الشيخ صالح آل الشيخ
حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- وهو الحديث الثاني والعشرون من هذه الأحاديث النووية، قال -رضي الله عنه-: ﴿أن رجلا سئل رسول الله -ﷺ- فقال: أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئا، أأدخل الجنة؟ قال: نعم﴾.
في هذا الحديث ذكر بعض العبادات وهي: عبادة الصلاة والصيام، وإحلال الحلال وتحريم الحرام. وقد جاء في روايات أخر قد تكون هي أصل هذا الحديث: ﴿أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي -ﷺ- فسأله عن أمور الإسلام، فقال الرجل للنبي -عليه الصلاة والسلام-: أتانا رسولك يزعم أنك تزعم أن الله أرسلك، آلله أرسلك؟ قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: نعم. فقال: أتانا رسولك يزعم أنك تزعم أن الله افترض علينا خمس صلوات…﴾ إلى آخره.
في آخره: ﴿قال الرجل للنبي -عليه الصلاة والسلام-: والذي بعثك بالحق لا أزيد على هذا شيئا. فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: دخل الجنة إن صدق﴾ وفي رواية: ﴿من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا﴾ وهناك روايات أخر في مجيء أعرابي للنبي -ﷺ- في ذكر الفرائض: الصلاة والصيام والزكاة والحج.
وهذه الأحاديث تدل على أن من فعل هذه الواجبات ممتثلا متقربا بها إلى الله -جل وعلا- فصلى الصلوات المكتوبة مطيعا لله -جل وعلا-، وصام وزكى مطيعا لله، وحج مطيعا لله، وأحل الحلال مطيعا لله، وحرم الحرام مطيعا لله، أنه من أهل الجنة.
والأحاديث متعددة في ذلك: بعضها يرتب ثواب الجنة على كلمة التوحيد، وبعضها يرتب ثواب الجنة على الصلاة، وبعضها يرتب ثواب الجنة على الصيام، في ألفاظ مختلفة وروايات متعددة.
الحاصل: أن هذه الروايات التي فيها ترتيب دخول الجنة على بعض الأعمال الصالحة -المقصود بها أنها إذا فعلت مع اجتماع الشروط، وانتفاء الموانع، أو إذا فعلت هذه الأفعال مع الإتيان بالتوحيد. فهذان احتمالان -كما ذكرت لك- الأول: أنها مع اجتماع الشروط وانتفاء الموانع، والثاني: أنه مع الإتيان بالتوحيد؛ لأنه به تصح الصلاة، وتقبل الزكاة، ويصح الصيام… إلى آخره.
وهذا معناه: أن قوله -عليه الصلاة والسلام-: "نعم" أو ﴿دخل الجنة إن صدق﴾ أن دخول الجنة متنوع، وهذا الظاهر دلت عليه الأدلة الأخرى، فما جاءت النصوص في ترتب دخول الجنة على بعض الأعمال فهو حق على ظاهره، وأن من أتى بالتوحيد وعمل بالأعمال الصالحة -بأي عمل- فإنه موعود بالجنة، والله -جل وعلا- وعده: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾.
ودخول الجنة في النصوص: تارة يراد به الدخول الأوَّلي، وتارة يراد به الدخول المآلي، وهذا في الإثبات، يعني: إذا قيل دخل الجنة فقد يراد بالنص أنه يدخلها أولا -يعني: مع من يدخلها أولا- ولا يكون عليه عذاب قبل ذلك فيغفر له إن كان من أهل الوعيد، أو يكفر الله -جل وعلا- عنه خطاياه… إلى آخر ذلك.
أو يكون المقصود بـ "دخل الجنة" أن الدخول مآلي، بمعنى: أنه سيئول إلى دخول الجنة كقوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة﴾ ﴿من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة﴾ ﴿من صلى الصلوات المكتوبات كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة﴾ ﴿يدعى الصائمون يوم القيامة من باب الريان﴾.
وهكذا في أحاديث -كما ذكرت لك- متنوعة؛ فإذن الأحاديث التي فيها دخول الجنة بالإثبات: تارة يراد منها الدخول الأولي، وتارة يراد منها الدخول المآلي، ويترتب على هذا النفي، فإذا نفي دخول الجنة عن عمل من الأعمال يراد به نفي الدخول الأولي، أو نفي الدخول المآلي، والذي ينفى عنه الدخول الأولي هم أهل التوحيد الذين لهم ذنوب يطهرون منها إن لم يغفر الله -جل وعلا- لهم.
وأما الذين ينفى عنهم الدخول المآلي -يعني: لا يدخلونها أولا ولا مآلا، لا يؤولون إلى الجنة أصلا- فهؤلاء هم أهل الكفر في الأول: مثلا قوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿لا يدخل الجنة قتات﴾ ﴿لا يدخل الجنة قاطع رحم﴾ ﴿لا يدخل الجنة نمام﴾ وأشباه ذلك.
فهذه فيها أنه لا يدخل الجنة، هل معناه أنه لا يدخلها أبدا؟ لا، لا يدخلها أولا، وفي بعض النصوص نفي دخول الجنة الدخول المآلي، يعني: أنهم لا يئولون إلى الجنة أصلا بل مأواهم النار خالدين فيها، كقوله -جل وعلا-: ﴿وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾ وكما في قوله -جل وعلا-: ﴿فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْوَاهُ النَّارُ وَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾.
إذن فتحصل لنا كقاعدة عامة من قواعد أهل السنة في فهم آيات وأحاديث الوعيد: أن الآية أو الحديث إذا كان فيه إثبات دخول الجنة على فعل من الأفعال فإن هذا الإثبات ينقسم إلى: دخول أولي، بمعنى: أنه يغفر له فلا يؤاخذ، أو أنه ليس من أهل الحساب، أو أن الله -جل وعلا- خفف عنه فيدخلها أولا، أو أنه ليس من أهل الدخول المآلي، أو أنه من أهل الدخول المآلي.
وهكذا عكسها أنه لا يدخلها أولا، أو لا يدخلها أولا ومآلا على حد سواء، وهذا من القواعد المهمة عند أهل السنة التي خالفوا بها الخوارج والمعتزلة … إلى آخره.
إذا تقررت هذه القاعدة فهذا الحديث فيه ذكر دخول الجنة على أنه لا يزيد على هذه شيئا، ولم يُذكَر في ذلك أنه فعل الزكاة، ولا أنه أتى بالحج، ومن ترك الزكاة فهو من أهل الوعيد، ومن ترك الحج فهو من أهل الوعيد… وهكذا.
فإذا تقرر هذا فقوله: ﴿ولم أزد على ذلك شيئا، أأدخل الجنة؟ قال: نعم﴾ محمول على أحد توجيهين:
الأول: أنه في قوله: ﴿لم أزد على ذلك شيئا﴾ يعني: أنه فعل الواجبات التي أوجب الله -جل وعلا- فتدخل الواجبات في قوله: "حرمت الحرام"؛ لأن ترك الواجبات حرام، فهو إذا حرم ترك المحرمات، معناه: أنه فعلها.
والتوجيه الثاني: أن هذا الحديث يفهم مع غيره من الأحاديث كقاعدة أهل السنة في نصوص الوعد والوعيد، وأننا لا نفهم نصا من نصوص الوعد أو من نصوص الوعيد على حدته، بل نضمه إلى أشباهه فيتضح المقام، فيكون إذن دخوله الجنة مع وجود الشروط وانتفاء الموانع.
أو يقال: دخول الجنة هنا مع الاقتصار على ما ذكر دخولا مآليا، وإذا أتم فإنه يدخل دخولا أوليا، ولا بد أنه إذا كان على ذلك النحو فإنه من أهل الجنة؛ لأن الله -جل وعلا- هو الذي وعده بذلك وبلغه رسوله -عليه الصلاة والسلام- قوله: ﴿إذا صليت المكتوبات﴾ تدل على تعلق ذلك بالصلوات الخمس، وهذا يخرج النوافل.
كذلك قوله: ﴿صمت رمضان﴾ تعلقه بالشهر الواجب، وهذا يخرج النوافل، وقوله: ﴿وأحللت الحلال﴾ هذا اختلف فيها العلماء على قولين: القول الأول: هو الذي ذكره النووي في آخر ذكره للحديث حيث قال: "ومعنى أحللت الحلال: فعلته معتقدا حله" فهذا وجه عند أهل العلم؛ لأن معنى أحللت الحلال أنه اعتقد وفعل.
والوجه الثاني: أنه اعتقد ولم يفعل، فمعنى قوله: ﴿أحللت الحلال﴾ يعني: اعتقدت حل كل ما أحله الله -جل وعلا- وليس في نفسي اعتراض على ما أحل الله -جل وعلا-، وهذا أحد المعنيين.
والمعنى الأول الذي ذكره النووي: أن إحلال الحلال يقتضي أن تفعل، أو أن تعمل، أو أن تأتي الحلال الذي أحله الله -جل وعلا- لك، وألا تستنكف عنه -بمعنى: أن من حرم على نفسه شيئا من الحلال مطلقا فإنه لم يحل الحلال فعلا-؛ وهذا المعنى ليس بجيد عندي؛ لأن فعل كل حلال ممتنع قد لا يستطيعه كل أحد؛ لأن الحلال -ولله الحمد- كثير جدا والمباحات كثيرة، فإتيانه فعله باعتقاد حله هذا صعب، ومثل هذا الرجل السائل لا يعلق بكل شيء، وهذا أيضا مما يكون في غير الاستطاعة.
والوجه الثاني الذي ذكرناه من أن قوله: "أحللت الحلال" -يعني: اعتقدت حله- فلم يأت في نفسي ريب من أن ما أحل الله جل وعلا فهو حلال، فهذا ظاهر طيب -يعني: ظاهر من الحديث حسن- وهو أولى؛ لأنه لا يلزم عنه لوازم غير جيدة.
أما قول الرجل: ﴿حرمت الحرام ولم أزد على ذلك شيئا أأدخل الجنة ؟ فقال: نعم﴾ فتحريم الحرام يشمل المرتبتين: يشمل الاعتقاد والترك: فتحريم الحرام أن تعتقد حرمته، والثانية: أن تفعل ما اعتقدته من ترك المحرمات. فمن اعتقد حرمة الحرام وفعل فهو من أهل الوعيد -يعني: من أهل العصيان-، وأما من لم يعتقد حرمة الحرام فهو كافر؛ لأنه ما صدَّق اللهَ -جل وعلا- في خبره، أو لأنه اعتقد غير ما أمر الله -جل وعلا- باعتقاده.
فإن الاعتقاد بتحريم المحرمات فرض من الفرائض، وعقيدة لا بد منها؛ لأن معناه الالتزام بأمر الله -جل وعلا-، وأمر رسوله -ﷺ-، والنهي نهي الله ونهي رسول الله -ﷺ-.
الشيخ ابن العثيمين
يقول جابر رضي الله عنه: إن رجلاً سأل النبي ﷺ ، وهذا الرجل لا نحتاج لمعرفة عينه، لأن المقصود القضية التي وقعت، ولا نحتاج إلى التعب في البحث عنه، اللهم إلا أن يكون تعيينه مما يختلف به الحكم فلابد من التعيين.
وقوله ﴿أَرَأَيتَ﴾ بمعنى أخبرني.
﴿إِذا صَليتُ المَكتوبَات﴾ وهن خمس صلوات في اليوم والليلة كما قال عزّ وجل: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً﴾ (النساء: من الآية 103) وغير الخمس لا يجب إلا لسبب يقتضيه، وهذا يُعرَف بالتأمل.
﴿وَصمتُ رَمَضَان﴾ أي الشهر المعروف.
والصيام في اللغة الإمساك عن أي شيء، وفي الشرع هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس تعبداً لله عزّ وجل.
وقولنا: تعبداً لله خرج به ما لو أمسك عن المفطرات حمية لنفسه، أو تطبباً، فإن ذلك ليس بصيام شرعي، ولهذا لابد من تقييد التعاريف الشرعية بالتعبد.
﴿وَأَحلَلتُ الحَلالَ﴾ أي فعلت الحلال معتقداً حله، هذا معنى قوله: ﴿أَحلَلت﴾ لأن أحل الشيء لها معنيان:
المعنى الأول:الاعتقاد أنه حلال.
المعنى الثاني:العمل به.
﴿وَحَرَّمتُ الحَرَامَ﴾ أي اجتنبت الحرام معتقداً تحريمه.
ولكن النووي -رحمه الله- بعد أنها ساق الحديث لم يقيد الحرام بكونه معتقداً تحريمه، لأن اجتناب الحرام خير وإن لم يعتقد أنه حرام، لكن إذا اعتقد أنه حرام صار تركه للحرام عبادة لأنه تركه لاعتقاده أنه حرام.
مثال ذلك: رجل اجتنب شرب الخمر، لكن لا على أنه حرام إلا أن نفسه لا تطيب به، فهذا لا إثم عليه، لكنه إذا تركه معتقداً تحريمه وأنه تركه لله صار مثاباً على هذا، وسيأتي مزيد بيان لهذا إن شاء الله في آخر الفوائد.
﴿أَدخُل الجَنة﴾ يعني أأدخل الجنة، والجنة هي دار النعيم التي أعدها الله عزّ وجل للمتقين، فيها مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، والجنة فيها فاكهة ونخيل ورمان وفيها لحم وماء وفيها لبن وعسل.
الاسم مطابق لأسماء ما في الدنيا ولكن الحقيقة مخالفة لها غاية المخالفة لقول الله تعالى: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ (السجدة: 17).
وقوله تعالى في الحديث القدسي: ﴿أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِيْنَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَر﴾.
فلا تظن أن الرمان الذي في الجنة كالرمان الذي في الدنيا، بل يختلف بجميع أنواع الاختلافات، لقوله تعالى: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ (السجدة: 17) ولو كان لا يختلف لكنا نعلم بهذا .
قال: ﴿نَعَم ونعم حرف جواب لإثبات المسؤول عنه، والمعنى: نعم تدخل الجنة .
من فوائد هذا الحديث:
1- حرص الصحابة رضي الله عنهم على السؤال.
2- بيان غايات الصحابة رضي الله عنهم، وأن غاية الشيء عندهم دخول الجنة، لا كثرة الأموال، ولا كثرة البنين، ولا الترفه في الدنيا، ولهذا لما قضى أحد الصحابة للنبي حاجة قال له النبي ﷺ: اسْأل ماذا تريد؟ قال: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: ﴿أو غَيْرَ ذَلِكَ؟ قال:هو ذاك، قال: فَأَعِنِّيْ عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ﴾، أي بكثرة الصلاة.
فهذا الرجل لم يسأل نقوداً ولا مواشي ولا قصوراً ولا حرثاً، بل سأل الجنة، مما يدل على كمال غاياتهم رضي الله عنهم.
3- أن الإنسان إذا اقتصر على الصلاة المكتوبة فلا لوم عليه، ولا يحرم من دخول الجنة ، لقوله: ﴿أَرَأَيتَ إِذا صَليتُ المَكتوبَات﴾.
فإن قال قائل: قال الإمام أحمد - رحمه الله- فيمن ترك الوتر: هو رجل سوء لا ينبغي أن تقبل له شهادة؟
فالجواب: أن كونه رجل سوء لا يمنعه من دخول الجنة، فهو رجل سوء ترك الوتر وأقله ركعة مما يدل على أنه مهمل ولا يبالي إذ لم يطلب منه ركعات كثيرة، بل ركعة واحدة ومع ذلك يتركها.
4- أن الصلوات وكذلك الصوم من أسباب دخول الجنة، وقد ثبت عن النبي ﷺ أن من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه.
5- أن لا يمتنع الإنسان من الحلال، لقوله: ﴿وَأَحلَلتُ الحَلال﴾ فكون الإنسان يمتنع من الحلال لغير سبب شرعيٍّ مذموم وليس بمحمود.
6- إن الحرام: ما حرمه الله تعالى في كتابه، أو على لسان رسوله ، وتحليل الحلال وتحريم الحرام هو عام في جميع المحللات وجميع المحرمات، ولهذا قال: ﴿أَدخُل الجَنة؟ قَالَ:نَعَم﴾.
وفي هذا الحديث إشكال: أن الرجل قال: لم أزد على ذلك شيئاً. وقد قال له النبي ﷺ تدخل الجنة، مع أنه نقص من أركان الإسلام الزكاة والحج، والزكاة مفروضة قبل الصيام، يعني فلا يقال: لعل هذا الحديث قبل أن تفرض الزكاة، أما الحج فيمكن أن نقول إن هذا الحديث قبل فرض الحج، لكن لا يمكن أن نقول إنه قبل فرض الزكاة، فما الجواب عن هذا؟
الجواب أن يقال: لعل النبي ﷺ علم من حال الرجل أنه ليس ذا مال، وعلم أنه إذا كان ذا مال فسوف يؤدي الزكاة، لأنه قال: وَحَرَّمتُ الحَرَام ومنع الزكاة من الحرام.
أما الحج فما أسهل أن نقول: لعل هذا الحديث قبل فرض الحج، لأن الحج إنما فرض في السنة التاسعة أو العاشرة.
وأما قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ (البقرة: من الآية 196) فهذا فرض إتمامه لا ابتدائه. وقد يقال: ذلك داخل في قوله: ﴿حَرَّمتَ الحَرَامَ﴾ لأن ترك الحج حرام وترك الزكاة حرام.
7- أن الجواب بـ: نعم إعادة للسؤال، لأن قوله: ﴿أَأَدْخُلُ الجَنَّةَ؟ قَالَ: نَعَمْ﴾ يعني تدخل الجنة، ولهذا لوسئل الرجل فقيل له: أطلّقتَ امرأتك؟ قال: نعم، فإنها تطلق لأن قوله:نعم، أي طلقتها.
ولو أوجب الولي عقد النكاح وقال للرجل: زوجتك ابنتي، فقلنا له: أَقَبلْتَ؟ قال: نعم، فإنه يكفي في القبول، لأن: نعم كإعادة السؤال.
وهكذا في كل موارد: نعم اعتبرها إعادة للسؤال.
ولو سئل: أوقفت بيتك؟ فقال: نعم، فيكون البيت وقفاً.
أبعتَ سيارتك على فلان؟ فقال: نعم، فيكون قد أقرّ بالبيع.
قال النووي - رحمه الله- ومعنى ﴿حَرَّمْتَ الحَرَامَ﴾ اجتنبته، ومعنى ﴿أَحْلَلْتَ الحَلالَ﴾ فعلته معتقداً حِلَّهُ). إهـ
وهناك معنى آخر غير الذي ذكره النووي - رحمه الله وهو: أن تعتقد أن الحرام حرام ولابد، لأنك إذا لم تعتقد أن الحرام حرام فإنك لم تؤمن بالحكم الشرعي، وإذا لم تعتقد أن الحلال حلال فإنك لم تؤمن بالحكم الشرعي، فلابد من أن تعتقد الحلال حلالاً، والحرام حراماً.
وتفسير النووي - رحمه الله- فيه شيء من القصور. والله أعلم
الشيخ صالح آل الشيخ
حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- وهو الحديث الثاني والعشرون من هذه الأحاديث النووية، قال -رضي الله عنه-: ﴿أن رجلا سئل رسول الله -ﷺ- فقال: أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئا، أأدخل الجنة؟ قال: نعم﴾.
في هذا الحديث ذكر بعض العبادات وهي: عبادة الصلاة والصيام، وإحلال الحلال وتحريم الحرام. وقد جاء في روايات أخر قد تكون هي أصل هذا الحديث: ﴿أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي -ﷺ- فسأله عن أمور الإسلام، فقال الرجل للنبي -عليه الصلاة والسلام-: أتانا رسولك يزعم أنك تزعم أن الله أرسلك، آلله أرسلك؟ قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: نعم. فقال: أتانا رسولك يزعم أنك تزعم أن الله افترض علينا خمس صلوات…﴾ إلى آخره.
في آخره: ﴿قال الرجل للنبي -عليه الصلاة والسلام-: والذي بعثك بالحق لا أزيد على هذا شيئا. فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: دخل الجنة إن صدق﴾ وفي رواية: ﴿من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا﴾ وهناك روايات أخر في مجيء أعرابي للنبي -ﷺ- في ذكر الفرائض: الصلاة والصيام والزكاة والحج.
وهذه الأحاديث تدل على أن من فعل هذه الواجبات ممتثلا متقربا بها إلى الله -جل وعلا- فصلى الصلوات المكتوبة مطيعا لله -جل وعلا-، وصام وزكى مطيعا لله، وحج مطيعا لله، وأحل الحلال مطيعا لله، وحرم الحرام مطيعا لله، أنه من أهل الجنة.
والأحاديث متعددة في ذلك: بعضها يرتب ثواب الجنة على كلمة التوحيد، وبعضها يرتب ثواب الجنة على الصلاة، وبعضها يرتب ثواب الجنة على الصيام، في ألفاظ مختلفة وروايات متعددة.
الحاصل: أن هذه الروايات التي فيها ترتيب دخول الجنة على بعض الأعمال الصالحة -المقصود بها أنها إذا فعلت مع اجتماع الشروط، وانتفاء الموانع، أو إذا فعلت هذه الأفعال مع الإتيان بالتوحيد. فهذان احتمالان -كما ذكرت لك- الأول: أنها مع اجتماع الشروط وانتفاء الموانع، والثاني: أنه مع الإتيان بالتوحيد؛ لأنه به تصح الصلاة، وتقبل الزكاة، ويصح الصيام… إلى آخره.
وهذا معناه: أن قوله -عليه الصلاة والسلام-: "نعم" أو ﴿دخل الجنة إن صدق﴾ أن دخول الجنة متنوع، وهذا الظاهر دلت عليه الأدلة الأخرى، فما جاءت النصوص في ترتب دخول الجنة على بعض الأعمال فهو حق على ظاهره، وأن من أتى بالتوحيد وعمل بالأعمال الصالحة -بأي عمل- فإنه موعود بالجنة، والله -جل وعلا- وعده: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾.
ودخول الجنة في النصوص: تارة يراد به الدخول الأوَّلي، وتارة يراد به الدخول المآلي، وهذا في الإثبات، يعني: إذا قيل دخل الجنة فقد يراد بالنص أنه يدخلها أولا -يعني: مع من يدخلها أولا- ولا يكون عليه عذاب قبل ذلك فيغفر له إن كان من أهل الوعيد، أو يكفر الله -جل وعلا- عنه خطاياه… إلى آخر ذلك.
أو يكون المقصود بـ "دخل الجنة" أن الدخول مآلي، بمعنى: أنه سيئول إلى دخول الجنة كقوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة﴾ ﴿من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة﴾ ﴿من صلى الصلوات المكتوبات كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة﴾ ﴿يدعى الصائمون يوم القيامة من باب الريان﴾.
وهكذا في أحاديث -كما ذكرت لك- متنوعة؛ فإذن الأحاديث التي فيها دخول الجنة بالإثبات: تارة يراد منها الدخول الأولي، وتارة يراد منها الدخول المآلي، ويترتب على هذا النفي، فإذا نفي دخول الجنة عن عمل من الأعمال يراد به نفي الدخول الأولي، أو نفي الدخول المآلي، والذي ينفى عنه الدخول الأولي هم أهل التوحيد الذين لهم ذنوب يطهرون منها إن لم يغفر الله -جل وعلا- لهم.
وأما الذين ينفى عنهم الدخول المآلي -يعني: لا يدخلونها أولا ولا مآلا، لا يؤولون إلى الجنة أصلا- فهؤلاء هم أهل الكفر في الأول: مثلا قوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿لا يدخل الجنة قتات﴾ ﴿لا يدخل الجنة قاطع رحم﴾ ﴿لا يدخل الجنة نمام﴾ وأشباه ذلك.
فهذه فيها أنه لا يدخل الجنة، هل معناه أنه لا يدخلها أبدا؟ لا، لا يدخلها أولا، وفي بعض النصوص نفي دخول الجنة الدخول المآلي، يعني: أنهم لا يئولون إلى الجنة أصلا بل مأواهم النار خالدين فيها، كقوله -جل وعلا-: ﴿وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾ وكما في قوله -جل وعلا-: ﴿فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْوَاهُ النَّارُ وَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾.
إذن فتحصل لنا كقاعدة عامة من قواعد أهل السنة في فهم آيات وأحاديث الوعيد: أن الآية أو الحديث إذا كان فيه إثبات دخول الجنة على فعل من الأفعال فإن هذا الإثبات ينقسم إلى: دخول أولي، بمعنى: أنه يغفر له فلا يؤاخذ، أو أنه ليس من أهل الحساب، أو أن الله -جل وعلا- خفف عنه فيدخلها أولا، أو أنه ليس من أهل الدخول المآلي، أو أنه من أهل الدخول المآلي.
وهكذا عكسها أنه لا يدخلها أولا، أو لا يدخلها أولا ومآلا على حد سواء، وهذا من القواعد المهمة عند أهل السنة التي خالفوا بها الخوارج والمعتزلة … إلى آخره.
إذا تقررت هذه القاعدة فهذا الحديث فيه ذكر دخول الجنة على أنه لا يزيد على هذه شيئا، ولم يُذكَر في ذلك أنه فعل الزكاة، ولا أنه أتى بالحج، ومن ترك الزكاة فهو من أهل الوعيد، ومن ترك الحج فهو من أهل الوعيد… وهكذا.
فإذا تقرر هذا فقوله: ﴿ولم أزد على ذلك شيئا، أأدخل الجنة؟ قال: نعم﴾ محمول على أحد توجيهين:
الأول: أنه في قوله: ﴿لم أزد على ذلك شيئا﴾ يعني: أنه فعل الواجبات التي أوجب الله -جل وعلا- فتدخل الواجبات في قوله: "حرمت الحرام"؛ لأن ترك الواجبات حرام، فهو إذا حرم ترك المحرمات، معناه: أنه فعلها.
والتوجيه الثاني: أن هذا الحديث يفهم مع غيره من الأحاديث كقاعدة أهل السنة في نصوص الوعد والوعيد، وأننا لا نفهم نصا من نصوص الوعد أو من نصوص الوعيد على حدته، بل نضمه إلى أشباهه فيتضح المقام، فيكون إذن دخوله الجنة مع وجود الشروط وانتفاء الموانع.
أو يقال: دخول الجنة هنا مع الاقتصار على ما ذكر دخولا مآليا، وإذا أتم فإنه يدخل دخولا أوليا، ولا بد أنه إذا كان على ذلك النحو فإنه من أهل الجنة؛ لأن الله -جل وعلا- هو الذي وعده بذلك وبلغه رسوله -عليه الصلاة والسلام- قوله: ﴿إذا صليت المكتوبات﴾ تدل على تعلق ذلك بالصلوات الخمس، وهذا يخرج النوافل.
كذلك قوله: ﴿صمت رمضان﴾ تعلقه بالشهر الواجب، وهذا يخرج النوافل، وقوله: ﴿وأحللت الحلال﴾ هذا اختلف فيها العلماء على قولين: القول الأول: هو الذي ذكره النووي في آخر ذكره للحديث حيث قال: "ومعنى أحللت الحلال: فعلته معتقدا حله" فهذا وجه عند أهل العلم؛ لأن معنى أحللت الحلال أنه اعتقد وفعل.
والوجه الثاني: أنه اعتقد ولم يفعل، فمعنى قوله: ﴿أحللت الحلال﴾ يعني: اعتقدت حل كل ما أحله الله -جل وعلا- وليس في نفسي اعتراض على ما أحل الله -جل وعلا-، وهذا أحد المعنيين.
والمعنى الأول الذي ذكره النووي: أن إحلال الحلال يقتضي أن تفعل، أو أن تعمل، أو أن تأتي الحلال الذي أحله الله -جل وعلا- لك، وألا تستنكف عنه -بمعنى: أن من حرم على نفسه شيئا من الحلال مطلقا فإنه لم يحل الحلال فعلا-؛ وهذا المعنى ليس بجيد عندي؛ لأن فعل كل حلال ممتنع قد لا يستطيعه كل أحد؛ لأن الحلال -ولله الحمد- كثير جدا والمباحات كثيرة، فإتيانه فعله باعتقاد حله هذا صعب، ومثل هذا الرجل السائل لا يعلق بكل شيء، وهذا أيضا مما يكون في غير الاستطاعة.
والوجه الثاني الذي ذكرناه من أن قوله: "أحللت الحلال" -يعني: اعتقدت حله- فلم يأت في نفسي ريب من أن ما أحل الله جل وعلا فهو حلال، فهذا ظاهر طيب -يعني: ظاهر من الحديث حسن- وهو أولى؛ لأنه لا يلزم عنه لوازم غير جيدة.
أما قول الرجل: ﴿حرمت الحرام ولم أزد على ذلك شيئا أأدخل الجنة ؟ فقال: نعم﴾ فتحريم الحرام يشمل المرتبتين: يشمل الاعتقاد والترك: فتحريم الحرام أن تعتقد حرمته، والثانية: أن تفعل ما اعتقدته من ترك المحرمات. فمن اعتقد حرمة الحرام وفعل فهو من أهل الوعيد -يعني: من أهل العصيان-، وأما من لم يعتقد حرمة الحرام فهو كافر؛ لأنه ما صدَّق اللهَ -جل وعلا- في خبره، أو لأنه اعتقد غير ما أمر الله -جل وعلا- باعتقاده.
فإن الاعتقاد بتحريم المحرمات فرض من الفرائض، وعقيدة لا بد منها؛ لأن معناه الالتزام بأمر الله -جل وعلا-، وأمر رسوله -ﷺ-، والنهي نهي الله ونهي رسول الله -ﷺ-.