الشيخ صالح آل الشيخ
هذا الحديث أصل في بابه في بيان الاستمساك بتقوى الله -جل وعلا- والوصية بذلك، والاستمساك بالسمع والطاعة، وبالسنة وبطريقة الخلفاء الراشدين المهديين من بعد النبي عليه الصلاة والسلام
قال العرباض بن سارية -رضي الله عنه-: ﴿وعظنا رسول الله -ﷺ- موعظة وجلت منها القلوب، وزرفت منها العيون﴾ "وعظنا رسول الله -ﷺ- موعظة" الوعظ هو التذكير بالأمر والنهي، وبحقوق الله -جل وعلا- في الأمر والنهي -يعني: فيما أمر به ونهى عنه-، وهذا يكون معه غالبا التخويف.
فالموعظة قد تكون بترغيب، وقد تكون بترهيب، والغالب عليها أن يكون معها التخويف من عدم امتثال الأمر أو بإرتكاب النهي، قد جاء ذكر الموعظة في القرآن في عدد من المواضع، والمفسرون فسروها بإتباع الأمر، أو بالتذكير بإتباع الأمر، والتذكير بإجتناب النهي، قالوا: إن لفظ "وعظ" بمعنى: جعل غيره في عظة.
والعظة: نوع مما يحصل به الاعتبار، وذلك من آثار الاستجابة للتخويف أو التهديد أو الإنذار أو الإعلام وما شابه ذلك؛ فلهذا فسرت الموعظة فيما جاء في القرآن بأنها كما ذكرت لك امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وإلقاء ذلك بشيء من التخويف منهما، وعمم الموعظة أمور الترغيب والترهيب، فيقال: هذه موعظة إذا ذكر بالله وبالآخرة، وبأمر الله ونهيه، وبعقوبة المنتهي عن الأمر، أو المرتكب للمنهي حين يذكر بعقوبته في الآخرة أو في الدنيا صار واعظا.
المقصود من هذا أن قوله هنا: ﴿وعظنا رسول الله -ﷺ- موعظة وجلت منها القلوب، وزرفت منها العيون﴾ سبب الوجل، وجل القلوب، وسبب أن العيون زرفت أنها اشتملت على أشياء منها: التخويف والوعيد، ومنها أنه نبههم أنه سيفارقهم.
فجمع -عليه الصلاة والسلام- لهم ما بين الإشعار بمفارقته لهم-عليه الصلاة والسلام- وما بين تذكيرهم بأمر الله -جل وعلا-، وبحدوده وأوامره، والتخويف من مخالفة ذلك، فقال -رضي الله عنه-: ﴿وجلت منها القلوب، وزرفت منها العيون﴾.
والوجل -وجل القلوب- أعظم من خوفها؛ لأن الوجل خوف وزيادة، وهو الخوف الذي معه اغترار وتردد في هذا الأمر-يعني: أنه خاف منه مع كون القلب راغبا راهبا في هذا الأمر- فهناك درجات فيه: الرهبة، والخوف، والوجل، فكلها داخلة في معنى الخوف، لكن كل واحدة لها مرتبتها.
قال: ﴿فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع﴾ يعني لما اشتملت عليه من الإشارات، ولما كانت عليه من أنها جامعة فاستشفوا أنها موعظة مودع لهم، فكأنه -عليه الصلاة والسلام- جمع لهم ما يحتاجون، وأرشدهم بذلك بأنه ربما فارقهم؛ لأنه جمع أشياء كثيرة في مكان واحد.
قال: "فأوصنا" ومر معنا معنى الوصية، قال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿أوصيكم بتقوى الله عز وجل﴾ والتقوى: هي وصية الله للأولين والآخرين، وقد ذكرنا لكم أن معنى التقوى أن تجعل بينك وبين عذاب الله وسخطه وعقابه في الدنيا الآخرة وقاية، وهذه الوقاية بامتثال أوامره واجتناب مناهيه، والعمل بسنة المصطفى -ﷺ-، والتقوى في كل مقام بحسبه.
فقد فسرت التقوى بعدة تفسيرات ذكرناها لكم، ومن أحسنها قول طلق بن حبيب -رحمه الله تعالى- أن التقوى: هي أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله.
فجمع في هذا التعريف بين الترك والعلم والنية، وهذا هو حقيقة التقوى في الأوامر والنواهي، قال: ﴿أوصيكم بتقوى الله -عز وجل- والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا﴾ قال: ﴿والسمع والطاعة﴾ والسمع والطاعة حقان للإمام أو للأمير، وهما من ثمرات البيعة؛ لأن البيعة عقد وعهد على السمع والطاعة، فتحصل بالمباشرة وتحصل بالإنابة.
فالسمع والطاعة من ثمرات البيعة، فالإمام المسلم إذا بايعه طائفة من أهل العلم، ومن يُسار إليهم في الحل والعقد - فإن في بيعتهم له على السمع والطاعة، وعهدهم له أن يسمعوا ويطيعوا -في ذلك مبايعة بقية المسلمين، وعلى هذا جرت سنة المصطفى -ﷺ- وسنة الخلفاء الراشدين.
فالسمع والطاعة -كما ذكرت لك- لا فرق بينه وبين البيعة، ومن فرق بين البيعة وبين السمع والطاعة في الحقوق التي للإمام المسلم أو للأمير المسلم، فلا دليل له من سنة المصطفى -ﷺ-، ولا من عمل الصحابة والتابعين، ولا من قول أهل السنة والجماعة، وأتباع السلف الصالح من عقائدهم.
فالسمع والطاعة للأمير المسلم حق من حقوقه؛ لقول الله -جل وعلا-: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي اْلأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ لكن السمع والطاعة له لا تجب له حقا له استقلالا، وإنما هي على وجه التبع -يعني أنها تبع لطاعة الله وطاعة رسوله؛ ولهذا جاء في الأحاديث بيان أن ﴿الطاعة إنما هي في المعروف﴾.
والمعروف هو ما ليس بمعصية -يعني: ما عرف في الشرع حسنه- وهو ما ليس بمعصية؛ ولهذا جاء في أحاديث أخر بيان أن الطاعة تكون في غير المعصية، وعلى هذا اعتقاد أهل السنة والجماعة في امتثالهم لهذه الوصية العظيمة منه -عليه الصلاة والسلام-: ﴿أوصيكم بتقوى الله -عز وجل- والسمع والطاعة﴾.
السمع والطاعة -كما ذكرت لك- يعني في غير المعصية، فإذا كان في الواجبات فالسمع والطاعة لأمر الله -جل وعلا-، ولحق الله -جل وعلا- لا لحق الأمير، وإذا كان في المبيحات أو فيما يكون فيه الاجتهاد، فهنا يتوجه السمع والطاعة لحق الإمام أو لحق الأمير.
يعني أن المسائل ثلاث: ما وجب بأصل الشرع فإنه يطاع فيه الأمير لأمر الله -جل وعلا- لذلك، وليست الطاعة هنا في الواجب من حقوقه، بل هو يطاع لحق الله -جل وعلا- في طاعته فيما أوجب جل وعلا.
والحالة الثانية: أن يأمر أو ينهى عن مباح، أو فيما فيه إجتهاد، أو عن مكروه أو ما أشبه ذلك، فإنه يطاع هنا لحقه هو؛ لأن الله -جل وعلا- جعل له السمع والطاعة.
الحالة الثالثة: أن يكون أمره بمعصية أو نهيه عن واجب، فهنا لا طاعة له؛ لأن طاعة الله -جل وعلا- حق مقدم على طاعة غيره ممن جعل الله -جل وعلا- له الحق، فمثلا: الوالدان، والمرأة لزوجها، والإمام، وأشباه ذلك ممن جعل الله -جل وعلا- لهم حقا في السمع والطاعة، فإنهم يطاعون في غير المعصية، يعني: فيما جاء في الشريعة أنه غير محرم.
قال: ﴿وإن تأمر عليكم عبد﴾ "وإن تأمر عليكم عبد" في قوله: "تأمر" معنى تغلب، ﴿وإن تأمر عليكم عبد﴾ يعني: غلب عبد على الإمارة، فدعا لمبياعته أو دعا لأن يسمع له ويطاع، فهنا يجب أن يسمع له ويطاع؛ فلهذا قال العلماء: الولايات الشرعية العامة تكون بإحدى طريقين:
الطريق الأول: طريق الاختيار: أن يختار الإمام العام، أو أن يختار الأمير، والاختيار، ولاية الاختيار لها شروطها إذا كانت لأهل الحل والعقد، فإنهم يختارون من اجتمعت فيه الشروط الشرعية التي جاءت في الأحاديث، ومنها: أن يكون الإمام قرشيا، ومنها أن يكون عالما، ومنها أن يكون يحسن سياسة الأمور، وأشباه ذلك مما اشترطه أهل العلم في ولاية الاختيار.
والقسم الثاني: ولاية التغلب: وهو أن يغلب الإمام، أن يغلب أحد أميرٌ أو غيره ممن لا تتوفر فيه الشروط، أو بعض الشروط، أو تكون تتوفر فيه لكنه غلب إماما آخر قبله فإنه هنا إذا غلبه فيبايع، ويسمع له، ويطاع؛ لأن البيعة هنا أصبحت بيعة تغلب، والولاية ولاية غلبة وسيف.
فهذا كما أوصى هنا -عليه الصلاة والسلام- أن يسمع ويطاع لمن لم تتوفر فيه الشروط التي تكون في ولاية الاختيار؛ حيث قال هنا -عليه الصلاة والسلام-: ﴿وإن تأمر﴾ ونفهم من التأمر أنه لم يكن ثم اختيار، فهذه ولاية التغلب، وقال: ﴿إن تأمر عليكم عبد﴾ ومعلوم أن العبد لا يختار بيدي أمور المسلمين.
فدل هذا على أن ولاية الغلبة يجب لمن غلب فتولى، يجب له السمع والطاعة، كما تجب للإمام الذي يختار اختيارا، لا فرق بينهما في حقوق البيعة والسمع والطاعة؛ وذلك لأجل المصلحة العامة من المسلمين.
وإذا نظرت فإن الاختيار وقع في تاريخ هذه الأمة على الخلفاء الراشدين الأربعة، وعلى معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-، ومن بعد معاوية من عهد يزيد إلى زماننا هذا، فالولايات ولايات تغلب؛ لأنها تكونت الدويلات، وهذا يعارض هذا إلى آخره، فكلها لم تنشأ كتواتر أو كتتابع لأصل الخلافة الراشدة، وإنما صارت ولاية تغلب.
وهذا هو الذي جاء في الحديث الصحيح أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: ﴿تكون خلافة النبوة ثلاثين عاما﴾ أو قال: ﴿ثلاثون عاما خلافة النبوة﴾ ثم يكون ملكا عاضا وهكذا، يعني: أن الخلافة التي على منهاج النبوة تكون في هذه الأمة فقط لمدة ثلاثين عاما بعده -عليه الصلاة والسلام-، وهي التي انتهت بمقتل علي رضي الله عنه.
وولاية معاوية -كما هو معلوم- ولاية اختيار؛ لأن الحسن بن علي تنازل له عن الخلافة، فاجتمع عليه الناس، وسمي ذلك العام عام الجماعة؛ لاجتماعهم على معاوية -رضي الله عنه-، وما بعده أصبحت ولاية تغلب.
وأهل السنة والجماعة أجمعوا لما صنفوا عقائدهم من القرن الثاني إلى زماننا هذا -على أن البيعة منعقدة لمن تغلب، ودعا الناس إلى إمامته، مع أن الذي يشترط للإمام غير متوفر فيه أو هو متوفر فيه، فالأمر سيان من جهة حقوقه، حقوق الطاعة والسمع والبيعة، وما يترتب على ذلك من الجهاد معه والتجميع عليه، وعدم التنفير عنه، وسائر الحقوق التي جاءت في الأئمة والأمراء.
قال هنا -عليه الصلاة والسلام-: ﴿وإن تأمر عليكم عبد﴾ فإن الفاء هذه تعليلية ﴿فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا﴾ يعني: سيرى اختلافا على الأمراء، فوصيته -عليه الصلاة والسلام- له أنه من عاش فرأى الاختلاف، فعليه بالسمع والطاعة وإن تأمر عليه عبد.
وجاء في أحاديث أخر بيان بعض هذا الاختلاف، وما يحصل من الفرقة وأشباه ذلك يجمعها أن الاختلاف اختلاف على الدين، أو اختلاف على الأمير، فمن رأى الاختلاف الكثير فإن عليه أن يلزم التقوى، وعليه أن يلزم السمع والطاعة، فهذه وصيته -عليه الصلاة والسلام- إذ قال: ﴿فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا﴾.
والاختلاف الكثير يعني: عما كانت عليه سنته -عليه الصلاة والسلام- فأوصى فقال: ﴿فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين﴾ عليكم بسنتي يعني: الزموا سنتي، ابحثوا عنها والزموها، فما أوصيت فيه في سنتي فالزموه، وهذا هو الواجب على العباد حين الاختلاف.
إذا اختلفوا في العقائد فعليهم أن يبحثوا في سنة المصطفى -ﷺ-، إذا اختلفوا في الشرائع وفي الأحكام فعليهم أن يبحثوا في سنة المصطفى -ﷺ-، إذا كثر الاختلاف بينهم في أمور الفتن والآراء إلى آخره فعليهم أن يرجعوا إلى سنة المصطفى -ﷺ-، وسنة الخلفاء الراشدين؛ فإن فيها النجاة. ولم نر مسألة من المسائل التي من أجلها اختلف الناس في تاريخ الإسلام كله، من أوله إلى يومنا هذا إلا وفي السنة بيانها، لكن يؤتى الناس من جهة أنهم لا يرغبون في السنة، لا يرغبون في امتثال وصية المصطفى -ﷺ- وأمره ونهيه وبيانه -عليه الصلاة والسلام-؛ لهذا أوصى -عليه الصلاة والسلام- هذه الوصية العظيمة، فقال: ﴿فعليكم بسنتي﴾.
والسنة المقصود هنا بها الهدي والطريقة التي كان عليها -عليه الصلاة والسلام-، والسنة بيان للقرآن، فما كان من كلامه -عليه الصلاة والسلام-، وما كان من أفعاله -فإن في ذلك السنة، وهي الطريقة والهدي الذي كان عليه -عليه الصلاة والسلام-.
وهذا فيه بيان واضح لمعنى القرآن، حيث قال -جل وعلا-: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ في سورة النحل، فقوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ﴾الذكر هنا هو سنة المصطفى ﷺ، قال: ﴿وسنة الخلفاء الراشدين المهديين﴾ الخلفاء: هم الذين خلفوا المصطفى -ﷺ- في ولاية الأمر على طريقته عليه الصلاة والسلام.
والخلفاء الراشدون من بعده -عليه الصلاة والسلام- أربعة: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي -رضي الله عنهم- أجمعين، ووُصِفوا بأنهم راشدون؛ لأنهم قاموا بالرشد، والرشد: هو العلم بالحق والعمل به. فسموا راشدين؛ لأنهم كانوا علماء في الحق عملوا به، وليست هذه الصفة إلا لهؤلاء الأربعة.
وفي عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- خلاف، هل يعد من الخلفاء الراشدين أم لا يعد من الخلفاء الراشدين؟ والذي عليه نص كثير من أهل العلم كأحمد وغيره أنه من الخلفاء الراشدين؛ لأنه علم الحق فعمل به، وعامة الولاة ليسوا على ذلك بل منهم من لا يعلم الحق أصلا، ومنهم من يعلم الحق فيخالفه لأهواء وشهوات، ونوازع مختلفة.
فالذين وصفوا بأنهم خلفاء راشدون هؤلاء هم الأربعة أصحاب محمد بن عبد الله - عليه الصلاة والسلام-، وعمر بن عبد العزيز كذلك خليفة راشد، وهنا تنبيه على مقالة ربما ترد على ألسنة بعض الكتاب، وهي غير سليمة من جهة مكانة الصحابة -رضوان الله عليهم-، غير متفقة بالجملة مع عقائد أهل السنة والجماعة فيما نفهم من عقائدهم، وهي قولهم عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: إنه خامس الخلفاء الراشدين.
وهذا ليس بسديد؛ لأن معاوية -رضي الله عنه- أعظم منزلة من عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى-، وإذا كان ثم خامس للخلفاء الراشدين فهو معاوية؛ لأنه أحق بهذا الوصف من عمر بن عبد العزيز، لكن عمر وصفه جماعة من أهل العلم بأنه خليفة راشد، ومعاوية بحسب الاعتبار أنه اجتُمع عليه؛ فإنه خليفة راشد.
لكن لما جعل الأمر ملكا في بنيه -ملكا في يزيد- كان أهل العلم يعبرون عنه بأنه ملك راشد، وخير ملوك المسلمين على الإطلاق، وهو خليفة؛ لأنه خلف ما بعده بالحق، وليس ثم خامس للأربعة الخلفاء، فإذا قيل: إن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- خليفة راشد هذا حق، ولكن لا يقال: هو خامس الخلفاء الراشدين؛ لأن معاوية أحق منه بهذا الوصف، لو كان هذا الوصف سائغا.
أما الخلفاء فهم أربعة؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿ثلاثون سنة خلافة نبوة﴾ فما بعد ذلك إنما هو وصف لأجل التحبيب في خلال الأمراء وأوصاف الولاة.
قال -عليه الصلاة والسلام-: "المهديين" يعني: الذين منَّ الله عليهم فهداهم للحق فعملوا به، قال: ﴿عضوا عليها بالنواجذ﴾ "بالنواخذ" وهي الأضراس، وأشد ما يكون الاستمساك إذا أراد المرء أن يستمسك بشيء بأسنانه أن يعض عليه بأضراسه؛ لأنها أشد الأسنان.
فقال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿عضوا عليها بالنواجذ﴾ يعني: كونوا مستمسكين بها على أشد ما يكون الاستمساك بسنته عند الاختلاف، وسنة الخلفاء الراشدين عند الاختلاف، والتقوى والسمع والطاعة؛ فإن في هذا النجاة، وهذا مجرب في كل ما مر في تاريخ الإسلام من تقلبات وفتن، فإن من أخذ بهذه الوصية نجا في دينه ودنياه.
قال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة﴾ "إياكم" هذا تحذير ونهي، ومن الصيغ التي يفهم منها النهي أو يعبر بها عن النهي صيغة إياك، وكذا كما قرره علماء الأصول، فقوله: ﴿وإياكم ومحدثات الأمور﴾ هذا في معنى قوله: لا تقربوا أو لا تأتوا محدثات الأمور، فهو نهي عن محدثات الأمور.
والمحدثات جمع محدثة، وهي: كل ما أحدث بعده -عليه الصلاة والسلام- على غير مثال سابق له، وهذه المحدثات التي أحدثت على قسمين: منها محدثات من قَبِيل المصالح المرسلة التي أوضحنا لكم معناها وضوابطها في أوائل هذا الشرح، فهذه لا تدخل في المحدثات المذمومة؛ لأنها محدثة لغة، ولكنها ليست بمحدثة شرعا؛ لأن لها الدليل في الشرع الذي دل على اعتبارها، وهو كونها من المصالح المرسلة، وأشباه ذلك على الضوابط التي ذكرنها في ذلك المقام.
والقسم الثاني: المحدثات التي هي في الدين بما أحدث مع قيام المقتضي لفعله في عهده -ﷺ- وتُرِك، فما تُرك في عهده من العبادات أو مما يتقرب به إلى الله -جل وعلا- مع قيام المقتضي بفعله ولم يفعل، فهو محدثة في الدين، فهو بدعة.
وهذا القسم هو الذي يتوجه إليه قوله -ﷺ-: ﴿وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة﴾ وهذا يعني أن نعكس الأمر، فيكون المنهي عنه هي الضلالات من البدع، وهي البدع في الشريعة البدع في الدين.
وأما البدع من حيث هي في اللغة فإنها قد تكون، ولا ينهى عنها في الشرع كما قال عمر حين جمع الناس، أو حين جمع الناس على إمام واحد، فقال: "نعمت البدعة هذه" فجعلها بدعة -يعني: في اللغة- فليست كل بدعة في اللغة بدعة في الشرع؛ لأنها قد تكون بدعة لغة، ولا تكون بدعة شرعا لدخولها في تعريف المصالح المرسلة، أو في العفو العام أو ما أشبه ذلك.
أما ما يتقرب إلى الله به من العبادات، وقد قام المقتضى بفعله في عهده -عليه الصلاة والسلام-، ولم يفعل -فإنه من البدع المحدثات، ومن البدع الضلالة، فقال: ﴿فإن كل بدعة ضلالة﴾ وهذه الكلية من صيغ العموم، وهذا يدل على إبطال قول من قال: إن من البدع في الدين ما ليس بضلالة.
وهو ما أحدثه العز بن عبد السلام في الأمة من تقسيم البدعة إلى خمسة أقسام: واجبة، ومستحبة، ومباحة، ومكروهة، ومحرمة. فتبعه الناس على ذلك، وانتشرت البدع على هذا التعريف أو هذا التقسيم بقوله: إن من البدع ما هو واجب، ومن البدع ما هو مستحب، وأشباه ذلك، وهذا مصادم لهذا النص، وقولهم بالرأي، والقول بالرأي مذموم إذا كان في مقابلة النص ومصادمته.
فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قال لنا: ﴿فإن كل بدعة ضلالة﴾ فهذه الكلية، فمن قال: "إن ثم من البدع ما ليس بضلالة" فهو مخالف لقوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿إن كل بدعة ضلالة﴾ فما من بدعة في الدين إلا وهي ضلالة، كما قال عليه الصلاة والسلام.
على تعريف البدعة الذي ذكرناه يخرج من ذلك المصالح المرسلة؛ لأنها لا تدخل في البدع، كما هو معروف من تعريف البدع، وتعريف المصلحة المرسلة؛ حيث ذكرنا لك ذلك مفصلا في موضعه.
الشيخ ابن العثيمين
قوله: ﴿وَعَظَنا﴾ الوعظ:التذكير بما يلين القلب سواء كانت الموعظة ترغيباً أو ترهيباً، وكان النبي ﷺ يتخول أصحابه بالموعظة أحياناً.
وقوله:وَجلَت مِنهَا القُلُوبُ أي خافت منها القلوب كما قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ (لأنفال: من الآية 2).
﴿وَذَرَفَت مِنهَا العُيون﴾ أي ذرفت الدموع، وهو كناية عن البكاء.
﴿فَقُلنَا يَا رَسُول الله:كَأنَّها أي هذه الموعظة مَوعِظَةَ مُوَدِِّعٍ﴾ وذلك لتأثيرها في إلقائها، وفي موضوعها، وفي هيئة الواعظ لأن كل هذا مؤثر، حتى إننا في عصرنا الآن تسمع الخطيب فيلين قلبك ويخاف وتبكي، فإذا سمعته مسجلاً لم تتأثر، فتأثير المواعظ له أسباب منها: الموضوع، وحال الواعظ، وانفعاله.
﴿قَالَ أوصيكُم بِتَقوَى الله عزّ وجل﴾ هذه الوصية مأخوذة من قول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ (النساء: من الآية 131) فتقوى الله رأس كل شيء.
ومعنى التقوى: طاعة الله بامتثال أمره واجتناب نهيه على علم وبصيرة.
ولهذا قال بعضهم في تفسيرها: أن تعبد الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك ما حرم الله، على نور من الله، تخشى عقاب الله.
وقال بعضهم:
خل الذنوب صغيرها ** وكبيرها ذاك التقى
واعمل كماش فوق أر ** ض الشوك يحذر ما يرى
لاتحقرن صغيرة إن ** الجبال من الحصى
﴿وَالسَّمعُ والطَّاعَة﴾ أي لولاة الأمر بدليل قوله ﴿وَإِن تَأمَّر عَليكُم﴾ والسمع والطاعة بأن تسمع إذا تكلم، وأن تطيع إذا أمر، وسيأتي إن شاء الله في بيان الفوائد حكم هذه الجملة العظيمة، لكن انظر أن النبي ﷺ خصها بالذكر بعد ذكر التقوى مع أن السمع والطاعة من تقوى الله لأهميتها ولعظم التمرد عليها.
﴿وَإن تَأمَّر عَلَيكُم﴾ أي صار أميراً عبد أي مملوكاً.
﴿فَإِنَّهُ مَن يَعِش مِنكُم﴾ أي تطول به الحياة ﴿فَسَيَرى﴾ والسين هنا للتحقيق ﴿اختِلاَفاً كَثيراً﴾ في العقيدة، وفي العمل، وفي المنهج، وهذا الذي حصل، فالصحابة رضي الله عنهم الذين عاشوا طويلاً وجدوا من الاختلاف والفتن والشرور ما لم يكن لهم في الحسبان.
ثم أرشدهم إلى ما يلزمونه عند هذا الاختلاف، فقال: ﴿فَعَلَيكُم بِسَّنتي﴾ أي الزموا سنتي، والمراد بالسنة هنا: الطريقة التي هو عليها ، فلا تبتدعوا في دين الله عزّ وجل ما ليس منه ، ولا تخرجوا عن شريعته.
﴿وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَاشِدين﴾ الخلفاء الذين يخلفون رسول الله في أمته، وعلى رأسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه هو الخليفة الأول لهذه الأمة، نص النبي ﷺ على خلافته نصاً يقرب من اليقين، وعامله بأمور تشير إلى أنه الخليفة بعده.
مثال ذلك: أتته امرأة في حاجة لها فوعدها وعداً، فقالت: يا رسول الله إن لم أجدك؟ قال: ﴿ائتِي أَبَا بَكر﴾ وقال : ﴿يَأَبَى اللهُ وَرَسُولُهُ وَالمُؤمِنونَ إِلا أَبَا بَكرٍ﴾ وأمر أن تسد جميع الأبواب المشرَّعة على المسجد إلا باب أبي بكر، وجعله خليفته في الصلاة بالمسلمين حين مرض، وهذه إمامة صغرى، يشير بذلك إلى أنه يتولى الإمامة الكبرى، وجعله أميراً على الحجيج في السنة التاسعة خلفاً عنه. فهو الخليفة بالنص الذي يقرب من اليقين.
ثم الخليفة من بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأنه أولى الناس بالخلافة بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنهما صاحبا رسول الله وكان كثيراً ما يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، وجئت أنا وأبو بكر وعمر ، فرأى أبو بكر رضي الله عنه أن أحق الناس بالخلافة عمر رضي الله عنه.
وخلافة عمر رضي الله عنه ثابتة شرعاً لأنها وقعت من خليفة، ثم صارت الخلافة لعثمان رضي الله عنه بمشورة معروفة رتبها عمر رضي الله عنه، ثم صارت بعد ذلك لعلي رضي الله عنه هؤلاء هم الخلفاء الراشدون لا إشكال فيهم.
وقوله: ﴿المهديين﴾ صفة مؤكدة لما سبق، لأنه يلزم من كونهم راشدين أن يكونوا مهديين، إذ لا يمكن رشد إلا بهداية، وعليه فالصفة هنا ليست صفة احتراز ولكنها صفة توكيد وبيان علة، يعني أنهم رشدوا لأنهم مهديون.
﴿عَضُّوا عَلَيهَا﴾ أي على سنتي وسنة الخلفاء ﴿بالنَّوَاجِذِ﴾ وهي أقصى الأضراس ومن المعلوم أن السنة ليست جسماً يؤكل، لكن هذا كناية عن شدة التمسك بها، أي أن الإنسان يتمسك بهذه السنة حتى يعض عليها بأقصى أضراسه.
﴿وَإيَّاكُم﴾ لما حث على التمسك بالسنة حذر من البدعة.
﴿وَإيَّاكُم وَمُحدَثَاتِ الأُمور﴾ أي اجتنبوها، والمراد بالأمور هنا الشؤون، والمراد بالشؤون شؤون الدين، لا المحدثات في أمور الدنيا، لأن المحدثات في أمور الدنيا منها ما هو نافع فهو خير، ومنها ما هو ضار فهو شر، لكن المحدثات في أمور الدين كلها شر، ولهذا قال : ﴿فَإِنَّ كُلَّ مُحدَثَةٍ بِدعَة﴾ لأنها ابتدعت وأنشئت من جديد.
﴿كُل بِدعَةٍ ضَلالَة﴾ أي كل بدعة في دين الله عزّ وجل فهي ضلالة.
من فوائد هذا الحديث:
1- مشروعية الموعظة، ولكن ينبغي أن تكون في محلها، وأن لا يكثر فيُمِل، لأن الناس إذا ملوا ملوا الواعظ والموعظة، وتقاصرت هممهم عن الحضور، ولهذا كان النبي ﷺ يتخول أصحابه بالموعظة، وكان بعض الصحابة يعظ أصحابه كل يوم خميس، يعني في الأسبوع مرة.
2- أنه ينبغي للواعظ أن تكون موعظته مؤثرة باختيار الألفاظ الجزلة المثيرة، وهذا على حسب الموضوع، فإن كان يريد أن يعظ الناس لمشاركة في جهاد أو نحوه فالموعظة تكون حماسية، وإن كان لعمل الآخرة فإن الموعظة تكون مرققة للقلوب.
3- أن المخاطب بالموعظة إذا كانت بليغة فسوف يتأثر لقوله: ﴿وَجِلَت مِنهَا القُلُوبُ، وَ ذَرَفَت مِنهَا العُيونُ﴾.
4- أن القلب إذا خاف بكت العين، وإذا كان قاسياً، نسأل الله عزّ وجل أن يبعدنا وإياكم من قسوة القلب، لم تدمع العين.
5- أنه جرت العادة أن موعظة المودع تكون بليغة مؤثرة، لأن المودع لن يبقى عند قومه حتى يكرر عليهم الموعظة فيأتي بموعظة مؤثرة يُذَكر بها بعد ذلك لقولهم: ﴿كَأَنَّهَا مَوعِظَةُ موَدِِّعٍ﴾.
6- طلب الإنسان من العالم أن يوصيه، لقولهم رضي الله عنهم ﴿فَأَوصِنَا﴾.
ولكن هل هذا يكون بدون سبب، أو إذا وجد سبب لذلك؟
الظاهر الثاني:بمعنى أنه ليس كلما قابلت أحداً تقول:أوصني، فإن هذا مخالف لهدي الصحابة فيما يظهر، لكن إذا وجد سبب كإنسان قام وعظ وبيَّن فلك أن تقول أوصنا وأما بدون سبب فلا، ومن ذلك السفر، أي إذا أراد الإنسان أن يسافر وقال مثلاً للعالِم أوصني، فهذا مشروع.
7- أن أهم ما يوصى به العبد تقوى الله عزّ وجل لقوله: ﴿أُوصيكُم بِتَقوَى الله﴾.
8- فضيلة التقوى حيث كانت أهم وأولى وأول ما يوصى به العبد.
9- وصية النبي ﷺ بالسمع والطاعة لولاة الأمور، والسمع والطاعة لهم واجب بالكتاب والسنة، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ (النساء: من الآية 59) فجعل طاعة أولي الأمر في المرتبة الثالثة ولكنه لم يأت بالفعل ﴿أطيعوا﴾ لأن طاعة ولاة الأمور تابعة لطاعة الله تعالى ورسوله، ولهذا لو أمر ولاة الأمور بمعصية الله عزّ وجل فلا سمع ولا طاعة.
وظاهر الحديث وجوب السمع والطاعة لولي الأمر وإن كان يعصي الله عزّ وجل إذا لم يأمرك بمعصية الله عزّ وجل، لأن النبي ﷺ قال: ﴿اسمَع وَأَطِع وَإِن ضَرَبَ ظَهرَكَ وَأَخَذَ مَالَكَ﴾ وضرب الظهر وأخذ المال بلا سبب شرعي معصية لا شك، فلا يقول الإنسان لولي الأمر: أنا لا أطيعك حتى تطيع ربك، فهذا حرام، بل يجب أن يطيعه وإن لم يطع ربه.
أما لو أمر بالمعصية فلا سمع ولا طاعة، لأن رب ولي الأمر ورب الرعية واحد عزّ وجل، فكلهم يجب أن يخضعوا له عزّ وجل، فإذا أمرنا بمعصية الله قلنا: لا سمع ولا طاعة.
10- ثبوت إمرة العبد، لقوله: ﴿وَإِن تَأَمرَ عَلَيكُم عَبدٌ﴾ ولكن هل يلزم طاعة الأمير في كل شيء، أو فيما يتعلق بالحكم؟
الجواب:الثاني، أي فيما يتعلق بالحكم ورعاية الناس، فلو قال لك الأمير مثلاً: لا تأكل اليوم إلا وجبتين. أو ما أشبه ذلك فلم يجب عليك أن توافق إلا أنه يحرم عليك أن تنابذ، بمعنى أن تعصيه جهاراً لأن هذا يفسد الناس عليه.
11- وجوب طاعة الأمير وإن لم يكن السلطان، لقوله: ﴿وَإِن تَأَمرَ عَلَيكُم﴾ ومعلوم أن الأمة الإسلامية من قديم الزمان فيها خليفة وهو السلطان، وهناك أمراء للبلدان، وإذا وجبت طاعة الأمير فطاعة السلطان من باب أولى.
وهنا سؤال يكثر: إذا أمَّر الناس عليهم أميراً في السفر، فهل تلزمهم طاعته؟
فالجواب: نعم، تلزمهم طاعته، وإذا لم نقل بذلك لم يكن هناك فائدة من تأميره، لكن طاعته فيما يتعلق بأمور السفر لا في كل شيء، إلا أن الشيء الذي لا يتعلق بأمور السفر لا تجوز منابذته فيه، مثال ذلك:
لو قال أمير السفر:اليوم كل واحد منكم يلبس ثوبين لأنه سيكون الجو بارداً. فهنا لا تلزم طاعته، لكن لا تجوز منابذته بمعنى: لا يجوز لأحد أن يقول لن ألبس ثوبين، لأن مجرد منابذة ولاة الأمور تعتبر معصية.
12- ظهور آية من آيات النبي ﷺ في قوله: ﴿فَإِنَّهُ مَن يَعِش مِنكُم فَسَيَرَى اختِلافاً كَثيرَاً﴾ فقد وقع الأمر كما أخبر به النبي ﷺ.
فإن قيل: وهل يمكن أن نطبق هذه الجملة في كل زمان، بمعنى أن نقول: من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً؟
فالجواب: لا نستطيع أن نطبقها في كل زمان، لكن الواقع أن من طال عمره رأي اختلافاً كثيراً.
كان الناس فيما سبق أمة واحدة، حزباً واحداً، ليس هناك تشتت ولا تفرق ثم اختلفوا، في بلادنا هذه كان الناس منقادين لأمرائهم، منقادين لعلمائهم حتى إن الرجل يأتي مع خصمه إلى القاضي وهو يرى أن الحق له فيحكم القاضي عليه، ثم يذهب مطمئن القلب مستريحاً، وإذا قيل له: يا فلان كيف غلبك خصمك؟ قال: الشرع يُخْلِفُ. والآن الأمر بالعكس، تجد الخصم إذا حُكِم عليه والحكم حق ذهب يماطل، ويطالب برفع المعاملة للتمييز، ومجلس القضاء الأعلى وإن كان يرى الحق عليه وليس له لكن يريد أن يضر بصاحبه، والاختلاف الآن وقع، أحص مثلاً أفكار الناس لا تكاد تحصيها، منهم من فكره إلحاد، ومنهم من فكره دون ذلك، ومنهم من فكره سيء في الأخلاق، ومنهم من دون ذلك.
13- وجوب التمسك بسنة النبي ﷺ عند الاختلاف، لقوله: ﴿فَعَلَيكُم بِسنَّتي﴾ والتمسك بها واجب في كل حال لكن يتأكد عند وجود الاختلاف.
14- أنه يجب على الإنسان أن يتعلم سنة النبي ﷺ، وجه ذلك: أنه لا يمكن لزومها إلا بعد علمها وإلا فلا يمكن.
15- أن للخلفاء سنة متبعة بقول النبي ﷺ ، وعلى هذا فما سنه الخلفاء الراشدون أُعتبر سنة للرسول ﷺ بإقراره إياهم، ووجه كونه أقره أنه أوصى باتباع سنة الخلفاء الراشدين.
وبهذا نعرف سفه هؤلاء القوم الذين يدعون أنهم متبعون للسنة وهم منكرون لها، ومن أمثلة ذلك:
قالوا:إن الأذان الأول يوم الجمعة بدعة، لأنه ليس معروفاً في عهد النبي ﷺ إنما هو من سنة عثمان رضي الله عنه، فيقال لهم: وسنة عثمان رضي الله عنه هل هي هدر أو يؤخذ بها مالم تخالف سنة الرسول ﷺ؟
الجواب: الثاني لا شك، عثمان رضي الله عنه لم يخالف الرسول ﷺ في إحداث الأذان الأول، لأن السبب الذي من أجله أحدثه عثمان رضي الله عنه ليس موجوداً في عهد النبي ﷺ، ففي عهد النبي ﷺ كانت المدينة صغيرة، متقاربة، لا تحتاج إلى أذان أول، أما في عهد عثمان رضي الله عنه اتسعت المدينة وكثر الناس وصار منهم شيء من التهاون فاحتيج إلى أذان آخر قبل الأذان الذي عند مجيء الإمام.
وهذا الذي فعله عثمان رضي الله عنه حق وسنة النبي ﷺ، ثم إن له أصلاً من سنة النبي ﷺ وهو أنه في رمضان كان يؤذن بلال وابن أم مكتوم رضي الله عنه، بلال رضي الله عنه يؤذن قبل الفجر، وبيَّن النبي ﷺ أن أذانه لا لصلاة الفجر ولكن ليوقظ النائم، ويرجع القائم للسحور، فعثمان رضي الله عنه زاد الأذان الأول من أجل أن يقبل الناس البعيدون إلى المسجد ويتأهبوا فهو إذاً سنة من وجهين:
من جهة أن النبي ﷺ أمر باتباع سنة الخلفاء ورأي عثمان رضي الله عنه خير من رأينا.
ومن جهة أخرى أن له أصلاً في سنة النبي ﷺ.
16- أنه إذا كثرت الأحزاب في الأمة فلا تنتم إلى حزب، فقد ظهرت طوائف من قديم الزمان مثل الخوارج والمعتزلة والجهمية والرافضة، ثم ظهرت أخيراً إخوانيون وسلفيون وتبليغيون وما أشبه ذلك، فكل هذه الفرق اجعلها على اليسار وعليك بالأمام وهو ما أرشد إليه النبي ﷺ في قوله: ﴿عَلَيكُم بِسُنَّتي وَسُنََّة الخُلَفَاء الرَاشِدين﴾.
ولا شك أن الواجب على جميع المسلمين أن يكون مذهبهم مذهب السلف لا الانتماء إلى حزب معين يسمى السلفيين، والواجب أن تكون الأمة الاسلامية مذهبها مذهب السلف الصالح لا التحزب إلى من يسمى (السلفيون) فهناك طريق السلف وهناك حزب يسمى (السلفيون) والمطلوب اتباع السلف، إلا أن الإخوة السلفيين هم أقرب الفرق إلى الصواب ولكن مشكلتهم كغيرهم أن بعض هذه الفرق يضلل بعضاً ويبدعه ويفسقه، ونحن لا ننكر هذا إذا كانوا مستحقين، لكننا ننكر معالجة هذه البدع بهذه الطريقة ، والواجب أن يجتمع رؤساء هذه الفرق، ويقولون: بيننا كتاب الله عزّ وجل وسنة رسوله فلنتحاكم إليهما لا إلى الأهواء والآراء، ولا إلى فلان أو فلان، فكلٌّ يخطئ ويصيب مهما بلغ من العلم والعبادة ولكن العصمة في دين الإسلام.
فهذا الحديث أرشد فيه النبي ﷺ إلى سلوك طريق مستقيم يسلم فيه الإنسان، ولا ينتمي إلى أي فرقة إلا إلى طريق السلف الصالح سنة النبي ﷺ والخلفاء الراشدين المهديين.
17- الحث على التمسك بسنة النبي ﷺ وسنة الخلفاء الراشدين تمسكاً تاماً، لقوله: ﴿عضوا عَلَيهَا بالنَّوَاجِذِ﴾.
18- التحذير من البدع، أي من محدثات الأمور، لأن (إيَّا) في قوله وَإيَّاكم معناها التحذير من محدثات الأمور لكن في الدين، أما في الدنيا إما مطلوب وإما مذموم حسب ما يؤدي إليه من النتائج.
فمثلاً: أساليب الحرب وأساليب الاتصالات، وأساليب المواصلات كلها محدثة، لم يوجد لها نوع فيما سبق، ولكن منها صالح ومنها فاسد حسب ما تؤدي إليه، فالمُحَذَّر منه المحدث في الدين عقيدة، أو قولاً، أو عملاً، فكل محدثة في الدين صغرت أو كبرت فإنها بدعة، هكذا قال النبي ﷺ ، فإن قال قائل: كيف نجمع بين هذه الكلية العامة الواضحة البينة: ﴿كُلَّ مُحدَثَةٍ بدعَةٌ﴾ وبين قوله ﴿مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجرُها وَأَجرُ مَن عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوم القِيامَةِ﴾.
فالجواب من وجهين:
الوجه الأول: أن معنى قوله : ﴿مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حَسَنَةً﴾ أي من ابتدأ العمل بالسنة، ويدل لهذا أن النبي ﷺ ذكره بعد أن حث على الصدقة للقوم الذين وفدوا إلى المدينة ورغب فيها، فجاء الصحابة كلٌّ بما تيسر له، وجاء رجل من الأنصار بصرة قد أثقلت يده فوضعها في حجر النبي ﷺ فقال: ﴿مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حَسَنَةَ فَلَهُ أَجرَها وَأَجرُ مَن عَمِلَ بِهَا إِلَى يَومِ القِيامَةِ﴾ أي ابتدأ العمل سنة ثابتة، وليس أنه يأتي هو بسنة جديدة، بل يبتدئ العمل لأنه إذا ابتدأ العمل سن الطريق للناس وتأسوا به وأخذوا بما فعل.
الوجه الثاني: أن يقال: ﴿مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حَسَنَةً﴾ أي سن الوصول إلى شيء مشروع من قبل كجمع الصحابة المصاحف على مصحف واحد، فهذا سنة حسنة لاشك، لأن المقصود من ذلك منع التفرق بين المسلمين وتضليل بعضهم بعضاً.
كذلك أيضاً جمع السنة وتبويبها وترتيبها، فهذه سنة حسنة يتوصل بها إلى حفظ السنة.
إذاً يُحمَل قوله: ﴿مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حَسَنَةَ﴾ على الوسائل إلى أمور ثابتة شرعاً، ووجه هذا أننا نعلم أن كلام النبي ﷺ لا يتناقض، ونعلم أنه لو فُتِحَ الباب لكل شخص أو لكل طائفة أن تبتدع في الدين ما ليس منه لتمزقت الأمة وتفرقت، وقد قال الله عزّ وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ (الأنعام: 159).
19- أن جميع البدع ضلالة ليس فيها هدى، بل هي شر محض حتى وإن استحسنها من ابتدعها فإنها ليست حسنى، بل ولا حسنة لقول النبي ﷺ: كُلَّ بِدعَةٍ ضَلالَة ولم يستثنِ النبي ﷺ شيئاً.
وبناءً على هذا يتبين خطأ من قسم البدع إلى خمسة أقسام أو إلى ثلاثة أقسام، وأنه ليس على صواب، لأننا نعلم علم اليقين أن أعلم الناس بشريعة الله رسول الله ، وأن أنصح الخلق لعباد الله رسول الله، وأن أفصح الخلق نطقاً محمد، وأن أصدق الخلق خبراً رسول الله، أربعة أوصاف كلها مجتمعة على الأكمل في قول النبي ﷺ ثم يأتي مَنْ بعده ويقول: البدعة ليست ضلالة، بل هي أقسام: حسنة، ومباحة، ومكروهة، ومحرمة، وواجبة.
سبحان الله العظيم، يعني لولا إحسان الظن بهؤلاء العلماء لكانت المسألة كبيرة، أن يقسموا ما حكم النبي ﷺ بأنه ضلالة إلى أقسام: حسن و قبيح.
إذاً نقول: من ابتدع بدعة وقال: إنها حسنة. فإما أن لا تكون بدعة، وإما أن لا تكون حسنة قطعاً.
مثال ذلك: قالوا من البدع الحسنة جمع المصاحف في مصحف واحد، ومن البدع الحسنة كتابة الحديث، ومن البدع الحسنة إنشاء الدور لطلاب العلم وهكذا.
فنقول هذه ليست بدعة، وهي حسنة لا شك لكن ليست بدعة، هذه وسيلة إلى أمر مقصود شرعاً، نحن لم نبتدع عبادة من عندنا لكن أمرنا بشيء ورأينا أقرب طريق إليه هذا العمل فعملناه.
وهناك فرق بين الوسائل والذرائع وبين المقاصد، لأن جميع الأمثلة التي قالوا: إنها حسنة تنطبق على هذا، أي أنها وسائل إلى أمر مشروع مقصود.
ومثال آخر قول جماعة: إن الميكرفون الذي يؤدي الصوت إلى البعيد بدعة ولا يجوز العمل به؟
فنقول: هو وسيلة حسنة، لأنه يوصل إلى المقصود، وقد اختار النبي ﷺ للأذان مَنْ هو أندى صوتاً لأنه يبلغ أكثر، وقال للعباس رضي الله عنه في غزوة حنين: نادي يا عباس لأنه كان صيتاً رضي الله عنه.
إذاً رفع الصوت مطلوب، وهذه وسيلة من وسائله، ولهذا لما رُكِّبَ الميكرفون (مكبّر الصوت) في المسجد - الجامع الكبير بعنيزة- أول ما ركب على زمن شيخنا عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - خطب في ذلك خطبة وأثنى على الذي أتى به وهو أحد المحسنين- رحمه الله - وقال: هذا من النعمة. وصدق، وهو من النعمة لأنه وسيلة إلى أمر مقصود.
كذلك أيضاً الاتصالات، الآن نتصل عن طريق الهاتف إلى أقصى العالم، فهل نقول استعمال هذا الهاتف بدعة لا تجوز؟
الجواب:لا نقول هذا، لأنه وسيلة، وقد يكون إلى خير أو إلى شر.
فعلى كل حال: يجب أن نعرف الفرق بين ما كان غاية وما كان ذريعة.
يوجد أناس أحدثوا أذكاراً يذكرون الله فيها على هيئات معينة، وقالوا: إن قلوبنا ترتاح إلى هذا الشيء، فهل نقول: هذا بدعة حسنة أو لا؟
الجواب:لا، لأنهم أحدثوا في دين الله ما ليس منه، فإن النبي ﷺ لم يتعبد الله عزّ وجل على هذا الوجه، وعلى هذا فقس.
إذاً الواجب علينا أن نقول: سمعنا وآمنا وصدقنا بان كل بدعة ضلالة، وأنه لا حسن في البدع تصديقاً لرسول الله ونقول: ما ادعى صاحبه أنه بدعة حسنة فهو إما أن لا يكون حسناً وظنه حسناً، وإما أن لا يكون بدعة، أما أن يكون بدعة وحسناً فهذا لايمكن، ويجب علينا أن نؤمن بهذا عقيدة.
ولا يمكن أن نجادل أهل الباطل في بدعهم إلا بهذا الطريق بأن نقول: كل بدعة ضلالة.
فإن قال قائل: ماذا تقولون في قول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد، وخرج ليلة من الليالي فوجد الناس يصلون بإمام واحد فقال: نعمت البدعة هذه فسماها بدعة؟
أجاب بعض العلماء بأن المراد بالبدعة هنا البدعة اللغوية لاالشرعية، ولكن هذا الجواب لا يستقيم، كيف البدعة اللغوية وهي صلاة؟
والصواب أنها بدعة نسبية بالنسبة لهجران هذا القيام بإمام واحد، وذلك لأن النبي ﷺ أول من سن القيام بإمام واحد - أعني التراويح - فقد صلى بأصحابه ثلاث ليال في رمضان ثم تخلف خشية أن تفرض، وتُرِكَت، وأصبح الناس يأتون للمسجد يصلي الرجل وحده، والرجلان جميعاً، والثلاثة أوزاعاً، فرأى عمر رضي الله عنه بثاقب سياسته أن يردهم إلى السنة الأولى وهي الاجتماع على إمام واحد فجمعهم على تميم الداري وأُبي بن كعب رضي الله عنهما وأمرهما أن يصليا بالناس إحدى عشرة ركعة، كما كان النبي ﷺ لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة.
فيكون قوله: نعمت البدعة يعني بالبدعة النسبية، أي بالنسبة إلى أنها هجرت في آخر عهد النبي ﷺ وفي عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفي أول خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإلا فنحن نؤمن بأن كل بدعة ضلالة، ثم هذه الضلالات تنقسم إلى: بدع مكفرة، وبدع مفسقة، وبدع يعذر فيها صاحبها.
ولكن الذي يعذر صاحبها فيها لا تخرج عن كونها ضلالة، ولكن يعذر الإنسان إذا صدرت منه هذه البدعة عن تأويل وحسن قصد.
وأضرب مثلاً بحافظين معتمدين موثوقين بين المسلمين وهما: النووي وابن حجر رحمهما الله تعالى.
فالنووي: لا نشك أن الرجل ناصح، وأن له قدم صدق في الإسلام، ويدل لذلك قبول مؤلفاته حتى إنك لا تجد مسجداً من مساجد المسلمين إلا ويقرأ فيه كتاب ( رياض الصالحين ) وهذا يدل على القبول، ولا شك أنه ناصح، ولكنه - رحمه الله - أخطأ في تأويل آيات الصفات حيث سلك فيها مسلك المؤولة، فهل نقول: إن الرجل مبتدع؟
نقول: قوله بدعة لكن هو غير مبتدع، لأنه في الحقيقة متأول، والمتأول إذا أخطأ مع اجتهاده فله أجر، فكيف نصفه بأنه مبتدع وننفر الناس منه، والقول غير القائل، فقد يقول الإنسان كلمة الكفر ولا يكفر.
أرأيتم الرجل الذي أضل راحلته حتى أيس منها، واضطجع تحت شجرة ينتظر الموت، فإذا بالناقة على رأسه، فأخذ بها وقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، وهذه الكلمة كلمة كفر لكن هو لم يكفر، قال النبي ﷺ: ﴿أَخطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَح﴾ أرأيتم الرجل يكره على الكفر قولاً أو فعلاً فهل يكفر؟
الجواب:لا، القول كفر والفعل كفر لكن هذا القائل أو الفاعل ليس بكافر لأنه مكره.
أرأيتم الرجل الذي كان مسرفاً على نفسه فقال لأهله: إذا مت فأحرقوني وذرُّوني في اليمِّ - أي البحر - فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين، ظن أنه بذلك ينجو من عذاب الله، وهذا شك في قدرة الله عزّ وجل، والشك في قدرة الله كفر، ولكن هذا الرجل لم يكفر.
جمعه الله عزّ وجل وسأله لماذا صنعت هذا؟ قال: مخافتك. وفي رواية أخرى: من خشيتك، فغفر الله له.
أما الحافظ الثاني:فهو ابن حجر- رحمه الله - وابن حجر حسب ما بلغ علمي متذبذب في الواقع، أحياناً يسلك مسلك السلف، وأحياناً يمشي على طريقة التأويل التي هي في نظرنا تحريف.
مثل هذين الرجلين هل يمكن أن نقدح فيهما؟
أبداً، لكننا لا نقبل خطأهما، خطؤهما شيء واجتهادهما شيء آخر.
أقول هذا لأنه نبتت نابتة قبل سنتين أو ثلاث تهاجم هذين الرجلين هجوماً عنيفاً، وتقول: يجب إحراق فتح الباري وإحراق شرح صحيح مسلم، -أعوذ بالله- كيف يجرؤ إنسان على هذا الكلام، لكنه الغرور والإعجاب بالنفس واحتقار الآخرين.
والبدعة المكفرة أو المفسقة لا نحكم على صاحبها أنه كافر أو فاسق حتى تقوم عليه الحجة، لقول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ (القصص: 59).
وقال عزّ وجل: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ (الاسراء: من الآية 15) ولو كان الإنسان يكفر ولو لم تقم عليه الحجة لكان يعذب، وقال عزّ وجل: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ (النساء: من الآية 165) والآيات في هذه كثيرة.
فعلينا أن نتئد وأن لا نتسرع، وأن لا نقول لشخص أتى ببدعة واحدة من آلاف السنن إنه رجل مبتدع.
وهل يصح أن ننسب هذين الرجلين وأمثالهما إلى الأشاعرة، ونقول: هما من الأشاعرة؟
الجواب:لا، لأن الأشاعرة لهم مذهب مستقل له كيان في الأسماء والصفات والإيمان وأحوال الآخرة.
وما أحسن ما كتبه أخونا سفر الحوالي عما علم من مذهبهم، لأن أكثر الناس لا يفهم عنهم إلا أنهم مخالفون للسلف في باب الأسماء والصفات، ولكن لهم خلافات كثيرة.
فإذا قال قائل بمسألة من مسائل الصفات بما يوافق مذهبهم فلا نقول: إنه أشعري.
أرأيتم لو أن إنساناً من الحنابلة اختار قولاً للشافعية فهل نقول إنه شافعي؟
الجواب:لا نقول إنه شافعي.
فانتبهوا لهذه المسائل الدقيقة، ولا تتسرعوا، ولا تتهاونوا باغتياب العلماء السابقين واللاحقين، لأن غيبة العالم ليست قدحاً في شخصه فقط، بل في شخصه وما يحمله من الشريعة، لأنه إذا ساء ظن الناس فيه فإنهم لن يقبلوا ما يقول من شريعة الله، وتكون المصيبة على الشريعة أكثر.
ثم إنكم ستجدون قوماً يسلكون هذا المسلك المشين فعليكم بنصحهم، وإذا وجد فيكم من لسانه منطلق في القول في العلماء فانصحوه وحذروه وقولوا له: اتق الله، أنت لم تُتَعَبَّد بهذا، وما الفائدة من أن تقول فلان فيه فلان فيه، بل قل: هذا القول فيه كذا وكذا بقطع النظر عن الأشخاص.
لكن قد يكون من الأفضل أن نذكر الشخص بما فيه لئلا يغتر الناس به، لكن لا على سبيل العموم هكذا في المجالس، لأنه ليس كل إنسان إذا ذكرت القول يفهم القائل، فذكر القائل جائز عند الضرورة، وإلا فالمهم إبطال القول الباطل، والله الموفق
الشيخ صالح آل الشيخ
هذا الحديث أصل في بابه في بيان الاستمساك بتقوى الله -جل وعلا- والوصية بذلك، والاستمساك بالسمع والطاعة، وبالسنة وبطريقة الخلفاء الراشدين المهديين من بعد النبي عليه الصلاة والسلام
قال العرباض بن سارية -رضي الله عنه-: ﴿وعظنا رسول الله -ﷺ- موعظة وجلت منها القلوب، وزرفت منها العيون﴾ "وعظنا رسول الله -ﷺ- موعظة" الوعظ هو التذكير بالأمر والنهي، وبحقوق الله -جل وعلا- في الأمر والنهي -يعني: فيما أمر به ونهى عنه-، وهذا يكون معه غالبا التخويف.
فالموعظة قد تكون بترغيب، وقد تكون بترهيب، والغالب عليها أن يكون معها التخويف من عدم امتثال الأمر أو بإرتكاب النهي، قد جاء ذكر الموعظة في القرآن في عدد من المواضع، والمفسرون فسروها بإتباع الأمر، أو بالتذكير بإتباع الأمر، والتذكير بإجتناب النهي، قالوا: إن لفظ "وعظ" بمعنى: جعل غيره في عظة.
والعظة: نوع مما يحصل به الاعتبار، وذلك من آثار الاستجابة للتخويف أو التهديد أو الإنذار أو الإعلام وما شابه ذلك؛ فلهذا فسرت الموعظة فيما جاء في القرآن بأنها كما ذكرت لك امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وإلقاء ذلك بشيء من التخويف منهما، وعمم الموعظة أمور الترغيب والترهيب، فيقال: هذه موعظة إذا ذكر بالله وبالآخرة، وبأمر الله ونهيه، وبعقوبة المنتهي عن الأمر، أو المرتكب للمنهي حين يذكر بعقوبته في الآخرة أو في الدنيا صار واعظا.
المقصود من هذا أن قوله هنا: ﴿وعظنا رسول الله -ﷺ- موعظة وجلت منها القلوب، وزرفت منها العيون﴾ سبب الوجل، وجل القلوب، وسبب أن العيون زرفت أنها اشتملت على أشياء منها: التخويف والوعيد، ومنها أنه نبههم أنه سيفارقهم.
فجمع -عليه الصلاة والسلام- لهم ما بين الإشعار بمفارقته لهم-عليه الصلاة والسلام- وما بين تذكيرهم بأمر الله -جل وعلا-، وبحدوده وأوامره، والتخويف من مخالفة ذلك، فقال -رضي الله عنه-: ﴿وجلت منها القلوب، وزرفت منها العيون﴾.
والوجل -وجل القلوب- أعظم من خوفها؛ لأن الوجل خوف وزيادة، وهو الخوف الذي معه اغترار وتردد في هذا الأمر-يعني: أنه خاف منه مع كون القلب راغبا راهبا في هذا الأمر- فهناك درجات فيه: الرهبة، والخوف، والوجل، فكلها داخلة في معنى الخوف، لكن كل واحدة لها مرتبتها.
قال: ﴿فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع﴾ يعني لما اشتملت عليه من الإشارات، ولما كانت عليه من أنها جامعة فاستشفوا أنها موعظة مودع لهم، فكأنه -عليه الصلاة والسلام- جمع لهم ما يحتاجون، وأرشدهم بذلك بأنه ربما فارقهم؛ لأنه جمع أشياء كثيرة في مكان واحد.
قال: "فأوصنا" ومر معنا معنى الوصية، قال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿أوصيكم بتقوى الله عز وجل﴾ والتقوى: هي وصية الله للأولين والآخرين، وقد ذكرنا لكم أن معنى التقوى أن تجعل بينك وبين عذاب الله وسخطه وعقابه في الدنيا الآخرة وقاية، وهذه الوقاية بامتثال أوامره واجتناب مناهيه، والعمل بسنة المصطفى -ﷺ-، والتقوى في كل مقام بحسبه.
فقد فسرت التقوى بعدة تفسيرات ذكرناها لكم، ومن أحسنها قول طلق بن حبيب -رحمه الله تعالى- أن التقوى: هي أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله.
فجمع في هذا التعريف بين الترك والعلم والنية، وهذا هو حقيقة التقوى في الأوامر والنواهي، قال: ﴿أوصيكم بتقوى الله -عز وجل- والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا﴾ قال: ﴿والسمع والطاعة﴾ والسمع والطاعة حقان للإمام أو للأمير، وهما من ثمرات البيعة؛ لأن البيعة عقد وعهد على السمع والطاعة، فتحصل بالمباشرة وتحصل بالإنابة.
فالسمع والطاعة من ثمرات البيعة، فالإمام المسلم إذا بايعه طائفة من أهل العلم، ومن يُسار إليهم في الحل والعقد - فإن في بيعتهم له على السمع والطاعة، وعهدهم له أن يسمعوا ويطيعوا -في ذلك مبايعة بقية المسلمين، وعلى هذا جرت سنة المصطفى -ﷺ- وسنة الخلفاء الراشدين.
فالسمع والطاعة -كما ذكرت لك- لا فرق بينه وبين البيعة، ومن فرق بين البيعة وبين السمع والطاعة في الحقوق التي للإمام المسلم أو للأمير المسلم، فلا دليل له من سنة المصطفى -ﷺ-، ولا من عمل الصحابة والتابعين، ولا من قول أهل السنة والجماعة، وأتباع السلف الصالح من عقائدهم.
فالسمع والطاعة للأمير المسلم حق من حقوقه؛ لقول الله -جل وعلا-: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي اْلأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ لكن السمع والطاعة له لا تجب له حقا له استقلالا، وإنما هي على وجه التبع -يعني أنها تبع لطاعة الله وطاعة رسوله؛ ولهذا جاء في الأحاديث بيان أن ﴿الطاعة إنما هي في المعروف﴾.
والمعروف هو ما ليس بمعصية -يعني: ما عرف في الشرع حسنه- وهو ما ليس بمعصية؛ ولهذا جاء في أحاديث أخر بيان أن الطاعة تكون في غير المعصية، وعلى هذا اعتقاد أهل السنة والجماعة في امتثالهم لهذه الوصية العظيمة منه -عليه الصلاة والسلام-: ﴿أوصيكم بتقوى الله -عز وجل- والسمع والطاعة﴾.
السمع والطاعة -كما ذكرت لك- يعني في غير المعصية، فإذا كان في الواجبات فالسمع والطاعة لأمر الله -جل وعلا-، ولحق الله -جل وعلا- لا لحق الأمير، وإذا كان في المبيحات أو فيما يكون فيه الاجتهاد، فهنا يتوجه السمع والطاعة لحق الإمام أو لحق الأمير.
يعني أن المسائل ثلاث: ما وجب بأصل الشرع فإنه يطاع فيه الأمير لأمر الله -جل وعلا- لذلك، وليست الطاعة هنا في الواجب من حقوقه، بل هو يطاع لحق الله -جل وعلا- في طاعته فيما أوجب جل وعلا.
والحالة الثانية: أن يأمر أو ينهى عن مباح، أو فيما فيه إجتهاد، أو عن مكروه أو ما أشبه ذلك، فإنه يطاع هنا لحقه هو؛ لأن الله -جل وعلا- جعل له السمع والطاعة.
الحالة الثالثة: أن يكون أمره بمعصية أو نهيه عن واجب، فهنا لا طاعة له؛ لأن طاعة الله -جل وعلا- حق مقدم على طاعة غيره ممن جعل الله -جل وعلا- له الحق، فمثلا: الوالدان، والمرأة لزوجها، والإمام، وأشباه ذلك ممن جعل الله -جل وعلا- لهم حقا في السمع والطاعة، فإنهم يطاعون في غير المعصية، يعني: فيما جاء في الشريعة أنه غير محرم.
قال: ﴿وإن تأمر عليكم عبد﴾ "وإن تأمر عليكم عبد" في قوله: "تأمر" معنى تغلب، ﴿وإن تأمر عليكم عبد﴾ يعني: غلب عبد على الإمارة، فدعا لمبياعته أو دعا لأن يسمع له ويطاع، فهنا يجب أن يسمع له ويطاع؛ فلهذا قال العلماء: الولايات الشرعية العامة تكون بإحدى طريقين:
الطريق الأول: طريق الاختيار: أن يختار الإمام العام، أو أن يختار الأمير، والاختيار، ولاية الاختيار لها شروطها إذا كانت لأهل الحل والعقد، فإنهم يختارون من اجتمعت فيه الشروط الشرعية التي جاءت في الأحاديث، ومنها: أن يكون الإمام قرشيا، ومنها أن يكون عالما، ومنها أن يكون يحسن سياسة الأمور، وأشباه ذلك مما اشترطه أهل العلم في ولاية الاختيار.
والقسم الثاني: ولاية التغلب: وهو أن يغلب الإمام، أن يغلب أحد أميرٌ أو غيره ممن لا تتوفر فيه الشروط، أو بعض الشروط، أو تكون تتوفر فيه لكنه غلب إماما آخر قبله فإنه هنا إذا غلبه فيبايع، ويسمع له، ويطاع؛ لأن البيعة هنا أصبحت بيعة تغلب، والولاية ولاية غلبة وسيف.
فهذا كما أوصى هنا -عليه الصلاة والسلام- أن يسمع ويطاع لمن لم تتوفر فيه الشروط التي تكون في ولاية الاختيار؛ حيث قال هنا -عليه الصلاة والسلام-: ﴿وإن تأمر﴾ ونفهم من التأمر أنه لم يكن ثم اختيار، فهذه ولاية التغلب، وقال: ﴿إن تأمر عليكم عبد﴾ ومعلوم أن العبد لا يختار بيدي أمور المسلمين.
فدل هذا على أن ولاية الغلبة يجب لمن غلب فتولى، يجب له السمع والطاعة، كما تجب للإمام الذي يختار اختيارا، لا فرق بينهما في حقوق البيعة والسمع والطاعة؛ وذلك لأجل المصلحة العامة من المسلمين.
وإذا نظرت فإن الاختيار وقع في تاريخ هذه الأمة على الخلفاء الراشدين الأربعة، وعلى معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-، ومن بعد معاوية من عهد يزيد إلى زماننا هذا، فالولايات ولايات تغلب؛ لأنها تكونت الدويلات، وهذا يعارض هذا إلى آخره، فكلها لم تنشأ كتواتر أو كتتابع لأصل الخلافة الراشدة، وإنما صارت ولاية تغلب.
وهذا هو الذي جاء في الحديث الصحيح أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: ﴿تكون خلافة النبوة ثلاثين عاما﴾ أو قال: ﴿ثلاثون عاما خلافة النبوة﴾ ثم يكون ملكا عاضا وهكذا، يعني: أن الخلافة التي على منهاج النبوة تكون في هذه الأمة فقط لمدة ثلاثين عاما بعده -عليه الصلاة والسلام-، وهي التي انتهت بمقتل علي رضي الله عنه.
وولاية معاوية -كما هو معلوم- ولاية اختيار؛ لأن الحسن بن علي تنازل له عن الخلافة، فاجتمع عليه الناس، وسمي ذلك العام عام الجماعة؛ لاجتماعهم على معاوية -رضي الله عنه-، وما بعده أصبحت ولاية تغلب.
وأهل السنة والجماعة أجمعوا لما صنفوا عقائدهم من القرن الثاني إلى زماننا هذا -على أن البيعة منعقدة لمن تغلب، ودعا الناس إلى إمامته، مع أن الذي يشترط للإمام غير متوفر فيه أو هو متوفر فيه، فالأمر سيان من جهة حقوقه، حقوق الطاعة والسمع والبيعة، وما يترتب على ذلك من الجهاد معه والتجميع عليه، وعدم التنفير عنه، وسائر الحقوق التي جاءت في الأئمة والأمراء.
قال هنا -عليه الصلاة والسلام-: ﴿وإن تأمر عليكم عبد﴾ فإن الفاء هذه تعليلية ﴿فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا﴾ يعني: سيرى اختلافا على الأمراء، فوصيته -عليه الصلاة والسلام- له أنه من عاش فرأى الاختلاف، فعليه بالسمع والطاعة وإن تأمر عليه عبد.
وجاء في أحاديث أخر بيان بعض هذا الاختلاف، وما يحصل من الفرقة وأشباه ذلك يجمعها أن الاختلاف اختلاف على الدين، أو اختلاف على الأمير، فمن رأى الاختلاف الكثير فإن عليه أن يلزم التقوى، وعليه أن يلزم السمع والطاعة، فهذه وصيته -عليه الصلاة والسلام- إذ قال: ﴿فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا﴾.
والاختلاف الكثير يعني: عما كانت عليه سنته -عليه الصلاة والسلام- فأوصى فقال: ﴿فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين﴾ عليكم بسنتي يعني: الزموا سنتي، ابحثوا عنها والزموها، فما أوصيت فيه في سنتي فالزموه، وهذا هو الواجب على العباد حين الاختلاف.
إذا اختلفوا في العقائد فعليهم أن يبحثوا في سنة المصطفى -ﷺ-، إذا اختلفوا في الشرائع وفي الأحكام فعليهم أن يبحثوا في سنة المصطفى -ﷺ-، إذا كثر الاختلاف بينهم في أمور الفتن والآراء إلى آخره فعليهم أن يرجعوا إلى سنة المصطفى -ﷺ-، وسنة الخلفاء الراشدين؛ فإن فيها النجاة. ولم نر مسألة من المسائل التي من أجلها اختلف الناس في تاريخ الإسلام كله، من أوله إلى يومنا هذا إلا وفي السنة بيانها، لكن يؤتى الناس من جهة أنهم لا يرغبون في السنة، لا يرغبون في امتثال وصية المصطفى -ﷺ- وأمره ونهيه وبيانه -عليه الصلاة والسلام-؛ لهذا أوصى -عليه الصلاة والسلام- هذه الوصية العظيمة، فقال: ﴿فعليكم بسنتي﴾.
والسنة المقصود هنا بها الهدي والطريقة التي كان عليها -عليه الصلاة والسلام-، والسنة بيان للقرآن، فما كان من كلامه -عليه الصلاة والسلام-، وما كان من أفعاله -فإن في ذلك السنة، وهي الطريقة والهدي الذي كان عليه -عليه الصلاة والسلام-.
وهذا فيه بيان واضح لمعنى القرآن، حيث قال -جل وعلا-: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ في سورة النحل، فقوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ﴾الذكر هنا هو سنة المصطفى ﷺ، قال: ﴿وسنة الخلفاء الراشدين المهديين﴾ الخلفاء: هم الذين خلفوا المصطفى -ﷺ- في ولاية الأمر على طريقته عليه الصلاة والسلام.
والخلفاء الراشدون من بعده -عليه الصلاة والسلام- أربعة: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي -رضي الله عنهم- أجمعين، ووُصِفوا بأنهم راشدون؛ لأنهم قاموا بالرشد، والرشد: هو العلم بالحق والعمل به. فسموا راشدين؛ لأنهم كانوا علماء في الحق عملوا به، وليست هذه الصفة إلا لهؤلاء الأربعة.
وفي عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- خلاف، هل يعد من الخلفاء الراشدين أم لا يعد من الخلفاء الراشدين؟ والذي عليه نص كثير من أهل العلم كأحمد وغيره أنه من الخلفاء الراشدين؛ لأنه علم الحق فعمل به، وعامة الولاة ليسوا على ذلك بل منهم من لا يعلم الحق أصلا، ومنهم من يعلم الحق فيخالفه لأهواء وشهوات، ونوازع مختلفة.
فالذين وصفوا بأنهم خلفاء راشدون هؤلاء هم الأربعة أصحاب محمد بن عبد الله - عليه الصلاة والسلام-، وعمر بن عبد العزيز كذلك خليفة راشد، وهنا تنبيه على مقالة ربما ترد على ألسنة بعض الكتاب، وهي غير سليمة من جهة مكانة الصحابة -رضوان الله عليهم-، غير متفقة بالجملة مع عقائد أهل السنة والجماعة فيما نفهم من عقائدهم، وهي قولهم عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: إنه خامس الخلفاء الراشدين.
وهذا ليس بسديد؛ لأن معاوية -رضي الله عنه- أعظم منزلة من عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى-، وإذا كان ثم خامس للخلفاء الراشدين فهو معاوية؛ لأنه أحق بهذا الوصف من عمر بن عبد العزيز، لكن عمر وصفه جماعة من أهل العلم بأنه خليفة راشد، ومعاوية بحسب الاعتبار أنه اجتُمع عليه؛ فإنه خليفة راشد.
لكن لما جعل الأمر ملكا في بنيه -ملكا في يزيد- كان أهل العلم يعبرون عنه بأنه ملك راشد، وخير ملوك المسلمين على الإطلاق، وهو خليفة؛ لأنه خلف ما بعده بالحق، وليس ثم خامس للأربعة الخلفاء، فإذا قيل: إن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- خليفة راشد هذا حق، ولكن لا يقال: هو خامس الخلفاء الراشدين؛ لأن معاوية أحق منه بهذا الوصف، لو كان هذا الوصف سائغا.
أما الخلفاء فهم أربعة؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿ثلاثون سنة خلافة نبوة﴾ فما بعد ذلك إنما هو وصف لأجل التحبيب في خلال الأمراء وأوصاف الولاة.
قال -عليه الصلاة والسلام-: "المهديين" يعني: الذين منَّ الله عليهم فهداهم للحق فعملوا به، قال: ﴿عضوا عليها بالنواجذ﴾ "بالنواخذ" وهي الأضراس، وأشد ما يكون الاستمساك إذا أراد المرء أن يستمسك بشيء بأسنانه أن يعض عليه بأضراسه؛ لأنها أشد الأسنان.
فقال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿عضوا عليها بالنواجذ﴾ يعني: كونوا مستمسكين بها على أشد ما يكون الاستمساك بسنته عند الاختلاف، وسنة الخلفاء الراشدين عند الاختلاف، والتقوى والسمع والطاعة؛ فإن في هذا النجاة، وهذا مجرب في كل ما مر في تاريخ الإسلام من تقلبات وفتن، فإن من أخذ بهذه الوصية نجا في دينه ودنياه.
قال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة﴾ "إياكم" هذا تحذير ونهي، ومن الصيغ التي يفهم منها النهي أو يعبر بها عن النهي صيغة إياك، وكذا كما قرره علماء الأصول، فقوله: ﴿وإياكم ومحدثات الأمور﴾ هذا في معنى قوله: لا تقربوا أو لا تأتوا محدثات الأمور، فهو نهي عن محدثات الأمور.
والمحدثات جمع محدثة، وهي: كل ما أحدث بعده -عليه الصلاة والسلام- على غير مثال سابق له، وهذه المحدثات التي أحدثت على قسمين: منها محدثات من قَبِيل المصالح المرسلة التي أوضحنا لكم معناها وضوابطها في أوائل هذا الشرح، فهذه لا تدخل في المحدثات المذمومة؛ لأنها محدثة لغة، ولكنها ليست بمحدثة شرعا؛ لأن لها الدليل في الشرع الذي دل على اعتبارها، وهو كونها من المصالح المرسلة، وأشباه ذلك على الضوابط التي ذكرنها في ذلك المقام.
والقسم الثاني: المحدثات التي هي في الدين بما أحدث مع قيام المقتضي لفعله في عهده -ﷺ- وتُرِك، فما تُرك في عهده من العبادات أو مما يتقرب به إلى الله -جل وعلا- مع قيام المقتضي بفعله ولم يفعل، فهو محدثة في الدين، فهو بدعة.
وهذا القسم هو الذي يتوجه إليه قوله -ﷺ-: ﴿وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة﴾ وهذا يعني أن نعكس الأمر، فيكون المنهي عنه هي الضلالات من البدع، وهي البدع في الشريعة البدع في الدين.
وأما البدع من حيث هي في اللغة فإنها قد تكون، ولا ينهى عنها في الشرع كما قال عمر حين جمع الناس، أو حين جمع الناس على إمام واحد، فقال: "نعمت البدعة هذه" فجعلها بدعة -يعني: في اللغة- فليست كل بدعة في اللغة بدعة في الشرع؛ لأنها قد تكون بدعة لغة، ولا تكون بدعة شرعا لدخولها في تعريف المصالح المرسلة، أو في العفو العام أو ما أشبه ذلك.
أما ما يتقرب إلى الله به من العبادات، وقد قام المقتضى بفعله في عهده -عليه الصلاة والسلام-، ولم يفعل -فإنه من البدع المحدثات، ومن البدع الضلالة، فقال: ﴿فإن كل بدعة ضلالة﴾ وهذه الكلية من صيغ العموم، وهذا يدل على إبطال قول من قال: إن من البدع في الدين ما ليس بضلالة.
وهو ما أحدثه العز بن عبد السلام في الأمة من تقسيم البدعة إلى خمسة أقسام: واجبة، ومستحبة، ومباحة، ومكروهة، ومحرمة. فتبعه الناس على ذلك، وانتشرت البدع على هذا التعريف أو هذا التقسيم بقوله: إن من البدع ما هو واجب، ومن البدع ما هو مستحب، وأشباه ذلك، وهذا مصادم لهذا النص، وقولهم بالرأي، والقول بالرأي مذموم إذا كان في مقابلة النص ومصادمته.
فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قال لنا: ﴿فإن كل بدعة ضلالة﴾ فهذه الكلية، فمن قال: "إن ثم من البدع ما ليس بضلالة" فهو مخالف لقوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿إن كل بدعة ضلالة﴾ فما من بدعة في الدين إلا وهي ضلالة، كما قال عليه الصلاة والسلام.
على تعريف البدعة الذي ذكرناه يخرج من ذلك المصالح المرسلة؛ لأنها لا تدخل في البدع، كما هو معروف من تعريف البدع، وتعريف المصلحة المرسلة؛ حيث ذكرنا لك ذلك مفصلا في موضعه.