الشيخ صالح آل الشيخ
هذا أيضا من أحاديث الآداب العظيمة حيث قال النبي -ﷺ- لرجل سأله ﴿أوصني. قال: لا تغضب﴾ والسؤال بالوصية حصل مرارا من عدد من الصحابة -رضوان الله عليهم- يسألون المصطفى -ﷺ- فيقولون له: أوصنا، أوصني واختلف جوابه -عليه الصلاة والسلام- فمرة قال مثل ما هنا: ﴿لا تغضب﴾ وقال لرجل ﴿قال له: أوصني. قال: لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله﴾ وقال له رجل: أوصني. فقال له كذا، وتكرر هذا، واختلفت الإجابة.
قال العلماء: اختلاف الإجابة يحمل على أحد تفسيرين الأول: أنه -عليه الصلاة والسلام- نوّع الإجابة بحسب ما يعلمه عن السائل، فالسائل الذي يحتاج إلى الذكر أرشده للذكر، والذي يحتاج إلى أن لا يغضب أرشده إلى عدم الغضب.
والقول الثاني: أنه نوّع الإجابة لتتنوع خصال الخير في الوصايا للأمة. لأن كل واحد سينقل ما أوصى به النبي -عليه الصلاة والسلام- فتتنوع الإجابة، وكل من قال: أوصني محتاج لكل جواب.
لكن لم يكثر النبي -عليه الصلاة والسلام- الوصايا بأن ﴿قال: لا تغضب﴾ ﴿ولا يزال لسانك رطبا بذكر الله﴾ وكذا وكذا حتى لا تكثر عليه المسائل.
فإفادة من طلب الوصية بشيء واحد أدعى للاهتمام، ولتطبيقه لتلك الوصية، قال هنا: "أوصني"، والوصية: الدلالة على الخير، يعني: دلني على كلام تخصني به من الخير، الذي هو خير لي في عاجل أمري وآجله. ﴿قال: لا تغضب﴾ وقوله هنا -عليه الصلاة والسلام-: ﴿لا تغضب﴾ دل على أن من طلب منه الوصية أن يجتهد في الوصية الجامعة، وفيما يحتاجه الموصى، وألا يتخلف عن الجواب، وهذا يناسب أن يكون المعلم أو المربي أن يكون مستحضرا لوصايا النبي -عليه الصلاة والسلام- ولوصايا أهل العلم حتى يعطيها متى ما سنحت الحاجة في طلب الوصية، وأشباه ذلك.
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿لا تغضب﴾ هذا -أيضا- له مرتبتان:
المرتبة الأولى: لا تغضب إذا أتت دواعي الغضب فاكظم غضبك، واكظم غيظك، وهذا جاءت فيه آيات، ومنها قول الله -جل وعلا-: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ وكظم الغيظ من صفات عباد الله المؤمنين المحسنين، الذين يكظمون الغضب عند ثورته.
وجاء -أيضا- في الحديث الصحيح أن النبي -ﷺ- قال: ﴿من كظم غيظا، وهو يقدر على إنفاذه، دعي يوم القيامة على رءوس الخلائق إلى الجنة﴾ أو كما قال -عليه الصلاة والسلام- والحديث في السنن، وهو حديث صحيح.
فكظم الغيظ ومَسْك الغضب هذا هو الحالة الأولى التي دل عليها قوله: ﴿لا تغضب﴾ وكظم الغيظ، وإمساك الغضب هذا من الصفات المحمودة، ويأتي تفصيل الكلام على كونه من الصفات المحمودة.
الثاني -التفسير الثاني-: لا تَسْعَ فيما يغضبك؛ لأنه من المتقرر أن الوسائل تؤدي إلى الغايات، فإذا كنت تعلم أن هذا الشيء يؤدي بك إلى غاية تغضبك فلا تَسْعَ إلى وسائلها، ولهذا كان كثير من السلف يمدحون التغافل، وقال رجل للإمام أحمد: كان وكيع يقول، أو أحد الأئمة غير وكيع -النسيان مني-: الخير تسعة أعشاره في التغافل. وقال الإمام أحمد: أخطأ، الخير كله في التغافل يعني: أن إحقاق الأمور إلى آخرها في كل شيء هذا غير ممكن؛ لأن النفوس مطبوعة على التساهل ومطبوعة على التوسع، وعندها ما عندها، فتغافل المرء عما يحدث له الغضب، ويحدث له ما لا يرضيه، تغافله عن ذلك من أبواب الخير العظيمة، بل قال: الخير كله في التغافل، التغافل عن الإساءة، التغافل عن الكلام فيما لا يحمد.
التغافل -أيضا- عن بعض التصرفات بعدم متابعتها ولحوقها إلى آخرها إلى آخر ذلك فالتغافل أمر محمود وهذا مبني أيضا على النهي عن التحسس والتجسس، قوله أيضا هنا: ﴿لا تغضب﴾ بمعنى: لا تدخل في وسائل الغضب في أنواعها، فكل وسيلة من الوسائل التي تؤدي إلى الغضب فمنهي عن اتباعها، فإذا رأيت الشيء، وأنت تعلم من نفسك أنه يؤدي بك إلى الغضب، فالحديث دل على أن تنتهي عنه من أوله، ولا تتبع نفسك هذا الشيء، وتتمارى فيه أو تتمادى فيه حتى يغضبك ثم بعد ذلك قد لا تستطيع أن تكظم الغضب أو الغيظ.
إذا تقرر هذا، وأن الحديث له معنيان، وأن النهي عن الغضب يشمل النهي عن إنفاذ الغضب بكتمان الغضب، ويشمل -أيضا- النهي عن غشيان وسائل الغضب، إذا تقرر هذا فإن الغضب من الصفات المذمومة التي هي من وسائل إبليس، فالغضب دائما يكون معه الشر.
فكثير من حوادث القتل والاعتداءات كانت من نتائج الغضب، كثير من الكلام السيئ الذي ربما لو أراد الإنسان أن يرجع فيه لرجع، لكنه أنفذه من جراء الغضب.
كثير من العلاقات السيئة بين الرجل وبين أهله، وحوادث الطلاق، وأشباه ذلك كان منشأها الغضب، وكثير من قطع صلة الرحم، وتقطيع الأواصر التي أمر الله -جل وعلا- بوصلها كان سببَ القطيعةِ الغضبُ، ومجاراة الكلام، وتبادل الكلام والغضب إلى أن يخرجه عما يعقل، ثم بعد ذلك "لات ساعة إصلاح".
وهكذا في أشياء كثيرة، فالغضب مذموم، وهو من الشيطان، ومن وسائل الشيطان لإحداث الفرقة بين المؤمنين، وإشاعة الفحشاء والمحرمات فيما بينهم.
علاج الغضب: جاء في السنة أحاديث كثيرة في علاج الغضب، نجملها في الآتي:
أولا: أن الغضب يعالج بالوضوء؛ لأنه فيه ثورة، والوضوء فيه تبريد؛ ولأن الغضب من الشيطان، والوضوء فيه استكانة لله -جل وعلا- وتعبد لله، فهو يُسكّن الغضب، فمن غضب فيشرع له الوضوء.
كذلك مما جاء في السنة: أنه إذا غضب وكان قائما أن يقعد، وهذا من علاج آثار الغضب؛ لأنه يسكن نفسه، ومن -أيضا- علاج الغضب أن يسعى في كظمه وإبداله بالكلام الحسن، لمن قدر على ذلك.
ومن المعلوم أن الإنسان يبتلى، وابتلاؤه يكون مع درجاته وأجره وثوابه، فإذا ابتلى بما يغضبه فكظم ذلك، وامتثل أمر النبي -ﷺ-، وما حث الله -جل وعلا- عليه بقوله: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ وكظم غيظه، وهو يقدر على إنفاذه، كان حريا بكل فضل مما جاء في الأحاديث، بأن يدعى على رءوس الخلائق إلى الجنة، وأشباه ذلك.
فهذا الحديث دل على هذا الأدب العظيم، فحرى بطالب العلم، وبكل مستقيم على أمر الله أن يوطن نفسه على ترك الغضب، وترك الغضب لا بد له من صفة تحمل عليه، والصفة التي تحمل عليه: الحلم والأناة، ومن اتصف بالحلم والأناة كان حكيما؛ ولهذا الغضوب لا يصلح أن يكون معالجا للأمور، بل يحتاج إلى أن يهدأ حتى يكون حكيما.
وكان للغضب بعض الآثار السيئة في قصص متنوعة، ولهذا نقول: قوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿لا تغضب﴾ ينبغي أن يكون بين أعيننا دائما في علاقاتنا مع إخواننا، ومع أهلينا ومع الصغار، ومع الكبار فكلما كان المرء أحلم وأحكم في لفظه وفعله كلما كان أقرب إلى الله -جل وعلا-، وهذا من صفات خاصة عباد الله.
الشيخ ابن العثيمين
لم يبيَّن هذا الرجل، وهذا يأتي كثيراً في الأحاديث لايبيّن فيها المبهم، وذلك لأن معرفة اسم الرجل أو وصفه لايُحتاج إليه، فلذلك تجد في الأحاديث: أن رجلاً قال كذا، وتجد بعض العلماء يتعب تعباً عظيماً في تعيين هذا الرجل، والذي أرى أنه لاحاجة للتعب مادام الحكم لايتغير بفلان مع فلان.
﴿قَالَ: يَارَسُولَ اللهِ أَوصِنِي﴾ الوصية: هي العهد إلى الشخص بأمر هام، كما يوصي الرجل مثلاً على ثلثه أوعلى ولده الصغير أو ما أشبه ذلك.
﴿قَالَ: لاَتَغْضَبْ﴾ الغضب: بيَّن النبي ﷺ أنه جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم فيغلي القلب، ولذلك يحمرّ وجهه وتنتفخ أوداجه وربما يقف شعره.
فهل مراد الرسول ﷺ لاتغضب أي لايقع منك الغضب، أو المعنى: لاتنفذ الغضب؟
لننظر: أما الأول فإن ضبطه صعب، لأن الناس يختلفون في هذا اختلافاً كبيراً، لكن لامانع أن نقول: أراد قوله: ﴿لاَ تَغْضَبْ﴾ أي الغضب الطبيعي، بمعنى أن توطن نفسك وتبرّد الأمر على نفسك.
وأما المعنى الثاني: وهو أن لا تنفذ مقتضى الغضب فهذا حق، فينهى عنه.
إذاً كلمة ﴿لاَ تَغْضَبْ﴾ هل هي نهي عن الغضب الذي هو طبيعي أو هي نهي لما يقتضيه الغضب؟
إن نظرنا إلى ظاهر اللفظ قلنا: ﴿لاَ تَغْضَبْ﴾ أي الغضب الطبيعي، لكن هذا فيه صعوبة، وله وجه يمكن أن يحمل عليه بأن يقال: اضبط نفسك عند وجود السبب حتى لاتغضب.
والمعنى الثاني لقوله: ﴿لاَ تَغْضَبْ﴾ أي لا تنفذ مقتضى الغضب، فلو غضب الإنسان وأراد أن يطلّق امرأته، فنقول له: اصبر وتأنَّ.
﴿فَرَدَّدَ الرَّجُلُ مِرَارَاً﴾، - أَيْ قَالَ: أَوْصِنِي - قَالَ: لاَ تَغْضَبْ
من فوائد هذا الحديث:
1- حرص الصحابة رضي الله عنهم على ماينفع، لقوله: ﴿أَوصِنِيْ﴾، والصحابة رضي الله عنهم إذا علموا الحق لايقتصرون على مجرّد العلم، بل يعملون، وكثير من الناس اليوم يسألون عن الحكم فيعلمونه ولكن لايعملون به، أما الصحابة رضي الله عنهم فإنهم إذا سألوا عن الدواء استعملوا الدواء، فعملوا.
2- أن المخاطب يخاطب بما تقتضيه حاله وهذه قاعدة مهمة، فإذا قررنا هذا لايرد علينا الإشكال الآتي وهو أن يقال: لماذا لم يوصه بتقوى الله عزّ وجل، كما قال الله عزّ وجل: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ (النساء: من الآية 131).
فالجواب: أن كل إنسان يخاطب بما تقتضيه حاله، فكأن النبي ﷺ عرف من هذا الرجل أنه غضوب فأوصاه بذلك.
مثال آخر: رجل أتى إليك وقال: أوصني، وأنت تعرف أن هذا الرجل يصاحب الأشرار، فيصح أن تقول: أوصيك أن لاتصاحب الأشرار، لأن المقام يقتضيه.
ورجل آخر جاء يقول: أوصني، وأنت تعرف أن هذا الرجل يسيء العشرة إلى أهله، فتقول له: أحسن العشرة مع أهلك.
فهذه القاعدة التي ذكرناها يدل عليها جواب النبي ﷺ ، أي أن يوصى الإنسان بما تقتضيه حاله لا بأعلى ما يوصى به، لأن أعلى ما يوصى به غير هذا.
3- النهي عن الغضب، لقوله: ﴿لاَ تَغْضَبْ﴾ لأن الغضب يحصل فيه مفاسد عظيمة إذا نفذ الإنسان مقتضاه، فكم من إنسان غضب فطلّق فجاء يسأل، وكم من إنسان غضب فقال: والله لا أكلم فلاناً فندم وجاء يسأل.
فإن قال قائل: إذا وجد سبب الغضب، وغضبَ الإنسان فماذا يصنع؟
نقول: هناك دواء - والحمد لله - لفظي وفعلي .
أما الدواء اللفظي: إذا أحس بالغضب فليقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. لأن النبي ﷺ رأى رجلاً قد غضب غضباً شديداً فقال: ﴿إِنِّي أَعلَمُ كَلِمَةً لوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَايَجِد﴾ - يعني الغضب - ﴿لَوقَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ﴾.
وأما الدواء الفعلي: إذا كان قائماً فليجلس، وإذا كان جالساً فليضطّجع، لأن تغير حاله الظاهر يوجب تغير حاله الباطن، فإن لم يفد فليتوضّأ، لأن اشتغاله بالوضوء ينسيه الغضب، ولأن الوضوء يطفئ حرارة الغضب.
وهل يقتصر على هذا؟
الجواب: لايلزم الاقتصار على هذا، قد نقول إذا غضبت فغادر المكان، وكثير من الناس يفعل هذا، أي إذا غضب خرج من البيت حتى لايحدث ما يكره فيما بعد .
4- أن الدين الإسلامي ينهى عن مساوئ الأخلاق لقوله: ﴿لاَ تَغضبْ﴾ والنهي عن مساوئ الأخلاق يستلزم الأمر بمحاسن الأخلاق، فعوّد نفسك التحمل وعدم الغضب، فقد كان الأعرابي يجذب رداء النبي ﷺ حتى يؤثر في رقبته ثم يلتفت إليه ويضحك مع أن هذا لو فعله أحد آخر فأقل شيء أن يغضب عليه، فعليك بالحلم ما أمكنك ذلك حتى يستريح قلبك وتبتعد عن الأمراض الطارئة من الغضب كالسكر، والضغط وما أشبهه. والله المستعان.
الشيخ صالح آل الشيخ
هذا أيضا من أحاديث الآداب العظيمة حيث قال النبي -ﷺ- لرجل سأله ﴿أوصني. قال: لا تغضب﴾ والسؤال بالوصية حصل مرارا من عدد من الصحابة -رضوان الله عليهم- يسألون المصطفى -ﷺ- فيقولون له: أوصنا، أوصني واختلف جوابه -عليه الصلاة والسلام- فمرة قال مثل ما هنا: ﴿لا تغضب﴾ وقال لرجل ﴿قال له: أوصني. قال: لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله﴾ وقال له رجل: أوصني. فقال له كذا، وتكرر هذا، واختلفت الإجابة.
قال العلماء: اختلاف الإجابة يحمل على أحد تفسيرين الأول: أنه -عليه الصلاة والسلام- نوّع الإجابة بحسب ما يعلمه عن السائل، فالسائل الذي يحتاج إلى الذكر أرشده للذكر، والذي يحتاج إلى أن لا يغضب أرشده إلى عدم الغضب.
والقول الثاني: أنه نوّع الإجابة لتتنوع خصال الخير في الوصايا للأمة. لأن كل واحد سينقل ما أوصى به النبي -عليه الصلاة والسلام- فتتنوع الإجابة، وكل من قال: أوصني محتاج لكل جواب.
لكن لم يكثر النبي -عليه الصلاة والسلام- الوصايا بأن ﴿قال: لا تغضب﴾ ﴿ولا يزال لسانك رطبا بذكر الله﴾ وكذا وكذا حتى لا تكثر عليه المسائل.
فإفادة من طلب الوصية بشيء واحد أدعى للاهتمام، ولتطبيقه لتلك الوصية، قال هنا: "أوصني"، والوصية: الدلالة على الخير، يعني: دلني على كلام تخصني به من الخير، الذي هو خير لي في عاجل أمري وآجله. ﴿قال: لا تغضب﴾ وقوله هنا -عليه الصلاة والسلام-: ﴿لا تغضب﴾ دل على أن من طلب منه الوصية أن يجتهد في الوصية الجامعة، وفيما يحتاجه الموصى، وألا يتخلف عن الجواب، وهذا يناسب أن يكون المعلم أو المربي أن يكون مستحضرا لوصايا النبي -عليه الصلاة والسلام- ولوصايا أهل العلم حتى يعطيها متى ما سنحت الحاجة في طلب الوصية، وأشباه ذلك.
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿لا تغضب﴾ هذا -أيضا- له مرتبتان:
المرتبة الأولى: لا تغضب إذا أتت دواعي الغضب فاكظم غضبك، واكظم غيظك، وهذا جاءت فيه آيات، ومنها قول الله -جل وعلا-: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ وكظم الغيظ من صفات عباد الله المؤمنين المحسنين، الذين يكظمون الغضب عند ثورته.
وجاء -أيضا- في الحديث الصحيح أن النبي -ﷺ- قال: ﴿من كظم غيظا، وهو يقدر على إنفاذه، دعي يوم القيامة على رءوس الخلائق إلى الجنة﴾ أو كما قال -عليه الصلاة والسلام- والحديث في السنن، وهو حديث صحيح.
فكظم الغيظ ومَسْك الغضب هذا هو الحالة الأولى التي دل عليها قوله: ﴿لا تغضب﴾ وكظم الغيظ، وإمساك الغضب هذا من الصفات المحمودة، ويأتي تفصيل الكلام على كونه من الصفات المحمودة.
الثاني -التفسير الثاني-: لا تَسْعَ فيما يغضبك؛ لأنه من المتقرر أن الوسائل تؤدي إلى الغايات، فإذا كنت تعلم أن هذا الشيء يؤدي بك إلى غاية تغضبك فلا تَسْعَ إلى وسائلها، ولهذا كان كثير من السلف يمدحون التغافل، وقال رجل للإمام أحمد: كان وكيع يقول، أو أحد الأئمة غير وكيع -النسيان مني-: الخير تسعة أعشاره في التغافل. وقال الإمام أحمد: أخطأ، الخير كله في التغافل يعني: أن إحقاق الأمور إلى آخرها في كل شيء هذا غير ممكن؛ لأن النفوس مطبوعة على التساهل ومطبوعة على التوسع، وعندها ما عندها، فتغافل المرء عما يحدث له الغضب، ويحدث له ما لا يرضيه، تغافله عن ذلك من أبواب الخير العظيمة، بل قال: الخير كله في التغافل، التغافل عن الإساءة، التغافل عن الكلام فيما لا يحمد.
التغافل -أيضا- عن بعض التصرفات بعدم متابعتها ولحوقها إلى آخرها إلى آخر ذلك فالتغافل أمر محمود وهذا مبني أيضا على النهي عن التحسس والتجسس، قوله أيضا هنا: ﴿لا تغضب﴾ بمعنى: لا تدخل في وسائل الغضب في أنواعها، فكل وسيلة من الوسائل التي تؤدي إلى الغضب فمنهي عن اتباعها، فإذا رأيت الشيء، وأنت تعلم من نفسك أنه يؤدي بك إلى الغضب، فالحديث دل على أن تنتهي عنه من أوله، ولا تتبع نفسك هذا الشيء، وتتمارى فيه أو تتمادى فيه حتى يغضبك ثم بعد ذلك قد لا تستطيع أن تكظم الغضب أو الغيظ.
إذا تقرر هذا، وأن الحديث له معنيان، وأن النهي عن الغضب يشمل النهي عن إنفاذ الغضب بكتمان الغضب، ويشمل -أيضا- النهي عن غشيان وسائل الغضب، إذا تقرر هذا فإن الغضب من الصفات المذمومة التي هي من وسائل إبليس، فالغضب دائما يكون معه الشر.
فكثير من حوادث القتل والاعتداءات كانت من نتائج الغضب، كثير من الكلام السيئ الذي ربما لو أراد الإنسان أن يرجع فيه لرجع، لكنه أنفذه من جراء الغضب.
كثير من العلاقات السيئة بين الرجل وبين أهله، وحوادث الطلاق، وأشباه ذلك كان منشأها الغضب، وكثير من قطع صلة الرحم، وتقطيع الأواصر التي أمر الله -جل وعلا- بوصلها كان سببَ القطيعةِ الغضبُ، ومجاراة الكلام، وتبادل الكلام والغضب إلى أن يخرجه عما يعقل، ثم بعد ذلك "لات ساعة إصلاح".
وهكذا في أشياء كثيرة، فالغضب مذموم، وهو من الشيطان، ومن وسائل الشيطان لإحداث الفرقة بين المؤمنين، وإشاعة الفحشاء والمحرمات فيما بينهم.
علاج الغضب: جاء في السنة أحاديث كثيرة في علاج الغضب، نجملها في الآتي:
أولا: أن الغضب يعالج بالوضوء؛ لأنه فيه ثورة، والوضوء فيه تبريد؛ ولأن الغضب من الشيطان، والوضوء فيه استكانة لله -جل وعلا- وتعبد لله، فهو يُسكّن الغضب، فمن غضب فيشرع له الوضوء.
كذلك مما جاء في السنة: أنه إذا غضب وكان قائما أن يقعد، وهذا من علاج آثار الغضب؛ لأنه يسكن نفسه، ومن -أيضا- علاج الغضب أن يسعى في كظمه وإبداله بالكلام الحسن، لمن قدر على ذلك.
ومن المعلوم أن الإنسان يبتلى، وابتلاؤه يكون مع درجاته وأجره وثوابه، فإذا ابتلى بما يغضبه فكظم ذلك، وامتثل أمر النبي -ﷺ-، وما حث الله -جل وعلا- عليه بقوله: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ وكظم غيظه، وهو يقدر على إنفاذه، كان حريا بكل فضل مما جاء في الأحاديث، بأن يدعى على رءوس الخلائق إلى الجنة، وأشباه ذلك.
فهذا الحديث دل على هذا الأدب العظيم، فحرى بطالب العلم، وبكل مستقيم على أمر الله أن يوطن نفسه على ترك الغضب، وترك الغضب لا بد له من صفة تحمل عليه، والصفة التي تحمل عليه: الحلم والأناة، ومن اتصف بالحلم والأناة كان حكيما؛ ولهذا الغضوب لا يصلح أن يكون معالجا للأمور، بل يحتاج إلى أن يهدأ حتى يكون حكيما.
وكان للغضب بعض الآثار السيئة في قصص متنوعة، ولهذا نقول: قوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿لا تغضب﴾ ينبغي أن يكون بين أعيننا دائما في علاقاتنا مع إخواننا، ومع أهلينا ومع الصغار، ومع الكبار فكلما كان المرء أحلم وأحكم في لفظه وفعله كلما كان أقرب إلى الله -جل وعلا-، وهذا من صفات خاصة عباد الله.