الشيخ صالح آل الشيخ
هذا الحديث فيه الكلام على شعبة من شعب الإيمان ألا وهي الحياء، فقد أُسند الكلام هنا إلى ما بقي للناس من النبوة الأولى فقد قال -عليه الصلاة والسلام- هنا: ﴿إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت﴾.
فقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا: ﴿إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى﴾ يقتضي أن هناك كلاما أدركه الناس من كلام الأنبياء، ومعنى الإدراك: أنه فشا في الناس، وتناقلوه عن الأنبياء.
وقوله: ﴿مما أدرك الناس﴾ من هنا تبعيضيه فيكون هذا القول وهو: ﴿إذا لم تستح فاصنع ما شئت﴾ يكون بعض ما أُدرك من كلام النبوة الأولى، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى﴾ والنبوة الأولى المقصود بها: النبوات المتقدمة، يعني: أوائل الرسل والأنبياء كنوح -عليه السلام-، وإبراهيم -عليه السلام- وهكذا.
فإن نوحا -عليه السلام- له كلام فشا في أتباعه فيما بعده، وإبراهيم -عليه السلام- كذلك في كلام له، وكذلك مما أعطاه الله -جل وعلا- وأوحاه إليه فيما في صحفه.
فالنبوة الأولى المقصود بها: النبوات السابقة البعيدة عن إرث الناس لذلك الكلام، فيكون مقتضى النبوة الأولى أن هناك نبوات متأخرة، وهذا صحيح؛ لأنه إذا أُطلق النبوات الأولى فإنما يُعنَى به الرسل والأنبياء المتقدمون، أما موسى -عليه السلام-، وعيسى -عليه السلام-، وهكذا أنبياء بني إسرائيل، داود وغيره هؤلاء من النبوات المتأخرة، يعني: من الأنبياء والرسل المتأخرين.
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى﴾ هذا يعني: أن هذا الكلام كلام أنبياء، وله تشريعه، وله فائدته العظيمة، فهذا فيه لفت النظر إلى الاهتمام بهذا الكلام.
قال: ﴿إذا لم تستح فاصنع ما شئت﴾ تستحي يعني: الحاء هنا؛ لأن الفعل استحى يستحي فهنا تستحي فجزم لم أثَّرَ في الفعل بحذف الياء؛ لأن هناك يائين، وتظهر هذه في قول الله -جل وعلا-: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي﴾ فثم ياءان، هنا لما أتت لم حذفت الياء التي هي من الفعل، وبقيت الياء الأخرى الداخلة، وإذا قيل لم تستحِ على كسر الحاء إشارة إلى حذف الياء فلا بأس في نظائرها المعروفة في النحو.
قوله هنا: ﴿لم تستح فاصنع ما شئت﴾ هذا فيه ذكر الحياء، والحياء كما جاء في الحديث الآخر شعبة من الإيمان، وهو ملكة باطنة، والحياء هذا يأتي تارة بالجبلة والخلق المطبوع عليه الإنسان، وتارة يأتي بالاكتساب، أما بالجبلة والطبع فهذا يكون بعض الناس حييا.
كما جاء في الصحيح ﴿أن رجلا من الأنصار كان يعظ أخاه في الحياء -يعني: يقول له: لماذا تستحي؟ لماذا أنت كذا وكذا فقال له النبي -عليه الصلاة والسلام-: دعه فإن الحياء لا يأتي إلا بخير﴾ فالحياء شعبة باطنة، ويكون جبليا طبعيا، ويكون مكتسبا، والمكتسب مأمور به، وهو أن يكون مستحيا من الله -جل وعلا- وأن يكون مبتعدا عن المحرمات، وما يشينه عند ربه -جل وعلا-، ممتثلا للأوامر مقبلا عليها؛ لأن الله -جل وعلا- يحب ذلك ويرضاه، فالحياء المكتسب ما يكون في القلب من الخُلق الذي يجعله آنفا أن يغشى الحرام، أو أن يترك الواجب، وهذا يكون بملازمة الإيمان، وبالعلم والعمل الصالح حتى يكون ذلك ملكة.
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿إذا لم تستح فاصنع ما شئت﴾ فسر بتفسيرين، يعني: العلماء اختلفوا فيه على قولين: ومجمل هذين القولين: أن هذا إما أمر، وإما ليس بأمر، ومن قال: إنه أمر قال: معنى الحديث إذا كان الأمر الذي تريد إتيانه مما لا يُستَحَيا منه فاصنع ما شئت من تلك الأمور التي لا يستحيا منها عند المؤمنين.
يعني: إذا كان الأمر ليس حراما، وليس مما يخرم مكارم الأخلاق والمروءات، ولم يكن فيه تفريط بواجب، ولم يكن مما يستحي منه في الشرع فاصنعه ولا تبال؛ لأن هذا دليل أنه لا بأس به، وهذا قول جماعة من أهل العلم، منهم إسحاق وأحمد، وجماعة كثيرون.
والقول الثاني: أنه ليس بأمر، وأهل العلم في هذا -أيضا- لهم توجيهان:-
الأول: قالوا: إنه خرج عن معنى الأمر الذي هو الإلزام بالفعل إلى التهديد فمعنى ﴿إذا لم تستح فاصنع ما شئت﴾ يعني: إذا لم يكن لك حياء يمنعك من مقارفة الحرام والمنكر، والتفريط في الواجبات فاصنع ما شئت، فإن من لا حياء له لا خير فيه، وهذا يكون خرج للتهديد؛ لأن صيغة "افعل" عند الأصوليين، وعند أهل اللغة تأتي ويراد بها التهديد، كما في قوله -جل وعلا-: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ في سورة فصلت ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ وهذا مخاطب به المشركون، يعني: اعملوا ما شئتم من الأعمال، وليس هذا تخييرا لهم، ولكنه تهديد، ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ هذا توبيخ ليس فيه الأمر الذي هو يوجب الامتثال، ولكن هذا من باب التهكم والتوبيخ والتخويف وهكذا.
فإذن صيغة "افعل" تخرج عن مرادها من أنه إلزام بالفعل إلى صيغ أخرى بلاغية منها: التهديد والتوبيخ، وأشباه ذلك، فهنا في قوله: ﴿فاصنع ما شئت﴾ هذا على جهة التهديد، إذا لم يكن لك مانع من الحياء يمنعك عن مقارفة المنكر فإنه افعل ما شئت، وستلقى الحساب وستلقى سوء هذا الفعل الذي لم يمنعك عنه الحياء.
والوجه الثاني لهذا القول: أن طائفة من أهل العلم قالوا: هذا خرج مخرج الخبر، يعني: أن ما لا يستحيا منه فإن الناس يصنعونه، وهذا خبر عن الناس، وعما يفعلونه، وهو أن الأمور التي لا يستحيون منها يصنعونها، إذا لم تستح من ذلك الفعل فلك صنعه، أو فالناس يفعلونه، فهو أمر في ظاهره خبر في باطنه.
وهذان القولان ظاهران، في الأول، وفي الثاني، يعني: أنه أمر أو أنه ليس بأمر خرج على التهديد، أو على الخبر، كل هذا قريب، والحديث يحتمل القول الأول، ويحتمل القول الثاني.
الشيخ ابن العثيمين
﴿إِنَّ﴾ أداة توكيد خبرها مقدم وهو قوله: ﴿مِما أَدرَكَ الناسُ﴾ واسم إن قوله : ﴿إذا لَم تَستَحْيِ فَاصْنَع مَا شِئت﴾ وهذه الجملة على الحكاية، فتكون الجملة كلها اسم إن، والتقدير: إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى هذا القول.
وقوله: ﴿إِنَّ مِما أَدرَكَ الناسُ﴾ (من) هنا للتبعيض، أي إن بعض الذي أدركه الناس من كلام النبوة الأولى... الخ.
وقوله: ﴿النبوَةِ الأُولَى﴾ يعني السابقة، فيشمل النبوة الأولى على الإطلاق، والنبوة الأولى بالنسبة لنبوة النبي ﷺ فعليه نفسر: النبوَةِ الأُولَى أي السابقة .
﴿إذا لَم تَستَحْيِ فَاصْنَع مَا شِئت﴾ هذه الكلمة من كلام النبوة الأولى، والحياء هو عبارة عن انفعال يحدث للإنسان عند فعل ما لا يجمله ولا يزينه، فينكسر ويحصل الحياء.
وقوله: ﴿إِذا لَم تَستَحْيِ﴾ يحتمل معنيين:
المعنى الأول: إذا لم تكن ذا حياء صنعت ما تشاء، فيكون الأمر هنا بمعنى الخبر، لأنه لا حياء عنده، يفعل الذي يخل بالمروءة والذي لا يخل.
المعنى الثاني: إذا كان الفعل لا يُستَحَيى منه فاصنعه ولا تبالِ.
فالأول عائد على الفاعل، والثاني عائد على الفعل.
والمعنى: لا تترك شيئاً إذا كان لا يُستَحيى منه.
وقوله: ﴿فاصنَع مَا شِئت﴾ أي افعل، والأمر هنا للإباحة على المعنى الثاني، أي إذا كان الفعل مما لا يستحيى منه فلا حرج.
وهي للذم على المعنى الأول، أي أنك إذا لم يكن فيك حياء صنعت ما شئت.
من فوائد هذا الحديث :
1- أن الآثار عن الأمم السابقة قد تبقى إلى هذه الأمة، لقوله: ﴿إِنَّ مِمَا أَدرَكَ الناسُ مِن كَلاَمِ النُّبوَةِ الأُولَى﴾ وهذا هو الواقع.
وما سبق عن الأمم السابقة إما أن ينقل عن طريق الوحي في القرآن، أو في السنة ، أو يكون مما تناقله الناس.
فأما في القرآن ففي قوله عزّ وجل: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * َالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى* صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ (الأعلى: 16-19) ، وما جاءت به السنة فكثير، كثيراً ما يذكر النبي ﷺ عن بني إسرائيل ما يذكر.
وأما ما يؤثر عن النبوة الأولى: فهذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما شهد شرعنا بصحته، فهو صحيح مقبول.
القسم الثاني: ما شهد شرعنا ببطلانه، فهو باطل مردود.
القسم الثالث: ما لم يرد شرعنا بتأييده ولا تفنيده، فهذا يتوقف فيه، وهذا هو العدل.
ولكن مع ذلك لا بأس أن يتحدث به الإنسان في المواعظ وشبهها إذا لم يخشَ أن يفهم المخاطَب أنه صحيح.
ومما نعلم أنه خطأ وباطل ما يذكر عن داود عليه الصلاة والسلام حينما دخل محرابه- أي مكان صلاته - وجعل يتعبد وأغلق الباب، وكان قد جعله الله تعالى خليفة في الأرض يحكم بين الناس، فجاء الخصمان فلم يجدا الباب مفتوحاً، فتسورا الجدار فنزلا على داود، ففزع منهم، كعادة البشر، قالوا:لا تخف، وهذا يدل على أنهم أكثر من اثنين ، فقالوا ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً﴾ (ص: 22-23).
هؤلاء خصوم ويقول:إن هذا أخي، وهذا أدب رفيع، لو كان في وقتنا هذا لقال إن هذا المجرم الظالم، لكن هذا قال: ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) أي شاة ﴿وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾ (ص: 23) أي غلبني لأن عنده بياناً وفصاحة.
قال داود: ﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ* فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ﴾ (ص: 24-25).
زعم اليهود أن لداود عليه الصلاة والسلام جندياً له امرأة جميلة، وأرادها داود، ولكي يتوصل إليها أمر هذا الجندي أن يذهب في الغزو من أجل أن يقتل فيأخذ داود زوجته.
وهذا لا شك أنه منكر، فهذا لا يقع من عامة الناس فكيف يقع من نبي؟ !! لكنهم افتروا على الله كذباً وعلى رسله كذباً.
فإن قال قائل: ما وجه قوله: ﴿وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ﴾ (ص: 24).
فالجواب: أن هذا الذي حصل من داود عليه السلام فيه شيء من المخالفات، منها:
أولاً:أنه انحبس في محرابه عن الحكم بين الناس، وكان الله تعالى قد جعله خليفة يحكم بين الناس، ولكنه آثر العبادة القاصرة على الحكم بين الناس.
ثانياً:أنه أغلق الباب مما اضطر الخصوم إلى أن يتسوروا الجدار، وربما يسقطون ويحصل في هذا ضرر.
ثالثاً:أنه عليه الصلاة والسلام حكم للخصم قبل أن يأخذ حجة الخصم الآخر، فقال: ﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ﴾ (ص: 24) وهذا لا يجوز، أي لا يجوز للحاكم أن يحكم بقول أحد الخصمين حتى يسمع كلام الخصم الآخر، فعلم داود أن الله تعالى اختبره بهذه القصة فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب.
فما أثر عن بني إسرائيل في هذا نعلم أنه كذب، لأنه ينافي عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأخلاقهم، وما جاؤوا به من العدل.
2- أن هذه الجملة: ﴿إِذا لَم تَستَحْيِ فاصنَع مَا شِئت﴾ مأثورة عمن سبق من الأمم، لأنها كلمة توجه إلى كل خلق جميل.
3- الثناء على الحياء، سواء على الوجه الأول أو الثاني، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: ﴿الحَيَاءُ شُعبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ﴾.
والحياء نوعان:
الأول: فيما يتعلق بحق الله عزّ وجل.
الثاني: فيما يتعلق بحق المخلوق.
أما الحياء فيما يتعلق بحق الله عزّ وجل فيجب أن تستحي من الله عزّ وجل أن يراك حيث نهاك، وأن يفقدك حيث أمرك.
وأما الحياء من المخلوق فأن تكفَّ عن كل ما يخالف المروءة والأخلاق.
فمثلاً: في المجلس العلمي لو أن إنساناً في الصف الأول مدَّ رجليه، فإنه لا يعتبر حياءً لأن هذا يخالف المروءة، لكن لو كان مجلس بين أصحابه ومدَّ رجليه فإن ذلك لا ينافي المروءة، ومع هذا فالأولى أن يستأذن ويقول: أتأذنون أن أمدَّ رجلي؟
ثم الحياء نوعان أيضاً من وجه آخر:
نوع غريزي طبيعي، ونوع آخر مكتسب.
النوع الأول: فإن بعض الناس يهبه الله عزّ وجل حياءً، فتجده حيياً من حين الصغر، لا يتكلم إلا عند الضرورة، ولا يفعل شيئاً إلا عند الضرورة، لأنه حيي.
النوع الثاني: مكتسب يتمرن عليه الإنسان، بمعنى أن يكون الإنسان غير حيي ويكون فرهاً باللسان، وفرهاً بالأفعال بالجوارح، فيصحب أناساً أهل حياء وخير فيكتسب منهم، والأول أفضل وهو الحياء الغريزي.
ولكن اعلم أن الحياء خلق محمود إلا إذا منع مما يجب، أو أوقع فيما يحرم ، فإذا منع مما يجب فإنه مذموم كما لو منعه الحياء من أن ينكر المنكر مع وجوبه، فهذا حياء مذموم، أنكر المنكر ولا تبالِ، ولكن بشرط أن يكون ذلك واجباً وعلى حسب المراتب والشروط، وحياء ممدوح وهو الذي لا يوقع صاحبه في ترك واجب ولا في فعل محرم.
4- أن من خلق الإنسان الذي لا يستحيي أن يفعل ما شاء ولا يبالي، ولذلك تجد الناس إذا فعل هذا الرجل ما يستحيى منه يتحدثون فيه ويقولون: فلان لا يستحيي فعل كذا وفعل كذا وفعل كذا.
5- ومن فوائد الحديث على المعنى الثاني: أن ما لا يستحيى منه فالإنسان حل في فعله لقوله: ﴿إذَا لَم تَستَحْيِ فَاصنَع مَا شِئت﴾.
6- فيه الرد على الجبرية، لإثبات المشيئة للعبد. والله الموفق.
الشيخ صالح آل الشيخ
هذا الحديث فيه الكلام على شعبة من شعب الإيمان ألا وهي الحياء، فقد أُسند الكلام هنا إلى ما بقي للناس من النبوة الأولى فقد قال -عليه الصلاة والسلام- هنا: ﴿إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت﴾.
فقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا: ﴿إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى﴾ يقتضي أن هناك كلاما أدركه الناس من كلام الأنبياء، ومعنى الإدراك: أنه فشا في الناس، وتناقلوه عن الأنبياء.
وقوله: ﴿مما أدرك الناس﴾ من هنا تبعيضيه فيكون هذا القول وهو: ﴿إذا لم تستح فاصنع ما شئت﴾ يكون بعض ما أُدرك من كلام النبوة الأولى، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى﴾ والنبوة الأولى المقصود بها: النبوات المتقدمة، يعني: أوائل الرسل والأنبياء كنوح -عليه السلام-، وإبراهيم -عليه السلام- وهكذا.
فإن نوحا -عليه السلام- له كلام فشا في أتباعه فيما بعده، وإبراهيم -عليه السلام- كذلك في كلام له، وكذلك مما أعطاه الله -جل وعلا- وأوحاه إليه فيما في صحفه.
فالنبوة الأولى المقصود بها: النبوات السابقة البعيدة عن إرث الناس لذلك الكلام، فيكون مقتضى النبوة الأولى أن هناك نبوات متأخرة، وهذا صحيح؛ لأنه إذا أُطلق النبوات الأولى فإنما يُعنَى به الرسل والأنبياء المتقدمون، أما موسى -عليه السلام-، وعيسى -عليه السلام-، وهكذا أنبياء بني إسرائيل، داود وغيره هؤلاء من النبوات المتأخرة، يعني: من الأنبياء والرسل المتأخرين.
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى﴾ هذا يعني: أن هذا الكلام كلام أنبياء، وله تشريعه، وله فائدته العظيمة، فهذا فيه لفت النظر إلى الاهتمام بهذا الكلام.
قال: ﴿إذا لم تستح فاصنع ما شئت﴾ تستحي يعني: الحاء هنا؛ لأن الفعل استحى يستحي فهنا تستحي فجزم لم أثَّرَ في الفعل بحذف الياء؛ لأن هناك يائين، وتظهر هذه في قول الله -جل وعلا-: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي﴾ فثم ياءان، هنا لما أتت لم حذفت الياء التي هي من الفعل، وبقيت الياء الأخرى الداخلة، وإذا قيل لم تستحِ على كسر الحاء إشارة إلى حذف الياء فلا بأس في نظائرها المعروفة في النحو.
قوله هنا: ﴿لم تستح فاصنع ما شئت﴾ هذا فيه ذكر الحياء، والحياء كما جاء في الحديث الآخر شعبة من الإيمان، وهو ملكة باطنة، والحياء هذا يأتي تارة بالجبلة والخلق المطبوع عليه الإنسان، وتارة يأتي بالاكتساب، أما بالجبلة والطبع فهذا يكون بعض الناس حييا.
كما جاء في الصحيح ﴿أن رجلا من الأنصار كان يعظ أخاه في الحياء -يعني: يقول له: لماذا تستحي؟ لماذا أنت كذا وكذا فقال له النبي -عليه الصلاة والسلام-: دعه فإن الحياء لا يأتي إلا بخير﴾ فالحياء شعبة باطنة، ويكون جبليا طبعيا، ويكون مكتسبا، والمكتسب مأمور به، وهو أن يكون مستحيا من الله -جل وعلا- وأن يكون مبتعدا عن المحرمات، وما يشينه عند ربه -جل وعلا-، ممتثلا للأوامر مقبلا عليها؛ لأن الله -جل وعلا- يحب ذلك ويرضاه، فالحياء المكتسب ما يكون في القلب من الخُلق الذي يجعله آنفا أن يغشى الحرام، أو أن يترك الواجب، وهذا يكون بملازمة الإيمان، وبالعلم والعمل الصالح حتى يكون ذلك ملكة.
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿إذا لم تستح فاصنع ما شئت﴾ فسر بتفسيرين، يعني: العلماء اختلفوا فيه على قولين: ومجمل هذين القولين: أن هذا إما أمر، وإما ليس بأمر، ومن قال: إنه أمر قال: معنى الحديث إذا كان الأمر الذي تريد إتيانه مما لا يُستَحَيا منه فاصنع ما شئت من تلك الأمور التي لا يستحيا منها عند المؤمنين.
يعني: إذا كان الأمر ليس حراما، وليس مما يخرم مكارم الأخلاق والمروءات، ولم يكن فيه تفريط بواجب، ولم يكن مما يستحي منه في الشرع فاصنعه ولا تبال؛ لأن هذا دليل أنه لا بأس به، وهذا قول جماعة من أهل العلم، منهم إسحاق وأحمد، وجماعة كثيرون.
والقول الثاني: أنه ليس بأمر، وأهل العلم في هذا -أيضا- لهم توجيهان:-
الأول: قالوا: إنه خرج عن معنى الأمر الذي هو الإلزام بالفعل إلى التهديد فمعنى ﴿إذا لم تستح فاصنع ما شئت﴾ يعني: إذا لم يكن لك حياء يمنعك من مقارفة الحرام والمنكر، والتفريط في الواجبات فاصنع ما شئت، فإن من لا حياء له لا خير فيه، وهذا يكون خرج للتهديد؛ لأن صيغة "افعل" عند الأصوليين، وعند أهل اللغة تأتي ويراد بها التهديد، كما في قوله -جل وعلا-: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ في سورة فصلت ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ وهذا مخاطب به المشركون، يعني: اعملوا ما شئتم من الأعمال، وليس هذا تخييرا لهم، ولكنه تهديد، ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ هذا توبيخ ليس فيه الأمر الذي هو يوجب الامتثال، ولكن هذا من باب التهكم والتوبيخ والتخويف وهكذا.
فإذن صيغة "افعل" تخرج عن مرادها من أنه إلزام بالفعل إلى صيغ أخرى بلاغية منها: التهديد والتوبيخ، وأشباه ذلك، فهنا في قوله: ﴿فاصنع ما شئت﴾ هذا على جهة التهديد، إذا لم يكن لك مانع من الحياء يمنعك عن مقارفة المنكر فإنه افعل ما شئت، وستلقى الحساب وستلقى سوء هذا الفعل الذي لم يمنعك عنه الحياء.
والوجه الثاني لهذا القول: أن طائفة من أهل العلم قالوا: هذا خرج مخرج الخبر، يعني: أن ما لا يستحيا منه فإن الناس يصنعونه، وهذا خبر عن الناس، وعما يفعلونه، وهو أن الأمور التي لا يستحيون منها يصنعونها، إذا لم تستح من ذلك الفعل فلك صنعه، أو فالناس يفعلونه، فهو أمر في ظاهره خبر في باطنه.
وهذان القولان ظاهران، في الأول، وفي الثاني، يعني: أنه أمر أو أنه ليس بأمر خرج على التهديد، أو على الخبر، كل هذا قريب، والحديث يحتمل القول الأول، ويحتمل القول الثاني.