الشيخ صالح آل الشيخ
هذا الحديث حديث أبي ذر و معاذ بن جبل -رضي الله عنهما- عن رسول الله -ﷺ- قال: ﴿اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن﴾.
قوله: ﴿اتق الله حيثما كنت﴾ هذا أمر بالتقوى، وحيثما هذه متعلقة بالأزمنة والأمكنة، يعني: في أي زمان كنت، و في أي مكان كنت؛ لأن كلمة "حيث" قد تتوجه إلى الأمكنة، و قد تتوجه إلى الأزمنة، يعني: قد تكون ظرف مكان، وقد تكون ظرف زمان، وهي هنا محتملة للأمرين ﴿اتق الله حيثما كنت﴾ يعني: اتق الله في أي مكان أو في أي زمان كنت.
والأمر بتقوى الله -جل وعلا- هنا على الوجوب؛ لأن التقوى أصل عظيم من أصول الدين، وقد أمر الله -جل وعلا- نبيه -ﷺ- بأن يتقي الله، فقال -جل وعلا-: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾ وأمر المؤمنين بأن يتقوا الله حق تقاته: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ وأمرهم بتقوى الله بعامة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ وأشباه ذلك.
وتقوى الله -جل وعلا- جاءت في القرآن في مواضع كثيرة، وأتت التقوى في مواضع أُخر بتقوى عذاب الله -جل وعلا-، وبأن يتقي النار، وأن يتقي يوم القيامة كما قال -جل وعلا-: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ وقال -جل وعلا-: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ﴾ وهكذا في آيات أُخر.
فهذان إذن نوعان، فإذا توجهت التقوى، وصارَ مفعولُها لفظَ الجلالةِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ فمعنى تقوى الله -جل وعلا- هنا: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وسخطه وأليم عقابه في الدنيا وفي الآخرة وقاية تقيك منه، وهذه الوقاية بالتوحيد، ونبذ الشرك، وهذه هي التقوى التي أُمر الناس جميعا بها؛ لأن تقوى الله -كما ذكرت لك من معناها- راجعة إلى المعنى اللغوي، وهي أن التقوى أصلها "وَقْوَى" فالتاء فيها منقلبة عن واو، وهي من الوقاية، وقاه يقيه وقاية.
فالمتقي هو: من جعل بينه وبين ما يكره وقاية، بينه وبين سخط الله وعذابه وأليم عقابه وقاية، وهي في القرآن أي: في الأمر بتقوى الله على ثلاث مراتب:-
الأولى: تقوى أمر بها الناس جميعا، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾ في آيات، وهذا معناه أن يسلموا أن يحققوا التوحيد، ويتبرءوا من الشرك، فمن أتى بالتوحيد، وسلم من الشرك فقد اتقى الله -جل وعلا- أعظم أنواع التقوى.
ولهذا قال جماعة من المفسرين في قوله -جل وعلا-: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ يعني: من الموحدين.
والمرتبة الثانية، أو النوع الثاني: تقوى أمر بها المؤمنين فقال -جل وعلا- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ وهذه التقوى للمؤمن تكون بعد تحصيله -كما هو معلوم- بعد تحصيله التوحيد، وترك الشرك فيكون التقوى في حقه أن يعمل بطاعة الله على نور من الله، وأن يترك معصية الله على نور من الله -جل وعلا-، وأن يترك المحرمات، ويمتثل الواجبات، وأن يبتعد عما فيه سخط الله -جل وعلا-، والتعرض لعذابه.
وهذه التقوى للمؤمنين -أيضا- على مراتب أعلاها أن يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس، حتى قال بعض السلف: ما سُموا متقين إلا لتركهم ما لا بأس به حذرا مما به بأس، وهذا في أعلى مراتب التقوى؛ لأنه اتقى ما لا ينفعه في الآخرة، وهذه مرتبة أهل الزهد والورع والصلاح.
والنوع الثالث من التقوى -في القرآن-: تقوى أُمر بها من هو آت بها، وذلك قول الله -جل وعلا-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾ ومن أُمر بشيء هو محصله، فإن معنى الأمر أن يثبت عليه، و على دواعيه، فمعنى قول الله -جل وعلا-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَ لاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَ الْمُنَافِقِينَ﴾ يعني: اثْبُتْ على مقتضيات التقوى، ﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَ الْمُنَافِقِينَ﴾ وذلك قوله -جل وعلا-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ﴾ الآية في سورة النساء، فناداهم باسم الإيمان، ثم أمرهم بالإيمان، و هذا معناه: أن يثبتوا على كمال الإيمان، أو أن يكملوا مقامات الإيمان بحسب الحال؛ لأن لفظ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الإيمان له درجات.
فقول النبي -ﷺ- هنا: ﴿اتق الله حيثما كنت﴾ هذا خطاب موجه لأهل الإيمان، يعني: لأهل النوع الثاني، فالمقصود منه أن يأتي بتقوى الله -جل وعلا- في أي مكان، أو زمان كان، فهو أن يعمل بالطاعات، و أن يجتنب المحرمات، كما قال طَلْق بن حبيب -رحمه الله-: "تقوى الله: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، و أن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله".
قال ابن مسعود و غيره في رجل سأله عن التقوى فقال: ألم تمش على طريق فيه شوك؟ فقال بلى. قال فما صنعت؟ قال شمرت واتقيت، قال فتلك التقوى"، وهي مروية -أيضا- عن عمر -رضي الله عنه- ونظمها ابن المعتز الشاعر المعروف بقوله:
خــل الذنـوب صغيرهـا وكبيرهــا ذاك التقـى
واصنـع كمـاشٍ فوق أر ضِ الشوك يحذر ما يرى
لا تحـــقرن صغـــيرة إن الجبـال مـن الحصى
وهذا بعامة يخاطب به أهل الإيمان، فإذن تقوى الله -جل وعلا- أن تخاف من أثر معصية الله -جل وعلا-، أن تخاف من الله -جل وعلا- فيما تأتي، وفيما تذر، وهي في كل مقام بحسبه.
التقوى في كل مقام بحسبه، ففي وقت الصلاة هنا تخاطب بالتقوى، وفي وقت الزكاة تخاطب بالتقوى، في هذا المقام، وفي وقت الإتيان بسنة تخاطب بالتقوى، وفي وقت المخاطبة بواجب تخاطب بالتقوى، وفي وقت أن يعرض عليك مُحرَّم من النساء أو المال، أو الخمور، أو ما أشبه ذلك من الأنواع، أو محرمات اللسان، أو أفعال القلوب من العجب والكبر، أو الازدراء وسوء الظن، إلى آخره، في كل مقام يأتيك هناك تقوى تخصه.
فإذن تتعلق التقوى بالأزمنة وبالأمكنة؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿اتق الله حيثما كنت﴾؛ لأنه ما من مكان تكون فيه أو زمان تكون فيه إلا وثم أمر أو نهي من الله -جل وعلا- يتوجه للعبد.
والوصية بالتقوى هي أعظم الوصايا، ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- كثيرا ما يوصي بعضهم بعضا بتقوى الله، فهم يعلمون معنى هذه الوصية العظيمة.
قال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿وأتبع السيئة الحسنة تمحها﴾.
أتبع الفاعل أنت، والسيئة هي المتبوعة، والحسنة هي التابعة، يعني: اجعل الحسنة وراء السيئة -بعد السيئة-، إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات، كما قال -جل وعلا-: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾.
وفي الصحيح، صحيح البخاري -رحمه الله- وغيره ﴿أن رجلا من الصحابة نال من امرأة قُبلة فأتي النبي -ﷺ- وأخبره بالخبر مستعظما لما فعل، فيسأله عن كفارة ذلك، فنزل قول الله -جل وعلا-: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ فقال له -عليه الصلاة والسلام- هل صليت معنا في هذا المسجد؟ قال: نعم. قال: فهي كفارة ما أتيت﴾.
وهذا يدل على أن المؤمن يجب عليه أن يستغفر من السيئات، وأن يسعى في زوالها، وذلك بأن يأتي بالحسنات، فالإتيان بالحسنات يمحو الله -جل وعلا- به أنواع السيئات.
وكل سيئة لها ما يقابلها، فليس كل سيئة تمحوها أي حسنة فإذا عظمت السيئة وكبرت فلا يمحوها إلا الحسنات العظام؛ لأن كل سيئة لها ما يقابلها من الحسنات.
ولهذا جاء أن الرجل إذا غلط أو جرى على لسانه كلمة: والكعبة أو أقسم بغير الله فإن كفارة ذلك من الحلف بالآباء وأشباه ذلك أن يقول لا إله إلا الله؛ لأن ذاك شرك، وكفارة الشرك أن يأتي بالتوحيد، وكلمة لا إله إلا الله هي من الحسنات العظام، كلمة التوحيد من الحسنات العظام.
إذن فالسيئات لها حسنات يمحو الله -جل وعلا- بها السيئات، وهذا يدل على أن السيئة تمحى، ولا تدخل في الموازنة، وظاهر الحديث: أن هذا فيمن أتبعها يعني: أنه إذا أتى بسيئة أتبعها بحسنة بقصد أن يمحو الله -جل وعلا- منه السيئات؛ لأنه قال ﴿وأتبع السيئة الحسنة تمحها﴾ فإذا فعل سيئة سعى في حسنة لكي تمحى عنه تلك السيئة.
والحديث الذي ذكرنا، وعموم الآية: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ يدل على عدم القصد، فالحديث هذا دل على القصد، يعني: أن يتبعها قاصدا، والآية والحديث؛ آية هود وحديث ابن مسعود الذي في البخاري تدل على عدم اعتبار القصد، فهل هذا في كل الأعمال؟ أم أنه يحتاج إلى أن يتبع السيئة الحسنة حتى يمحوها الله -جل وعلا- عنه بقصد الإتباع؟
هذا ظاهر في أثره، فأعظم ما يمحو الله -جل وعلا- به السيئات أن يأتي بالحسنة بقصد التكفير، فهذا يمحو الله -جل وعلا- به الخطيئة؛ لأنه جمع بين الفعل والنية، والنية فيها التوبة والندم على تلك السيئة، والرغبة إلى الله -جل وعلا- في أن يمحوها الله -جل وعلا- عنه.
إذن فهي مرتبتان:-
المرتبة الأولى: أن يقصد -وهي العليا- أن يقصد إذهاب السيئة بالحسنة التي يعملها، وهذا معه أن القلب يتبرأ من هذا الذنب، ويرغب في ذهابه، ويتقرب إلى الله -جل وعلا- بالحسنات حتى يرضى الله -جل وعلا- عنه ففي القلب أنواع من العبوديات ساقته إلى أن يعمل بالحسنة؛ ليمحو الله -جل وعلا- عنه بفعله الحسنة ما فعله من السيئات.
والمرتبة الثانية: أن يعمل بالخير مطلقا، والحسنات يذهبن السيئات بعامة، كل حسنة بما يقابلها من السيئة، فالله -جل وعلا- ذو الفضل العظيم.
إذا تقرر ذلك فالحسنة: المقصود بها الحسنة في الشرع، والسيئة هي: السيئة في الشرع، والحسنة في الشرع: ما يثاب عليه، والسيئة في الشرع: ما ورد الدليل بأنه يعاقب عليه.
إذن فالسيئات هي المحرمات من الصغائر والكبائر، والحسنات هي الطاعات من النوافل والواجبات.
قال -عليه الصلاة والسلام- بعد ذلك: ﴿وخالق الناس بخلق حسن﴾ والناس هنا يراد بهم المؤمنون في جماع الخُلق الحسن بأن يحسن إليهم، ويراد بهم -أيضا- غير المؤمنين في معاملتهم بالعدل، والخُلق الحسن يشمل: ما يجب على المرء من أنواع التعامل بالعدل لأهل العدل، والإحسان لمن له حق الإحسان، قال -عليه الصلاة والسلام- هنا: ﴿خالق الناس بخلق حسن﴾.
والخلق الحسن فسر بتفسيرات منها أنه: بذل الندى وكف الأذى، يعني: أن تبذل الخير للناس، وأن تكف أذاك عنهم.
وقال آخرون: إن الخلق الحسن: أن يحسن للناس بأنواع الإحسان، ولو أساءوا إليه، كما جاء الأمر بمخالقة الناس بالخلق الحسن، والحث على ذلك، وبيان فضيلته في أحاديث كثيرة.
ومما جاء في بيان فضيلته قوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿إن أدناكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون﴾. وثبت عنه -أيضا عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ﴿إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم﴾ يعني: المتنفل بالصيام، والمتنفل بالقيام فحسن الخلق الذي يبذله دائما طاعة من طاعات الله -جل وعلا-، فإذا كان دائم إحسان الأخلاق على النحو الذي وصفت، فإنه يكون في عبادة دائمة، إذا فعل ذلك طاعة لله -جل وعلا-.
وحسن الخلق تارة يكون "طبعا"، وتارة يكون "حملا" يعني: طاعة لله -جل وعلا- لا طبعا في المرء، وما كان من حسن الخلق على امتثال الطاعة، وإلزام النفس بذلك فهو أعظم أجرا ممن يفعله على وفق الطبيعة، يعني: لا يتكلف فيه؛ لأن القاعدة المقررة عند العلماء أن: الأمر إذا أُمِر به في الشرع، يعني: أن المسألة إذا أمر بها في الشرع، فإذا امتثلها اثنان فإن من كان أكلف في امتثال ما أمر به كان أعظم أجرا في الإتيان بالواجبات.
كما ثبت في الصحيحين أنه -عليه الصلاة والسلام- قال لعائشة ﴿إن أجركِ على قدر نَصَبِك﴾ وهذا محمول على شيئين، يعني: مشروط بشرطين:-
الأول: أن يكون من الواجبات.
والثاني: أن يكون مما توجه الأمر للعبد به فيكون أجره على قدر مشقته في امتثال الأمر.
أما النوافل فلا لحديث الذي يقرأ القرآن فيه تفاصيل القاعدة المعروفة عند أهل العلم.
الشيخ ابن العثيمين
قوله: ﴿اتَّقِ اللهَ﴾ أي اتخذ وقاية من عذاب الله عز وجل، وذلك بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
﴿حَيْثُمَا كُنْتَ﴾ حيث: ظرف مكان، أي في أي مكان كنت سواء في العلانية أو في السر، وسواء في البيت أو في السوق، وسواء عندك أناس أو ليس عندك أناس.
﴿وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا﴾ (أتبع) فعل أمر، و (السيئة) مفعول أول، و(الحسنة) مفعول ثان.
تَمْحُهَا جواب الأمر، ولهذا جزمت، لأن جواب الأمر يكون مجزوماً، ولو لم تكن مجزومة لقيل: تمحوها.
والمعنى: إذا فعلت سيئة فأتبعها بحسنة، فهذه الحسنة تمحو السيئة.
واختلف العلماء - رحمهم الله - هل المراد بالحسنة التي تتبع السيئة هي التوبة، فكأنه قال: إذا أسأت فتب، أو المراد العموم؟
الصواب: الثاني، أن الحسنة تمحو السيئة وإن لم تكن توبة، دليل هذا قوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات﴾ (هود: من الآية 114) ولما سأل النبي ﷺ رجل وقال: إنه أصاب من امرأة ما يصيب الرجل من امرأته إلا الزنا، وكان قد صلى معهم الفجر، فقال: أصليت معنا صلاة الفجر؟ قال: نعم، فتلا عليه الآية: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات﴾ (هود: 114) وهذا يدل على أن الحسنة تمحو السيئة وإن لم تكن هي التوبة.
﴿وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا﴾ فبين النتيجة هي أنها تمحوها.
﴿وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ﴾ أي عامل الناس بخلق حسن.
والخُلُق: هو الصفة الباطنة في الإنسان، والخَلْقُ: هو الصفة الظاهرة، والمعنى: عامل الناس بالأخلاق الحسنة بالقول وبالفعل.
فما هو الخلق الحسن؟
قال بعضهم: الخلق الحسن: كف الأذى، وبذل الندى، والصبر على الأذى - أي على أذى الغير - والوجه الطلق.
كف الأذى منك للناس.
بذل الندى أي العطاء.
الصبر على الأذى لأن الإنسان لايخلو من أذية من الناس.
الوجه الطلق: طلاقة الوجه.
وضابط ذلك ما ذكره الله عزّ وجل في قوله: ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ (لأعراف: 199) أي خذ ما عفا وسهل من الناس، ولاترد من الناس أن يأتوك علىما تحب لأن هذا أمر مستحيل، لكن خذ ما تيسر ﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ (الأعراف: 199) وهل الخلق الحسن جِبْلِيٌّ أو يحصل بالكسب؟
الجواب: بعضه جبلي، وبعضه يحصل بالكسب، قال النبي ﷺ لأشجّ عبد قيس: ﴿إِنَّ فِيْكَ لَخُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الحِلْمُ وَالأَنَاةُ﴾ قال: يارسول الله أخلقين تخلّقت بهما أم جبلني الله عليهما؟ قال: ﴿بَلْ جَبَلَكَ اللهُ عَلَيْهِمَا﴾ قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب.
فالخلق الحسن يكون طبيعياً بمعنى أن الإنسان يمنّ الله عليه من الأصل بخلق حسن. ويكون بالكسب بمعنى أن الإنسان يمرّن نفسه على الخلق الحسن حتى يكون ذا خلق حسن.
والعجيب أن الخلق الحسن يُكسِب الإنسان الراحة والطمأنينة وعدم القلق لأنه مطمئن من نفسه في معاملة غيره.
من فوائد هذا الحديث:
1- وجوب تقوى الله عزّ وجل حيثما كان الإنسان، لقوله: ﴿اتَّقِ الله حَيْثُمَا كُنْتَ﴾ وذلك بفعل أوامره واجتناب نواهيه سواء كنت في العلانية أو في السر.
وأيهما أفضل: أن يكون في السر أو في العلانية؟
وفي هذا تفصيل: إذا كان إظهارك للتقوى يحصل به التأسّي والاتباع لما أنت عليه فهنا إعلانها أحسن وأفضل، ولهذا مدح الله الذين ينفقون سرّاً وعلانية، وقال النبي ﷺ : ﴿مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَومِ القِيَامَةِ﴾.
أما إذا كان لايحصل بالإظهار فائدة فالإسرار أفضل، لقول النبي ﷺ فيمن يظلّهم الله في ظله: ﴿رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِيْنُهُ﴾.
وهل الأفضل في ترك المعاصي إعلانه أو إسراره؟
يقال فيه ما قيل في الأوامر، فمثلاً إذا كان الإنسان يريد أن يدخل في عمل فقيل له:إنه يشتمل على محرم كالأمور الربوية فتركه جهاراً، فذلك أفضل لأنه يُتأسّى به، وأما إذا كان الأمر لايتعدى إلى الغير ولا ينتفع به فالإسرار أفضل.
فإن قال قائل: قوله : ﴿اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ﴾ هل يشمل فعل الأوامر في أماكن غير لائقة كالمراحيض مثلاً؟
الجواب: لا تفعل الأوامر في هذه الأماكن، ولكن انوِ بقلبك أنك مطيع لله عزّ وجل ممتثل لأمره مجتنب لنهيه.
2- أن الحسنات يذهبن السيئات لقوله: ﴿أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا﴾.
3- فضل الله عزّ وجل على العباد وذلك لأننا لو رجعنا إلى العدل لكانت الحسنة لاتمحو السيئة إلا بالموازنة، وظاهر الحديث العموم.
وهل يُشترط أن ينوي بهذه الحسنة أنه يمحو السيئة التي فعل؟
فالجواب: ظاهر الحديث: لا، وأن مجرد فعل الحسنات يذهب السيئات، وهذا من نعمة الله عزّ وجل على العباد ومن مقتضى كون رحمته سبقت غضبه.
4- الحث على مخالقة الناس بالخلق الحسن، لقوله: ﴿وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ﴾.
فإن قيل: معاملة الناس بالحزم والقوة والجفاء أحياناً هل ينافي هذا الحديث أو لا؟
فالجواب: لا ينافيه، لأنه لكل مقام مقال، فإذا كانت المصلحة في الغلظة والشدة فعليك بها، وإذا كان الأمر بالعكس فعليك باللين والرفق، وإذا دار الأمر بين اللين والرفق أو الشدة والعنف فعليك باللين والرفق، لأن النبي ﷺ قال: ﴿إِنَّ اللهَ رَفِيْقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ﴾ ولقد جرت أشياء كثيرة تدل على فائدة الرفق ومن ذلك: مرّ يهودي بالنبي ﷺ فقال: السام عليك يامحمد - والسام يعني الموت - فقالت عائشة رضي الله عنها : عليك السام واللعنة - جزاءً وفاقاً وزيادة أيضاً - فنهاها النبي ﷺ وقال: ﴿إِنَّ اللهَ رَفِيْقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ وَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الكَتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ﴾. والله الموفّق.
الشيخ صالح آل الشيخ
هذا الحديث حديث أبي ذر و معاذ بن جبل -رضي الله عنهما- عن رسول الله -ﷺ- قال: ﴿اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن﴾.
قوله: ﴿اتق الله حيثما كنت﴾ هذا أمر بالتقوى، وحيثما هذه متعلقة بالأزمنة والأمكنة، يعني: في أي زمان كنت، و في أي مكان كنت؛ لأن كلمة "حيث" قد تتوجه إلى الأمكنة، و قد تتوجه إلى الأزمنة، يعني: قد تكون ظرف مكان، وقد تكون ظرف زمان، وهي هنا محتملة للأمرين ﴿اتق الله حيثما كنت﴾ يعني: اتق الله في أي مكان أو في أي زمان كنت.
والأمر بتقوى الله -جل وعلا- هنا على الوجوب؛ لأن التقوى أصل عظيم من أصول الدين، وقد أمر الله -جل وعلا- نبيه -ﷺ- بأن يتقي الله، فقال -جل وعلا-: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾ وأمر المؤمنين بأن يتقوا الله حق تقاته: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ وأمرهم بتقوى الله بعامة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ وأشباه ذلك.
وتقوى الله -جل وعلا- جاءت في القرآن في مواضع كثيرة، وأتت التقوى في مواضع أُخر بتقوى عذاب الله -جل وعلا-، وبأن يتقي النار، وأن يتقي يوم القيامة كما قال -جل وعلا-: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ وقال -جل وعلا-: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ﴾ وهكذا في آيات أُخر.
فهذان إذن نوعان، فإذا توجهت التقوى، وصارَ مفعولُها لفظَ الجلالةِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ فمعنى تقوى الله -جل وعلا- هنا: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وسخطه وأليم عقابه في الدنيا وفي الآخرة وقاية تقيك منه، وهذه الوقاية بالتوحيد، ونبذ الشرك، وهذه هي التقوى التي أُمر الناس جميعا بها؛ لأن تقوى الله -كما ذكرت لك من معناها- راجعة إلى المعنى اللغوي، وهي أن التقوى أصلها "وَقْوَى" فالتاء فيها منقلبة عن واو، وهي من الوقاية، وقاه يقيه وقاية.
فالمتقي هو: من جعل بينه وبين ما يكره وقاية، بينه وبين سخط الله وعذابه وأليم عقابه وقاية، وهي في القرآن أي: في الأمر بتقوى الله على ثلاث مراتب:-
الأولى: تقوى أمر بها الناس جميعا، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾ في آيات، وهذا معناه أن يسلموا أن يحققوا التوحيد، ويتبرءوا من الشرك، فمن أتى بالتوحيد، وسلم من الشرك فقد اتقى الله -جل وعلا- أعظم أنواع التقوى.
ولهذا قال جماعة من المفسرين في قوله -جل وعلا-: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ يعني: من الموحدين.
والمرتبة الثانية، أو النوع الثاني: تقوى أمر بها المؤمنين فقال -جل وعلا- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ وهذه التقوى للمؤمن تكون بعد تحصيله -كما هو معلوم- بعد تحصيله التوحيد، وترك الشرك فيكون التقوى في حقه أن يعمل بطاعة الله على نور من الله، وأن يترك معصية الله على نور من الله -جل وعلا-، وأن يترك المحرمات، ويمتثل الواجبات، وأن يبتعد عما فيه سخط الله -جل وعلا-، والتعرض لعذابه.
وهذه التقوى للمؤمنين -أيضا- على مراتب أعلاها أن يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس، حتى قال بعض السلف: ما سُموا متقين إلا لتركهم ما لا بأس به حذرا مما به بأس، وهذا في أعلى مراتب التقوى؛ لأنه اتقى ما لا ينفعه في الآخرة، وهذه مرتبة أهل الزهد والورع والصلاح.
والنوع الثالث من التقوى -في القرآن-: تقوى أُمر بها من هو آت بها، وذلك قول الله -جل وعلا-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾ ومن أُمر بشيء هو محصله، فإن معنى الأمر أن يثبت عليه، و على دواعيه، فمعنى قول الله -جل وعلا-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَ لاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَ الْمُنَافِقِينَ﴾ يعني: اثْبُتْ على مقتضيات التقوى، ﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَ الْمُنَافِقِينَ﴾ وذلك قوله -جل وعلا-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ﴾ الآية في سورة النساء، فناداهم باسم الإيمان، ثم أمرهم بالإيمان، و هذا معناه: أن يثبتوا على كمال الإيمان، أو أن يكملوا مقامات الإيمان بحسب الحال؛ لأن لفظ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الإيمان له درجات.
فقول النبي -ﷺ- هنا: ﴿اتق الله حيثما كنت﴾ هذا خطاب موجه لأهل الإيمان، يعني: لأهل النوع الثاني، فالمقصود منه أن يأتي بتقوى الله -جل وعلا- في أي مكان، أو زمان كان، فهو أن يعمل بالطاعات، و أن يجتنب المحرمات، كما قال طَلْق بن حبيب -رحمه الله-: "تقوى الله: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، و أن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله".
قال ابن مسعود و غيره في رجل سأله عن التقوى فقال: ألم تمش على طريق فيه شوك؟ فقال بلى. قال فما صنعت؟ قال شمرت واتقيت، قال فتلك التقوى"، وهي مروية -أيضا- عن عمر -رضي الله عنه- ونظمها ابن المعتز الشاعر المعروف بقوله:
خــل الذنـوب صغيرهـا وكبيرهــا ذاك التقـى
واصنـع كمـاشٍ فوق أر ضِ الشوك يحذر ما يرى
لا تحـــقرن صغـــيرة إن الجبـال مـن الحصى
وهذا بعامة يخاطب به أهل الإيمان، فإذن تقوى الله -جل وعلا- أن تخاف من أثر معصية الله -جل وعلا-، أن تخاف من الله -جل وعلا- فيما تأتي، وفيما تذر، وهي في كل مقام بحسبه.
التقوى في كل مقام بحسبه، ففي وقت الصلاة هنا تخاطب بالتقوى، وفي وقت الزكاة تخاطب بالتقوى، في هذا المقام، وفي وقت الإتيان بسنة تخاطب بالتقوى، وفي وقت المخاطبة بواجب تخاطب بالتقوى، وفي وقت أن يعرض عليك مُحرَّم من النساء أو المال، أو الخمور، أو ما أشبه ذلك من الأنواع، أو محرمات اللسان، أو أفعال القلوب من العجب والكبر، أو الازدراء وسوء الظن، إلى آخره، في كل مقام يأتيك هناك تقوى تخصه.
فإذن تتعلق التقوى بالأزمنة وبالأمكنة؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿اتق الله حيثما كنت﴾؛ لأنه ما من مكان تكون فيه أو زمان تكون فيه إلا وثم أمر أو نهي من الله -جل وعلا- يتوجه للعبد.
والوصية بالتقوى هي أعظم الوصايا، ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- كثيرا ما يوصي بعضهم بعضا بتقوى الله، فهم يعلمون معنى هذه الوصية العظيمة.
قال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿وأتبع السيئة الحسنة تمحها﴾.
أتبع الفاعل أنت، والسيئة هي المتبوعة، والحسنة هي التابعة، يعني: اجعل الحسنة وراء السيئة -بعد السيئة-، إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات، كما قال -جل وعلا-: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾.
وفي الصحيح، صحيح البخاري -رحمه الله- وغيره ﴿أن رجلا من الصحابة نال من امرأة قُبلة فأتي النبي -ﷺ- وأخبره بالخبر مستعظما لما فعل، فيسأله عن كفارة ذلك، فنزل قول الله -جل وعلا-: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ فقال له -عليه الصلاة والسلام- هل صليت معنا في هذا المسجد؟ قال: نعم. قال: فهي كفارة ما أتيت﴾.
وهذا يدل على أن المؤمن يجب عليه أن يستغفر من السيئات، وأن يسعى في زوالها، وذلك بأن يأتي بالحسنات، فالإتيان بالحسنات يمحو الله -جل وعلا- به أنواع السيئات.
وكل سيئة لها ما يقابلها، فليس كل سيئة تمحوها أي حسنة فإذا عظمت السيئة وكبرت فلا يمحوها إلا الحسنات العظام؛ لأن كل سيئة لها ما يقابلها من الحسنات.
ولهذا جاء أن الرجل إذا غلط أو جرى على لسانه كلمة: والكعبة أو أقسم بغير الله فإن كفارة ذلك من الحلف بالآباء وأشباه ذلك أن يقول لا إله إلا الله؛ لأن ذاك شرك، وكفارة الشرك أن يأتي بالتوحيد، وكلمة لا إله إلا الله هي من الحسنات العظام، كلمة التوحيد من الحسنات العظام.
إذن فالسيئات لها حسنات يمحو الله -جل وعلا- بها السيئات، وهذا يدل على أن السيئة تمحى، ولا تدخل في الموازنة، وظاهر الحديث: أن هذا فيمن أتبعها يعني: أنه إذا أتى بسيئة أتبعها بحسنة بقصد أن يمحو الله -جل وعلا- منه السيئات؛ لأنه قال ﴿وأتبع السيئة الحسنة تمحها﴾ فإذا فعل سيئة سعى في حسنة لكي تمحى عنه تلك السيئة.
والحديث الذي ذكرنا، وعموم الآية: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ يدل على عدم القصد، فالحديث هذا دل على القصد، يعني: أن يتبعها قاصدا، والآية والحديث؛ آية هود وحديث ابن مسعود الذي في البخاري تدل على عدم اعتبار القصد، فهل هذا في كل الأعمال؟ أم أنه يحتاج إلى أن يتبع السيئة الحسنة حتى يمحوها الله -جل وعلا- عنه بقصد الإتباع؟
هذا ظاهر في أثره، فأعظم ما يمحو الله -جل وعلا- به السيئات أن يأتي بالحسنة بقصد التكفير، فهذا يمحو الله -جل وعلا- به الخطيئة؛ لأنه جمع بين الفعل والنية، والنية فيها التوبة والندم على تلك السيئة، والرغبة إلى الله -جل وعلا- في أن يمحوها الله -جل وعلا- عنه.
إذن فهي مرتبتان:-
المرتبة الأولى: أن يقصد -وهي العليا- أن يقصد إذهاب السيئة بالحسنة التي يعملها، وهذا معه أن القلب يتبرأ من هذا الذنب، ويرغب في ذهابه، ويتقرب إلى الله -جل وعلا- بالحسنات حتى يرضى الله -جل وعلا- عنه ففي القلب أنواع من العبوديات ساقته إلى أن يعمل بالحسنة؛ ليمحو الله -جل وعلا- عنه بفعله الحسنة ما فعله من السيئات.
والمرتبة الثانية: أن يعمل بالخير مطلقا، والحسنات يذهبن السيئات بعامة، كل حسنة بما يقابلها من السيئة، فالله -جل وعلا- ذو الفضل العظيم.
إذا تقرر ذلك فالحسنة: المقصود بها الحسنة في الشرع، والسيئة هي: السيئة في الشرع، والحسنة في الشرع: ما يثاب عليه، والسيئة في الشرع: ما ورد الدليل بأنه يعاقب عليه.
إذن فالسيئات هي المحرمات من الصغائر والكبائر، والحسنات هي الطاعات من النوافل والواجبات.
قال -عليه الصلاة والسلام- بعد ذلك: ﴿وخالق الناس بخلق حسن﴾ والناس هنا يراد بهم المؤمنون في جماع الخُلق الحسن بأن يحسن إليهم، ويراد بهم -أيضا- غير المؤمنين في معاملتهم بالعدل، والخُلق الحسن يشمل: ما يجب على المرء من أنواع التعامل بالعدل لأهل العدل، والإحسان لمن له حق الإحسان، قال -عليه الصلاة والسلام- هنا: ﴿خالق الناس بخلق حسن﴾.
والخلق الحسن فسر بتفسيرات منها أنه: بذل الندى وكف الأذى، يعني: أن تبذل الخير للناس، وأن تكف أذاك عنهم.
وقال آخرون: إن الخلق الحسن: أن يحسن للناس بأنواع الإحسان، ولو أساءوا إليه، كما جاء الأمر بمخالقة الناس بالخلق الحسن، والحث على ذلك، وبيان فضيلته في أحاديث كثيرة.
ومما جاء في بيان فضيلته قوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿إن أدناكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون﴾. وثبت عنه -أيضا عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ﴿إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم﴾ يعني: المتنفل بالصيام، والمتنفل بالقيام فحسن الخلق الذي يبذله دائما طاعة من طاعات الله -جل وعلا-، فإذا كان دائم إحسان الأخلاق على النحو الذي وصفت، فإنه يكون في عبادة دائمة، إذا فعل ذلك طاعة لله -جل وعلا-.
وحسن الخلق تارة يكون "طبعا"، وتارة يكون "حملا" يعني: طاعة لله -جل وعلا- لا طبعا في المرء، وما كان من حسن الخلق على امتثال الطاعة، وإلزام النفس بذلك فهو أعظم أجرا ممن يفعله على وفق الطبيعة، يعني: لا يتكلف فيه؛ لأن القاعدة المقررة عند العلماء أن: الأمر إذا أُمِر به في الشرع، يعني: أن المسألة إذا أمر بها في الشرع، فإذا امتثلها اثنان فإن من كان أكلف في امتثال ما أمر به كان أعظم أجرا في الإتيان بالواجبات.
كما ثبت في الصحيحين أنه -عليه الصلاة والسلام- قال لعائشة ﴿إن أجركِ على قدر نَصَبِك﴾ وهذا محمول على شيئين، يعني: مشروط بشرطين:-
الأول: أن يكون من الواجبات.
والثاني: أن يكون مما توجه الأمر للعبد به فيكون أجره على قدر مشقته في امتثال الأمر.
أما النوافل فلا لحديث الذي يقرأ القرآن فيه تفاصيل القاعدة المعروفة عند أهل العلم.