إكرام الجار لقوله: ﴿مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ واليَومِ الآخِرِ فَليُكرِمْ جَارَهُ﴾ وهذا الإكرام مطلق يرجع فيه إلى العرف، فتارة يكون إكرام الجار بأن تذهب إليه وتسلم عليه وتجلس عنده. وتارة تكون بأن تدعوه إلى البيت وتكرمه. وتارةبأن تهدي إليه الهدايا، فالمسألة راجعة إلى العرف.
4- أن دين الإسلام دين الألفة والتقارب والتعارف بخلاف غيره، فإنك ترى أهل الملة الواحدة لايكاد يعرف بعضهم بعضاً، متفرقون، حتى الجار لايدري ماذا يحدث لجاره.
5- وجوب إكرام الضيف بما يعد إكراماً، وذلك بأن تتلقاه ببشر وسرور، وتقول: ادخل حياك الله وما أشبه ذلك من العبارات.
وظاهر الحديث أنه لافرق بين الواحد والمائة، لأن كلمة (ضيف) مفرد مضاف فيعم، فإذا نزل بك الضيف فأكرمه بقدر ما تستطيع.
لكن إذا كان بيتك ضيقاً ولامكان لهذا الضيف فيه ولست ذا غنى كبير بحيث تعد بيتاً للضيوف، فهل يكفي أن تقول: يا فلان بيتي ضيق والعائلة ربما إذا دخلت أقلقوك، ولكن خذ مثلاً مائة ريال أو مائتين - حسب الحال - تبيت بها في الفندق فهل يكفي هذا أو لايكفي؟
الجواب: للضرورة يكفي، وإلا فلا شك أنك إذا أدخلته البيت ورحبت به وانطلق وجهك معه أنه أبلغ في الإكرام، ولكن إذا دعت الضرورة إلى مثل ما ذكرت فلابأس، فهذا نوع من الإكرام، والله أعلم.
الشيخ صالح آل الشيخ
هذا الحديث أدب من الآداب العظيمة، وهو صنو حديث: ﴿من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه﴾ من جهة أنه أصل في الآداب العامة، وهذا الحديث دل على أن من صفات المؤمن بالله وباليوم الآخر، الذي يخاف الله ويتقيه، ويخاف ما يحصل له في اليوم الآخر، ويرجو أن يكون ناجيا في اليوم الآخر، أن من صفاته أنه يقول الخير أو يصمت. ومن صفاته أنه يكرم الجار. ومن صفاته أنه يكرم الضيف. ومن صفاته أنه يكرم الجار، هذا بعموم ما دل عليه الحديث، الحديث دل على أن الحقوق منقسمة إلى: حقوق لله، وحقوق للعباد.
وحقوق الله -جل وعلا- مدارها على مراقبته، ومراقبة الحق -جل وعلا- أعسر شيء أن تكون في اللسان، ولهذا نبه بقوله: ﴿من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت﴾ على حقوق الله -جل وعلا-، والتي من أعسرها من حيث العمل والتطبيق: حفظ اللسان، وهنا أمره بأن يقول خيرا أو أن يصمت، فدل على أن الصمت متراخ في المرتبة عن قول الخير؛ لأنه ابتدأ الأمر بقول الخير فقال: ﴿فليقل خيرا﴾ فهذا هو الاختيار، هو المقدم أن يسعى في أن يقول الخير.
والمرتبة الثانية: أنه إذا لم يجد خيرا يقوله أن يختار الصمت؛ وهذا لأن الإنسان محاسب على ما يتكلم به، وقد قال -جل وعلا-: ﴿لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾.
فهذا الحديث فيه: ﴿فليقل خيرا﴾ وعلق هذا بالإيمان بالله واليوم الآخر، وقول الخير متعلق بالثلاثة التي في آية النساء قال: ﴿إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ فالصدقة واضحة والإصلاح أيضا واضح، والمعروف هو ما عرف حسنه في الشريعة، ويدخل في ذلك جميع الأمر بالواجبات والمستحبات، وجميع النهي عن المحرمات والمكروهات، وتعليم العلم والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر... إلخ.
فإذن قوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿فليقل خيرا﴾ يعني: فليقل أمرا بالصدقة، فليقل أمرا بالمعروف، فليقل بما فيه إصلاح بين الناس، وغير هذه ليس فيها خير، ما خرج عن هذه فإنه ليس فيها خير، وقد تكون من المباحة، وقد تكون من المكروهة، وإذا كان كذلك فالاختيار أن يصمت، وخاصة إذا كان في ذلك إحداث لإصلاح ذات البين، يعني أن يكون ما بينه وبين الناس صالحا على جهة الاستقامة بين المؤمنين الإخوة.
قال -عليه الصلاة والسلام- هنا: ﴿من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت﴾ يعني أن حفظ اللسان من الفضول بقول الخير، أو بالصمت إن لم تجد خيرا أن هذا من علامات الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لأن أشد شيء على الإنسان أن يحفظه لسانه، لهذا جاء في حديث معاذ المعروف أنه سأل النبي -ﷺ- لما قال له -عليه الصلاة والسلام-: ﴿وكف عليك هذا﴾ فاستعجب معاذ ﴿فقال: يا رسول الله أوإنا مؤاخذون بما نقول؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على مناخرهم -أو قال: على وجوههم- إلا حصائد ألسنتهم﴾ فدل على أن اللسان خطير تحركه، إذا لم يكن تحركه في خير فإنه عليك لا لك.
والتوسع في الكلام المباح قد يؤدي إلى الاستئناس بكلام مكروه أو كلام محرم كما هو مجرب في الواقع، فإن الذين توسعوا في الكلام، وأكثروا منه في غير الثلاثة المذكورة في الآية جرهم ذلك إلى أن يدخلوا في أمور محرمة من غيبة أو نميمة أو بهتان أو مداهنة، أو ما أشبه ذلك مما لا يحل.
فإذن الإيمان بالله واليوم الآخر يحض على حفظ اللسان، وفي حفظ اللسان الإشارة لحفظ جميع الجوارح الأُخر؛ لأن حفظ اللسان أشد ذلك، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ﴿من ضمن لي ما بين لَحيَيْهِ وما بين فخذيه ضمنت له الجنة﴾.
ثم قال -عليه الصلاة والسلام- ﴿ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره﴾ وإكرام الجار يعني: أن يكون معه على صفة الكرم، والكرم هو: اشتمال الصفات المحمودة التي يحسن اجتماعها في الشيء فيقال: هذا كريم؛ لأنه ذو صفات محمودة، وفي أسماء الله -جل وعلا- الكريم، والكريم في أسماء الله -جل وعلا- هو: الذي تفرد بصفات الكمال، والأسماء الحسنى فاجتمع له -جل وعلا- الحسن الأعظم في الأسماء، والعلو في الصفات، والحكمة في الأفعال.
فالكريم: من فاق -يعني في اللغة- من فاق جنسه في صفات الكمال. فالإكرام هو: أن تسعى في تحقق صفات الكمال، أو في تحقيقها، فإكرام الجار: أن تسعى في تحقيق صفات الكمال التي تتطلبها المجاورة.
وإكرام الضيف: أن تسعى في تحقيق صفات الكمال التي تتطلبها الضيافة.
وقوله: "فليكرم جاره" على هذا، يدخل فيه إكرام الجار بالألفاظ الحسنة، إكرام الجار بحفظ الجار في أهله، حفظ الجار في عرضه، في الاطلاع على مسكنه.
ويدخل في هذا حفظ الجار في أداء الحقوق العامة له، في الجدار الذي بينهما، أو النوافذ التي تطل على الجار، أو في موقف السيارات -مثلا- أو في غذاء الأطفال، أو ما أشبه ذلك، فيدخل هذا جميعا في إكرام الجار، ويدخل فيه -أيضا- أن يكرم الجار في المطعم والملبس، وأشباه ذلك يعني أنه إذا كان عنده طعام فإنه يطعم جاره منه.
وقد كان -عليه الصلاة والسلام- ربما طُهِىَ في بيته بعضُ اللحم فقال: ﴿أرسلوا لجارنا اليهودي من مرقة هذا اللحم﴾ وهذا في حق الجار الكافر، ولهذا رأى طائفة من أهل العلم كأحمد في رواية، وكغيره أن إكرام الجار في هذا الحديث عام يدخل فيه إكرام الجار المسلم، وإكرام الجار الكافر.
وإكرام الجار المسلم له حقان: لإسلامه ولجواره، فإذا إكرام الجار كلمة عامة يدخل فيها أداء ما له من الحقوق، وكف الأذى عنه، وبسط اليد له بالطعام وما يحتاجه، وهذا -أيضا- مع قول الله -جل وعلا-: ﴿الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ والماعون هو: ما يحتاج إليه في الإعارة.
﴿وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ يعني: يمنعون ما يحتاج إليه المسلمون في الإعارة، فإذا احتاج جارك إلى أن تعيره شيئا من أدوات الطهي أو شيئا من أدوات المنزل، أو من الأثاث، أو ما أشبه ذلك فإن من إكرامه أن تعطيه ذلك.
أما إذا كان يتعدى على أشيائك، ويتلف المال فهذا لا يكون له الحق في إكرامه بذلك؛ لأنه مظنة التعدي.
الجار هنا قسمان: جار قريب، وجار بعيد، وفي القسمين جاء قول الله -جل وعلا- في سورة النساء: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ فقوله: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ فسرت بتفسيرين:
الأول: أن الجار ذي القربى هو من له جوار وقرابة فقدمه على الجار الجنب يعني الذي ليس له قرابة، التفسير الثاني: أن الجار ذا القربى في قوله: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ أنه الجار القريب والجار الجنب أنه الجار البعيد؛ لأن كلمة "جنب" في اللغة تعني: البعيد، ومنه سميت "الجنابة" جنابة، وفلان جنب لأنه من البعد، فدل هذا على أن إكرام الجار يدخل فيه الجار القريب والجار البعيد.
ما حد الجار البعيد؟ بعضهم حده بسبعة يعني سبعة بيوت، وبعضهم حده بأربعين بيتا من يمين وشمال، وأمام وخلف، وهذه كلها تقديرات لم يصح فيها شيء عن المصطفى -عليه الصلاة والسلام-، وهذا محكوم بالعرف فما كان فيه العرف أنه قريب فهو قريب، وما كان فيه العرف أنه جار بعيد فيدخل في ذلك، وهذا يتنوع بتنوع البلاد والأعراف، فيه تفاصيل أُخر تقرءونها في المطولات -إن شاء الله-.
قال: ﴿ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه﴾ إكرام الضيف أن تبذل للضيف من الصفات المحمودة ما به يحصل له الحق، والصفات المحمودة التي تعطى للضيف، وبشاشة الوجه، وانطلاق الأسارير، والكرم باللسان يعني أن يضاف بألفاظ حسنة، ومنها أيضا من إكرام الضيف أن تطعمه، وهو المقصود؛ لأن الأضياف يحتاجون لذلك، وقوله هنا: ﴿فليكرم جاره﴾ ﴿فليكرم ضيفه﴾ ﴿فليقل خيرا﴾ كلها أوامر، وهي على الوجوب.
وإكرام الضيف واجب كما دل عليه الحديث بإطعامه، وهذا فيه تفصيل وهو أنه يجب أن يضاف الضيف بالإطعام يوما وليلة، كما جاء في الحديث أنها جائزة الضيف يوم وليلة، وتمام الضيافة ثلاثة أيام بلياليها، يعني يومين بعد اليوم والليلة الأولى، فيجب أن تكرم الضيف يوما وليلة، يعني بأن تعطيه ما يحتاجه.
قال العلماء: هذا في حق أهل القرى الذين ليس ثم مكان يمكن الضيف أن يستأجر له، أما في المدن الكبار الذي يوجد فيها الخان، ويوجد فيها الدور التي تؤجر فإنه لا تجب الضيافة؛ لأنه لا يضيف مع ذلك إلا إذا كان محتاجا لها، ولا مكان له يؤويه فإنه يجب على الكفاية أن يعطيه كفايته، وأن يضيفه يوما وليلة، وتمام الثلاثة مستحب، يعني في مكان لا يوجد فيه دار يمكنه أن يستأجرها.
أما مثل الآن في مدننا الكبار هذه فإنها لا تجب، وإنما تستحب، في القرى في الأطراف، وأهل الخيام، ونحو ذلك إذا نزل بهم الأضياف فإنه يجب عليه أن يقريهم يوما وليلة، وتمام الضيافة ثلاثة أيام بلياليها.
إذا تقرر هذا فما الذي يقدمه؟ الذي يقدمه للضيف ما تيسر له، يعني ما يطعمه هو وأهله، ولا يجب عليه أن يتكلف له في ذبح، أو تكلف طعام كثير، أو ما أشبه ذلك، فالذي يجب ما يطعمه به، ويسد عوزة هذا الضيف، أو ما يسد جوعه يعني من الطعام المعتاد الذي يأكله.
وقد جاء في الأثر: أن قوما من أهل الكتاب أرسلوا لعمر -رضي الله عنه-، عمر بن الخطاب فقالوا له: إن المسلمين إذا مروا بنا كلفونا ذبح الدجاج لهم، وإن هذا لا نطيقه، فأرسل إليهم عمر بما حاصله أن أطعموهم مما تأكلون ولا تتكلفوا لهم.
وهذا ظاهر من حيث الأصول في أن الإكرام لا يعني التكلف، وهذا الوجوب في حق من عنده فضل في ماله، يفيض ويزيد عن حاجته الضرورية، وحاجة من يعوله، أما إذا كان محتاجا هو ومن يعوله محتاج لهذا الطعام، فإن من يعوله أولى من الضيف في الشرع.