الشيخ صالح آل الشيخ
هذا الحديث فيه ذكر أشياء من أبواب الخير، وهو من الأحاديث العظيمة التي في كل جملة منها شاهد، لكل جملة منه شواهد كثيرة؛ ولهذا هو حديث حسن بمجموع شواهده لجمله المختلفة.
قال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: ﴿قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار﴾ هذا فيه ما ينبغي التأدب به على ما ينبغي التأدب به لأهل العلم؛ لأن معاذ بن جبل -رضي الله عنه، ورحمه- من أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام، بل هو أعلم الأمة بالحلال والحرام.
فهو من أهل العلم، وهذا يدل على أن طالب العلم ينبغي عليه أن يكون حريصا على ما يقربه من الجنة، ويباعده عن النار، قال معاذ: ﴿يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار﴾ وهذا مما ينبغي لكل طالب علم أن يحرص عليه: ما يقربه إلى الجنة، وما يباعده من النار.
لأن العلم له شهوة، والعلم له عنفوان، وقد يصرف صاحبه عن السعي في الغاية من العلم، وهو ما يقرب من الجنة، وما يباعد عن النار، وقد قال عبد الله بن المبارك -رحمه الله تعالى-: إن للعلم طغيانا كطغيان الماء، فالعلم يطغي إذا لم يكن صاحبه يسعى فيما يقربه إلى الجنة، ويباعده عن النار.
فالعلم له مقتضيات كثيرة، وأصحاب العلم وأهل العلم وطلبة العلم ينبغي لهم أن يكونوا ألين الناس في غير تفريط، وأن يكونوا أبصر الناس، وأحق الناس بالحكمة والأخذ بما يقربهم إلى الله -جل وعلا-؛ فهم القدوة، وهم البصراء في العلم والعمل.
لهذا سئل معاذ هذا السؤال، وذلك من حكمة الله -جل وعلا- أن يسأل ليبصر أهل العلم جميعا بما ينبغي أن يكونوا عليه، قال: ﴿أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار. قال -عليه الصلاة والسلام-: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله -تعالى- عليه﴾.
هذا السؤال العظيم ما يقرب إلى الجنة، ويبعد عن النار، سؤال عظيم، وهو شاق من حيث الامتثال، لكنه يسير على من يسره الله عليه، فإذن نفهم من هذا أن ثم كلفة في أن يمتثل المرء بمقتضى العلم، ولكنه يسير على من يسره الله عليه.
والله -جل وعلا- إذا أقبل العبد يسر عليه الأمر، كما قال -جل وعلا-: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾ فتيسير الله -جل وعلا- أمور الخير للعبد هذا يكون بشئ يبذله العبد: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾.
قال -عليه الصلاة والسلام- هنا: ﴿وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه﴾ ثم فصل فقال: ﴿تعبد الله لا تشرك به شيئا﴾ "تعبد الله" يعني: أن تتوجه بجميع أنواع العبادات إلى الله -جل وعلا- وحده، فإذا دعوت دعوت الله، وإذا سألت سألت الله، وإذا صليت صليت لله، وإذا استغثت استغثت بالله، وإذا أعظمت الرجاء أعظمته بالله.
وكل العبادات القلبية، واللسانية، والعملية بالجوارح كلها تكون لله -جل وعلا- وحده، ولا يكون لمخلوق فيها نصيب، قال: ﴿تعبد الله لا تشرك به شيئا﴾ يعني: كبير الشرك وصغيره وخفيه؛ لأن كلمة شيئا نكرة جاءت في سياق النفي فتعم كل ما كان في معناها.
فلا يشرك بأي شيء: لا يشرك بالهوى، لا يشرك بالمخلوق البشر، لا يشرك بالملائكة، لا يشرك بعظيم، لا يشرك بصالح، لا يشرك بجني، بإنسي، بشجر، بحجر، بأي نوع مما خلق الله -جل وعلا-، وهذا لا شك أنه عظيم، ولكنه يسير على من يسره الله عليه.
فعبادة الله -جل وعلا- وحده دون ما سواه هذه غاية إرسال المرسلين، ونفي الشرك ونبذه والتخلص منه، أيضا مما جاء به المرسلون وأقاموا رسالاتهم عليه، وهذا يتنوع، فما كان من قبيل الشرك الأكبر فظاهر وجوب اجتنابه، وأن من فعله فهو مشرك كافر تارك للدين مع اجتماع الشروط وانتفاع الموانع.
وما هو أقل من ذلك الشرك الأصغر والخفي، ينبغي على العبد أن يسعى في تجنبه -يعني: ينبغي وجوبا- يجب عليه أن يسعى في تجنبه، وأن يجاهد نفسه، والشرك الأصغر يدخل فيه الرياء -يسير الرياء-، والشرك الخفي أيضا يدخل فيها أشياء، والشهوة الخفية، والتسميع والمقاصد، وأن يكون قصد المرء الدنيا فيما يأتي ويذر، وفي الأمور الدينية وطلب العلم وأشباه ذلك مما يراد لله.
فإذن عبادة الله وحده لا شريك له، هذا حاصل -إن شاء الله- عند الموحِّد، لكن يخاف على الموحد من أنواع الشرك الأصغر والخفي، مما يكون من يسير الرياء والتوجه لغير الله في ذلك، فهذه عظيمة:
فإن تنجُ منها تنجُ من ذي عظيمة وإنـي لا أخـالك ناجيـا
يعني: أن هذا الأمر شديد، ويجب أن توطن نفسك على إخراج المخلوق من قلبك، وأن يكون القلب خالصا لله متوجها لله: في تحركه، في سكناته، في أمره، في نهيه، في تصرفك مع أهلك، مع أقاربك، مع الأمور العامة، مع الأمور الخاصة، إذا كان كل شيء لله تم الإخلاص.
قال: ﴿وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت﴾ وهذه الأربعة مر بيانها.
ثم قال: ﴿ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة﴾ الصوم يريد به صوم النفل؛ لأنه قدم صيام رمضان، ثم قال: ﴿ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة﴾ جنة يعني: وقاية يقي العبد مما يسخطه الله -جل وعلا-؛ لأن الصيام فيه تذكير بحقوق الله -جل وعلا- وحقوق عباده، فهو جنة من نفوذ الشيطان إلى العبد.
وكما جاء في الحديث أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: ﴿إذا دخل رمضان -أو قال إذا جاء رمضان- فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين﴾ وقال -عليه الصلاة والسلام- في حق من لم يجد طولا للنكاح: ﴿ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء﴾.
فالصيام جنة -يعني: يكون به الاجتنان؛ لأن الجنة والاجتنان هو: الحاجز الذي يقي. فالغطاء هو الجنة، ومنه قيل للجنين: جنين؛ لأنه في غطاء في استتار، وللمجن مجن لذلك... إلى آخره.
قال: ﴿والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار﴾ الصدقة بأنواعها تطفئ الخطايا؛ الصدقة بالقول وبالعمل، الواجبة والمستحبة، والصدقة بالمال، كل هذه تطفئ الخطايا؛ لأنها حسنات، والله -جل وعلا- قال: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾.
وقد مر معنا قوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن﴾ فإذا فهمت معنى الصدقة العام الشامل الذي ذكرناه لك في درس مضى، فإنه كلما حصلت منك خطية فعليك بكثرة الصدقات، والخطايا لا تحصى؛ لأنه ما من حال تكون فيه إلا ولله -جل وعلا- أمر ونهي في ذلك، وقل من يكون ممتثلا للأمر والنهي في كل حالة.
فإذن لا بد من الإكثار من الصدقات؛ فهي أبواب الخير، قال: ﴿تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار﴾ النار إذا شبت لا يطفئها إلا الماء، فإنك تأتي بالماء فتنطفئ، وهذا مثال الحسنات بعد السيئات.
قال: ﴿وصلاة الرجل في جوف الليل﴾ صلاة الرجل في جوف الليل، يعني: أن يقوم الليل القيام المستحب، وقيام الليل على درجات، وأعلاه أن يكون كقيام المصطفى -ﷺ- الذي جاء في آخر سورة المزمل: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾.
فأفضله ما كان بعد نصف الليل إلى الفجر، وبعده من أول ثلث الليل الآخر إلى الفجر، ثم هكذا مراتب بما يتيسر للعبد، فصلاة الرجل في جوف الليل هذه من أعظم أبواب الخير، وبها يحصل للمرء من النور في قلبه، وحسن تعامله مع ربه، وخشيته له، والتنقب عن دار الدنيا، والرغب في الآخرة ما لا يدخل تحت وصف.
أعاننا الله وإياكم على ذلك، فإن صلاة الرجل والمرأة في جوف الليل هذه يكون معها التدبُّر للقرآن، وحسن منجاة الله، والدمعة التي تسيل من خشية الله -جل وعلا- إذ يكون المرء في ذلك على يقين من أنه إنما قام لله -جل وعلا- وحده، فتعظم الصلة، ويعظم التعلق، ويعظم إخبات القلب، ويعظم الرجاء، وتعظم الرهبة، ويعظم الخوف، ويؤثر القرآن في القلوب تأثيرا عظيما.
فأصحاب الليل هم أهل التقوى، قال -جل وعلا-: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ﴾يعني: في وصف عباده المخبتين المنيبين في سورة الم السجدة: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وهذا من فضل الله -جل وعلا- عليهم.
قال: ﴿ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى، يا رسول الله. قال: رأس الأمر الإسلام﴾ لأن الأمر الذي هو الدين رأسه الإسلام، فإذا صدع الرأس فلا حياة، فإذا ذهب الإسلام فلا حياة للمرء في الدين، فقال: ﴿رأس الأمر الإسلام﴾ وهو الاستسلام لله -جل وعلا- بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله.
قال: ﴿وعموده الصلاة﴾ العمود هو ما يقوم عليه البناء، فإذا كان ثم أشياء يقوم عليها البناء فإن بالصلاة يقوم البناء؛ بهذا قال: ﴿وعموده الصلاة﴾ فعمود الأمر عمود الدين الصلاة، وقال: "عموده"؛ لأن الصلاة هي الركن العملي الذي به يحصل الامتثال لِمُقْتَضَيات الإيمان العملية، يعني: بركن الإيمان الذي هو العملي.
فالإيمان: قول واعتقاد وعمل، والعمل عموده الصلاة، فإذا ذهبت الصلاة فلا قيام في ذلك؛ لهذا قال عمر -رضي الله عنه-: "ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة" وثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ﴿العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر﴾.
قال -عليه الصلاة والسلام- بعد ذلك: ﴿وذروة سنامه الجهاد﴾ ﴿ذروة سنامه﴾ تشبيه للأمر بالجمل، والجمل أعلاه ذروة السنام، والجمل متحرك، والجهاد أيضا يبعث على الانتشار؛ فهو سبب انتشار الإسلام، وامتداد الدخول في الدين، فمثَّله -عليه الصلاة والسلام- -يعني: مثل الدين بالراحلة بالجمل-، وجعل الجهاد من هذه الراحلة ذروة السنام؛ لأنه بارز بين متميز.
فالإسلام تميز من بين الأديان كتميُّز الجمل بذروة سنامه بالجهاد، فالجمل متميز بذروة السنام -يعني: بالسنام بعامة وبذروة السنام- وهذا الإسلام تميز بالجهاد في سبيل الله، والجهاد أنواع، والمراد به هنا -الجهاد- جهاد الأعداء، وهو -كما هو معلوم- على مرتبتين: واجبة، ومستحبة، والواجب أيضا على قسمين: واجب عيني، وواجب كفائي، كما هو معلوم في مكانه من الفقه.
قال: ﴿ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى، يا رسول الله. فأخذ بلسانه وقال: كف عليك هذا﴾ فاللسان هو أعظم الأعضاء جرما؛ لأنه سهل الحركة، كثير الخطايا، فباللسان يحصل الاعتقاد الزائف باللسان يقول المرء الكلمة لا يلقي لها بالا تهوي به في النار سبعين خريفا، باللسان تحصل العداوات.
باللسان تحصل العداوات، وقد قال -جل وعلا -: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾ وباللسان يحصل الوقوع في المؤمنين والإيذاء بغير حق، قد قال -جل وعلا - ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ والإيذاء أعظم أنواعه ما كان باللسان، وقد أوذيت عائشة -رضى الله عنها وأرضاها- باللسان بما بلغ بها المَبْلَغ الذي تعلمون في قصة الإفك، باللسان يحصل نشر الخير وباللسان يحصل نشر الشر.
فإذا حاسب المرء نفسه على لسانه، حصل له ملاك هذا الأمر، وهو أنه ملك عليه دينه، وأما إذا أطلق لسانه في كل شيء، فإنه يضر نفسه ضررا بالغا ولا يملك على نفسه دينه، واللسان قد جاءت الأحاديث الكثيرة في بيان شأنه، ومر معنا في حديث مضى بعض ذلك فقال: ﴿كف عليك هذا﴾ يعني: أمسك، فالكلمة إذا لم تعلم أنها من الحق الذي تؤجر عليه، فاتركها؛ لأنها عليك، وليست لك، قال: ﴿قلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك﴾؛ لأنه لا يتوقع من معاذ، وهو العالم بالحلال والحرام الفقيه أن يسأل هذا السؤال، فقال: ﴿ثكلتك أمك﴾ يعني: استغراب من هذا السؤال الذي لم يتوقع من معاذ أن يسأله فقال: ﴿ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم﴾.
يستنكف كثير من الناس، يعني: من المسلمين أن يعمل عملا محرما من الكبائر بجوارحه، تجد أنه يستنكف أن يأكل الربا، ويستنكف أن يشرب الخمر، يستنكف أن يأتي كبيرة الزنا، يستنكف أن يأتي كبيرة السحر، يستنكف أن يأتي كبيرة قذف المحصنات الغافلات، يستنكف أن يأتي كذا وكذا من الكبائر، ولكنه في كبائر اللسان يقع فيها بلا مبالاة، فيقع في النميمة من دون أن يشعر، فينقل كلاما، وبه يفرق بين المرء وبين أخيه، يقول: فلان سمعته يقول فيك كذا وكذا، وهذه نميمة أن تنقل كلاما يوقع الضغينة والشر في نفس مسلم على أخيه المسلم، وهي كبيرة من الكبائر، وهي الحالقة، ويغتاب، والغيبة محرمة، وهي عند كثير من أهل العلم كبيرة، ومدارها على اللسان، وقد قال -جل وعلا -: ﴿وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾.
قال طائفة من أهل العلم: لما شبه الغيبة بأكل لحم الميت دل على أنها من الكبائر؛ لأن المشبه به كبيرة، فيأخذ المشبه حكم المشبه به، فدل على أنها من الكبائر.
وهكذا في أصناف شتى، فما وجدت العداوات والبغضاء إلا باللسان، وما تفرقت الأمة إلا باللسان قبل الأعمال، فاللسان هو مدار الأمر؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟﴾ يعني: برأس الأمر وعموده وذروة سنامه، ﴿قال: بلى، يا رسول الله، قال: كف عليك هذا﴾ فهذه وصية عظيمة، وسبب التعذيب، تعذيب كثيرين في النار، أنهم لم يكفوا ألسنتهم عما لا يحل لهم؛ فلهذا علينا أن نحذر اللسان أعظم الحذر، فنوصي بهذه الوصية التي أوصى بها المصطفى -عليه الصلاة والسلام- بقوله: ﴿كف عليك هذا﴾.
فأوصي نفسي وإياكم بأن نكف ألسنتنا، إلا عن شيء علمنا حسنه، فإذا خاطبنا إخواننا، فلنخاطبهم بالتي هي أحسن ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ أحسن ما تجد من اللفظ قله لوالدك، لوالدتك، لإخوانك، لأخواتك، لأهلك، لإخوانك المؤمنين؛ لأنه بهذا تبعد مدخل الشيطان في التفريق ما بين أهل الإيمان.
وما حصل، ما حصل في تاريخ الإسلام، وفي زماننا هذا من أمور منكرة إلا بسبب إطلاق اللسان فيما لا يعلم أنه من الحق، وكل يتكلم بما شاء، فحصل ما لم يحمد، نسأل الله -جل وعلا -أن يلهمني وإياكم ما فيه صلاحنا في قلوبنا وألسنتنا وجوارحنا.
الشيخ ابن العثيمين
هِمَمُ الصحابة رضي الله عنهم عالية، فلم يقل: أخبرني بعمل أكسب فيه العشرة عشرين أو ثلاثين أو ما أشبه بذلك، بل قال: ﴿أَخبِرنِي بِعَمَلٍٍ يُدخِلُني الجَنَّةَ وَيُبَاعدني من النارَ...﴾ أي يكون سبباً لدخول الجنة والبعد عن النار.
فقال النبي ﷺ ﴿لَقَد سَأَلتَ عَنْ عَظيمٍ﴾ أي والله عظيم، هذه هي الحياة، أن تدخل الجنة وتبتعد عن النار، هذا هو الفوز والفلاح، قال الله عزّ وجل: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ (آل عمران: من الآية 185) ولهذا وصفه النبي ﷺ بأنه عظيم، ولكن الحمد لله.
﴿وَإِنهُ ليَسيرٌ عَلى مِنْ يَسرَهُ اللهُ عَلَيه ﴾ - اللهم يسره علينا يا رب العالمين - وصدق النبي ﷺ فإن الدين الإسلامي مبني على اليسر، قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ (البقرة: من الآية 185) ومبني على السمح قال النبي ﷺ لأصحابه وهو يبعثهم إلى الجهات: ﴿يَسِّروا ولا تُعَسِّروا، بَشِّروا وَلاَ تُنَفِّروا، فَإِنَمَا بُعِثتُم مُيَسِّرين وَلَم تُبعَثوا مُعَسِّرين﴾ وقال : ﴿إِنَّ هذا الدينُ يُسر، وَلَن يُشَاد الدينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ﴾ فهو يسير لكن لمن يسره الله عليه، ثم شرح ذلك فقال:
﴿تَعبُدَ اللهَ﴾ بمعنى تتذلل له بالعبادة حباً وتعظيماً، مأخوذ من قولهم: طريق معبد أي ممهد ومهيأ للسير عليه، لا تعبد الله وأنت تعتقد أن لك الفضل على الله، فتكون كمن قال الله فيهم ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ﴾ (الحجرات: من الآية 17).
هذا وهم لم يمنوا على الله تعالى، بل على الرسول ﷺ فقط، اعبد الله تعالى تذللاً له ومحبة وتعظيماً، فبالمحبة تفعل الطاعات، وبالتعظيم تترك المعاصي.
﴿لا تُشرِك بِهِ شيئاً﴾ أي شي يكون حتى الأنبياء، بل الأنبياء ما جاؤوا إلا لمحاربة الشرك، فلا تشرك به شيئاً لا ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، والعبادة لها شروط نذكرها إن شاء الله في الفوائد.
قال: ﴿وَتُقيم الصَلاةَ، وَتُؤتي الزكَاةَ، وَتَصوم رَمَضَانَ، وَتَحُج البَيتَ﴾ هذه أركان الإسلام الخمسة، وقد مرت.
ثم قال: ﴿أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبوَابِ الخَيرِ﴾ أبواب أي مسائل، وأبواب تستعمل في الباب الذي يفتح للداخل والخارج، وتستعمل في المسائل، ومن هذا قول العلماء في مؤلفاتهم:هذا الباب في كذا وكذا. وقول المحدثين: لا يصح في هذا الباب شيء، أي لا يصح في هذه المسألة شيء.
فقوله: ﴿أَبوَابِ الخَيرِ﴾ أي مسائل الخير، ويجوز أن يكون المراد به الباب المعروف الذي يكون منه الدخول والخروج.
﴿أَلا أَدُلُّكَ عَلَى أَبوَابِ الخَيرِ﴾ والجواب: بلى، لكن حذف للعلم به، لأنه لابد أن يكون الجواب بلى.
قال: ﴿الصَّومُ جنةٌ﴾ أي مانع يمنع صاحبه في الدنيا ويمنع صاحبه في الآخرة.
أما في الدنيا فإنه يمنع صاحبه من تناول الشهوات الممنوعة في الصوم، ولهذا يُنهى الصائم أن يقابل من اعتدى عليه بمثل ما اعتدى عليه، حتى إنه إذا سابه أحد أو شاتمه يقول: إني صائم.
وأما في الآخرة فهو جُنَّةٌ من النار، يقيك من النار يوم القيامة.
والصوم: التعبد لله تعالى بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
﴿وَالصَّدَقَة تُطفِىء الخَطيئَة كَمَا يُطفِىء المَاءُ النَّارَ﴾ الصدقة مطلقاً سواء الزكاة الواجبة أو التطوع، و سواء كانت قليلة أو كثيرة.
﴿تُطفِىء الخَطيئَة﴾ أي خطيئة بني آدم، وهي المعاصي.
﴿كَمَا يُطفِىء المَاءُ النَّارَ﴾ والماء يطفىء النار بدون تردد، فشبه النبي ﷺ الأمر المعنوي بالأمر الحسي.
﴿وَصَلاةُ الرّجُل في جَوفِ اللَّيلِ﴾ هذه معطوفة على قوله الصدقة أي وصلاة الرجل في جوف الليل تطفىء الخطيئة، وجوف الليل وسطه كجوف الإنسان.
ثم تلا : ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ*﴾ (السجدة: 16-17) تلا أي قرأ ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ هذا في وصف المؤمنين، أي أنهم لا ينامون ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ إن ذكروا ذنوبهم خافوا، وإن ذكروا فضل الله طمعوا، فهم بين الخوف و الرجاء، ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ ( من ) هنا إما أن تكون للتبعيض والمعنى ينفقون بعضها، أوتكون للبيان، والمعنى ينفقون مما رزقهم الله عزّ وجل قليلاً كان أو كثيراً ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (السجدة: 17)، استشهد النبي ﷺ بهذه الآية على فضيلة قيام الليل، ثم قال: ﴿أَلاَ أُخبِرُكَ بِرَأَسِ الأَمرِ، وَعَمودِهِ، وذِروَةِ سِنَامِهِ﴾ ثلاثة أشياء:
﴿قُلتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: رَأَسُ الأَمرِ الإِسلام﴾ أمر الإنسان الذي من أجله خُلِقَ، رأسه الإسلام، أي أن يسلم لله تعالى ظاهراً وباطناً بقلبه وجوارحه.
﴿وَعَمودِهِ الصلاة﴾ أي عمود الإسلام الصلوات، والمراد بها الصلوات الخمس، وعمود الخيمة ما تقوم عليه، وإذا أزيل سقطت.
﴿وَذِروَةِ سِنَامِهِ الجِهَاد في سَبيلِ الله﴾ ذكر الجهاد أنه ذروة السنام، لأن الذروة أعلى شيء ، وبالجهاد يعلو الإسلام ، فجعله ذروة سنام الأمر، قال الله تعالى: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 139).
وقال عزّ وجل: ﴿فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ﴾ (محمد: 35).
وقوله: ﴿الجهاد﴾ يعني في سبيل الله عزّ وجل والجهاد في سبيل الله بينه النبي ﷺ أتم بيان، فقد سئل عن الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: ﴿مَن قَاتَلَ لِتَكونَ كَلِمَةُ اللهِ هي العُليَا فَهوَ في سَبيلِ اللهِ﴾ فهو لم يجب عن الثلاثة التي سئل عنها بل ذكر عبارة عامة، فقال: ﴿مَن قَاتَلَ لِتَكونَ كَلِمَةُاللهِ هي العُليَا فَهوَ في سَبيلِ اللهِ ثم قال: ﴿أَلاَ أُخبِرُكَ بِمَلاك ذَلكَ كُله﴾ ملاك الشيء ما يملك به، والمعنى ما تملك به كل هذا.
﴿قُلتُ:بَلَى يَا رَسُول الله، قَالَ: فَأَخذ بِلِسانِهِ وَقَالَ: كُفَّ عَليكَ هَذا﴾ أخذ النبي ﷺ بلسان نفسه وقال: ﴿كُفَّ عَليكَ هَذا﴾ أي لاتطلقه في القيل والقال، وقد تقدم قوله: ﴿مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَليَقُل خَيرَاً أَو ليَصمُت﴾ فلا تتكلم إلا بخير.
﴿قُلتُ: يَا نَبيَّ الله وَإِنَّا لَمؤاخِذونَ بِما نَتَكَلّم بِه﴾ الجملة خبرية لكنها استفهامية والمعنى:أإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ يعني أن معاذاً رضي الله عنه تعجب كيف يؤاخذ الإنسان بما يتكلم به.
فقال النبي ﷺ حثاً على أن يفهم: ﴿ثَكِلَتكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذ﴾ أي فقدتك، وهذه الكلمة يقولها العرب للإغراء والحث، ولا يقصدون بها المعنى الظاهر، وهو أن تفقده أمه، لكن المقصود بها الحث والإغراء.
وقال بعض العلماء: إن هذه الجملة على تقدير شرط والمعنى:ثكلتك أمك يا معاذ إن لم تكف لسانك، ولكن المعنى الأول أوضح وأظهر، وأنها تدل على الإغراء والحث ، ولهذا خاطبه بالنداء فقال: يا معاذ.
﴿وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ في النارِ عَلى وجُوهِهم، أَو قَالَ: عَلَى منَاخِرهِم﴾ هذا شك من الراوي ﴿إِلا حَصائدُ أَلسِنَتِهم﴾ أي ما يحصدون بألسنتهم من الأقوال. لما قال هذا الكلام اقتنع معاذ رضي الله عنه وعرف أن ملاك الأمر كف اللسان، لأن اللسان قد يقول الشرك، وقد يقول الكفر، وقد يقول الفحشاء، فهو ليس له حد.
من فوائد هذا الحديث:
1- حرص الصحابة رضي الله عنهم على العلم، ولهذا يكثر منهم سؤال النبي ﷺ عن العلم.
ولكن هل سؤالهم رضي الله عنهم لمجرد أن يعلموا بالحكم، أولأجل أن يطبقوه؟
الجواب: الثاني، عكس ما يفعله بعض الناس اليوم، حيث يسأل ليعرف الحكم فقط، ثم هو بالخيار إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وهذا غلط، بل اجعل غايتك من العلم العمل به دون الاطلاع على أقوال الناس.
ولهذا تجد بعض الناس يسأل هذا العالم وبعد أن يعرف ما عنده، يذهب يسأل عالماً آخراً وثالثاً ورابعاً، لأنه لايريد العمل بالعلم، بل يريد الاطلاع فقط، وهذا غلط، لا تسأل عن العلم إلا لهدف واحد وهو العمل
2- علو همة معاذ بن جبل رضي الله عنه حيث لم يسأل عن أمور الدنيا، بل عن أمور الآخرة، حيث قال: ﴿أَخْبِرنِي عَنْ عَمَلٍ يُدخِلُني الجَنَّةَ ويُبَاعِدُنِي مِنَ النَّار﴾ وجدير به رضي الله عنه أن يكون بهذه المنزلة العالية، لأنه أحد فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، ولأن النبي ﷺ بعثه إلى اليمن داعياً ومفتياً وحاكماً، فهو رضي الله عنه من أفقه الصحابة.
3- إثبات الجنة والنار، والإيمان بهما أحد أركان الإيمان الستة كما سبق.
4- أن العمل يدخل الجنة ويباعد عن النار، لأن النبي ﷺ أقره على هذا.
وهنا يقع إشكال وهو: أن النبي ﷺ قال: ﴿لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَارَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدِنِيَ اللهُ بِرَحْمَتِهِ﴾ فكيف يُجمع بين هذا الحديث وبين النصوص الأخرى الدالة على أن الإنسان يدخل الجنة بعمله؟
أجاب العلماء - رحمهم الله، فقهاء الإسلام، أطباء القلوب والأبدان، ممن علمهم الله ذلك - فقالوا: الباء لها معنيان: تارة تكون للسببية، وتارة تكون للعوض.
فإذا قلت: بعت عليك هذا الكتاب بدرهم، فهذه للعوض.
وإذا قلت: أكرمتك بإكرامك إياي، فهذه للسببية.
فالمنفي هو باء العوض، والمثبت باء السببية.
فقالوا: معنى قول النبي ﷺ : ﴿لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ﴾ أي على أن ذلك معاوضة، لأنه لوأراد الله عزّ وجل أن يعاوض العباد بأعمالهم وجزائهم لكانت نعمة واحدة تقضي على كل ما عمل، وأضرب مثلاً بنعمة النَّفَس، نعمة النفس هذه نعمة عظيمة لايعرف قدرهاإلا من ابتلي بضيق النفس، واسأل من ابتلوا بضيق النفس ماذا يعانون من هذا، والرجل الصحيح الذي ليس مصاباً بضيق النفس لايجد كلفة في التمتع بهذه النعمة، فتجده يتنفس وهو يتكلم، ويتنفس وهويأكل ولايحس بشيء.
هذه النعمة لو عملت أي عمل من الأعمال لاتقابلها، لأن هذه نعمة مستمرة دائماً، بل نقول: إذا وفقت للعمل الصالح فهذا نعمة قد أضل الله عزّ وجل عنها أمماً، وإذا كان نعمة احتاج إلى شكر، وإذا شكرت فهي نعمة تحتاج إلى شكر آخر، ولهذا قال الشاعر:
إذا كانَ شكري نعمةَ اللهِ نعمةً ** عليَّ لهُ في مثلها يجب الشكرُ
فكيفَ بلوغُ الشُّكرِ إِلاَّ بفضلهِ ** وإن طالت الأيام واتّصل العمرُ
5- أن هذا السؤال الذي صدر من معاذ رضي الله عنه سؤال عظيم، لأنه في الحقيقة هو سر الحياة والوجود، فكل موجود في هذه الدنيا من بني آدم أو من الجنّ غايته إما الجنة وإما النار، فلذلك كان هذا السؤال عظيماً.
6- أن هذا وإن كان عظيماً فهو يسير على من يسره الله عليه.
7- أنه ينبغي للإنسان أن يسأل الله تعالى التيسير، أن ييسر أموره في دينه ودنياه، لأن من لم ييسر الله عليه فإنه يصعب عليه كل شيء.
8- ذكر أركان الإسلام الخمسة، في قوله: ﴿تَعْبُدَ اللهَ لاتُشرِكْ بهِ شَيئاً، وَتُقِيْمَ الصّلاةَ، وَتُؤتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ البَيْتَ﴾ ولم يذكر الرسالة، لأن عبادة الله تتضمن الرسالة، إذ لايمكن أن يعبد الإنسان ربه إلا بما شرع نبيه.
9- أن أغلى المهمّات وأعلى الواجبات عبادة الله وحده لاشريك له، أي التوحيد.
10- فضل النبي ﷺ في التعليم حيث يأتي بما لم يتحمله السؤال لقوله: ﴿أَلا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الخَيْرِ﴾ وهذا من عادته أنه إذا دعت الحاجة إلى ذكر شيء يضاف إلى الجواب أضافه، مثال ذلك:
سُئل عن ماء البحر أنتوضّأ به؟ فقال النبي ﷺ في البحر: ﴿هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيتَتُهُ﴾ الطهور ماؤه هذا جواب السؤال و الحل ميتته زائد، لكن لماكان الناس في البحر يحتاجون إلى ا لأكل بين لهم أن ميتته حلال.
وقد عاب قوم شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وقالوا: إنه إذا سئل عن المسألة أتى بمسائل كثيرة، فأجاب عن ذلك بعض تلاميذه وقال: إن هذا من جوده وكرمه في بذل العلم، واستشهد بقول النبي ﷺ في البحر: ﴿هوَ الطَّهُورُ ماؤُهُ الحِلُّ مَيتَتُهُ﴾ وهو لم يسأل إلا عن الوضوء بماء البحر.
11- أن الصوم جنة، وسبق معناها في الشرح، وبناء على هذا فمن لم يكن صومه جنة له فإنه ناقص، ولهذا يحرم على الإنسان تناول المعاصي في حال الصوم.
ولكن هل المعاصي تبطل الصوم أو لا؟
فالجواب: إن كان هذا المحرم خاصاً بالصوم أفسد الصوم، وإن كان عاماً لم يفسده.
مثال الأول: يحرم على الصائم الأكل والشرب، فلو أكل أو شرب فسد صومه، كما يحرم على ا لصائم وغيره الغيبة وهي ﴿ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَه﴾ فلو اغتاب الصائم أحداً تحرم غيبته لم يفسد صومه، لأن هذا النهي لايختص بالصوم.
هذه القاعدة عند جمهور أهل العلم، وقال بعض أهل العلم: إذا أتى الصائم بما يحرم ولو على سبيل العموم فسد صومه، واستدل بقول النبي ﷺ : ﴿مَنْ لَمْ يَدَعْ قَولَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ وَالجَهْلَ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ﴾ لكن ما ذهب إليه الجمهور أصحّ، والحديث إنما أراد النبي ﷺ به أن يبين الحكمة من الصوم، لا أن يبين فساد الصوم بقول الزور والعمل بالزور والجهل.
12- أن الصدقة تطفئ الخطيئة، ففيه الحث على الصدقة فإذا كثرت خطاياك فأكثر من الصدقة فإنها تطفئ الخطيئة، وقد قال النبي ﷺ: ﴿كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ﴾ وقال النبي ﷺ: ﴿سبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: إمَامٌ عَادِلٌ، ... إلى أَنْ قَالَ: وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاتَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِيْنُهُ﴾ ومعنى الحديث: أنه في يوم القيامة ليس هناك شجر ولامغارات ولاجبال ولابناء يستظل به الناس إلا الظل الذي يخلقه الله عزّ وجل فيظل به عباده، وهو إما ظل العرش كما قيل به، أو غيره. المهم أنه لايجوز أن نعتقد أن المعنى: ظل الله تعالى نفسه، فإن الله تعالى نور السموات والأرض، وحجابه النور، والظل يقتضي ثلاثة أشياء: مُتَظَلَّلٌ عَنْهُ، وَظِلٌّ، وَمُظَلَّلٌ.
والأعلى منها المظلل عنه، ولايمكن أن يكون فوق الله تعالىشيء، بأن يكون الله تعالى هو الوسط بين الشمس وبين العباد، فهذا شيء مستحيل.
وليس هذا من باب التأويل كما قيل به، لأن جوابنا على هذا من وجهين:
الوجه الأول: أن التأويل إذا دل عليه الدليل فلا مانع منه، فهاهم السلف أولوا المعيّة بالعلم خوفاً بأن يُظن أن المعيّة بالذات في نفس الأرض.
وأول الفقهاء قول الله عزّ وجل: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ (النحل: 98) بأن المراد إذا أردت أن تقرأ.
فالتأويل الذي دل عليه الدليل ليس تحريفاً، بل هو تفسير الكلام.
الوجه الثاني: أن التأويل المذموم هو التحريف، بأن يصرف الكلام عن ظاهره إلى معنى يخالف الظاهر بلا دليل.
13- أن الخطيئة فيها شيء من الحرارة لأنه يعذب عليها الإنسان بالنار، والماء فيه شيء من البرودة، ولهذا شبه النبي ﷺ ذلك بالماء يطفىء النار.
14- حسن تعليم النبي ﷺ ، وما أكثر ما يمر علينا حسن تعليمه صلوات الله وسلامه عليه، لأن حسن تعليمه من تمام تبليغه وذلك بقياس الأشياء المعنوية على الأشياء الحسية، كما في قوله: ﴿تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ﴾.
15- الحث على صلاة الليل، وبيان أنها تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار.
16- استدلال النبي ﷺ بالقرآن مع أن القرآن أنزل عليه، لكن القرآن يستدل به لأن كلام الله تعالى مقنع لكل أحد، ولهذا تلا هذه الآية: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ﴾ (السجدة: من الآية 16).
فإن قال قائل: لم يذكر في الحديث أنه استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وقد قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ (النحل: 98).
فالجواب: أن هذه الآية لا يراد بها التلاوة، وإنما يراد بها الاستدلال، والآية الكريمة: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ﴾ يعني للتلاوة، وأحاديث كثيرة من هذا النوع يُذكر فيها الاستشهاد بالآيات، ولا يذكر فيها الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم.
مسألة: كثير من الأخوة إذا أراد أن يقرأ قال: قال الله عزّ وجل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ (القدر: 1).
وهذا تخليط، لأنه إذا قال: قال الله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أدخل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم في مقول القول، وهذا غلط، وإذا كان ولابد أن تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فقلها قبل، أي قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى.
ولكن الذي مرّ علينا كثيراً أن ما قصد به الاستدلال فإنه لايتعوّذ فيه بخلاف ما قصد فيه التلاوة، والآية ظاهرة: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ (النحل: 98).
17- فضيلة أولئك القوم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع، لأنهم يشتغلون بالصلاة يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، وليس الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع في اللهو واللغو والحرام، فإن هؤلاء بقاؤهم ساهرين إما مكروه، وإما محرّم حسب مايشتغلون به.
18- ومن فوائد الآية التي استشهد بها النبي ﷺ: أنه ينبغي للإنسان أن يكون عند دعوة الله عزّ وجل خائفاً راجياً، لقوله: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ (السجدة: من الآية 16).
والمراد دعاء العبادة ودعاء المسألة، فأنت إذا عبدت الله كن خائفاً راجياً، تخاف أن لايقبل منك، كما قال الله عزّ وجل: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ (المؤمنون: من الآية 60) أي خائفة أن لا يقبل منها، ولكن أحسن الظن بالله.
وأيضاً: كن راجياً ربك عزّ وجل حتى تسير إلى الله بين الخوف والرجاء.
وهذه مسألة اختلف فيها أرباب السلوك: هل الأولى أن يغلب الإنسان جانب الرجاء، أو الأولى أن يغلب جانب الخوف، أو يجعلهما سواء؟
فقال الإمام أحمد - رحمه الله-: ينبغي أن يكون خوفه ورجاؤه واحداً، فأيهما غالب هلك صاحبه.
وقال بعض أهل العلم: ينبغي عند الموت أن يغلب جانب الرجاء، وفي حال الصحة يغلب جانب الخوف، قال: لأن النبي ﷺ قال: ﴿لا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ باللهِ﴾ أما في حال الصحة فيغلب جانب الخوف لأجل أن يحمله خوفه على الاستقامة.
وقال بعض أهل العلم: في حال فعل الطاعة يغلب جانب الرجاء، وفي حال الهمّ بالمعصية يغلب جانب الخوف، وهذا حسن.
ووجه الأول أنه في حال الطاعة يغلب جانب الرجاء هو أنه يقول: إن الذي منَّ عليَّ بهذه الطاعة سيمنُّ عليَّ بقبولها، فيجعل منّة الله تعالى عليه بها دليلاً على منّة الله تعالى عليه بقبولها، ويغلب جانب الرجاء، ويقول: قمت بما أمرت به وأرجو من الله الثواب.
أما إذا همّ بالمعصية فيغلب جانب الخوف لئلا يقع في المعصية، وهذا القول من حيث المعنى أحسن الأقوال، لكن مع ذلك لانحكم به على كل فرد، إذ قد يعرض للإنسان حالات يغلب فيها الرجاء وحالات يغلب فيها الخوف، لكن نحن نتكلم عن الخوف والرجاء من حيث هما، لا باعتبار كل واحد من الناس .
19- ومن فوائد الحديث في ضمن الآية: فضيلة الإنفاق مما رزق الله العبد، لقوله: ﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ (السجدة: 16).
وهل المراد الرزق الطيب أو مطلق الرزق؟
الآية مطلقة، ولكن من اكتسب مالاً محرّماً، أو أنفق مالاً محرّماً فلا مدح له، كمن سرق مالاً ثم ذهب يتصدق به، فلا يستقيم. أو تصدق بخنزير فلا يستقيم. وعلى هذا يكون المراد بالرزق في الآية الرزق الطيب.
20- ومن فوائد الحديث: أن رأس الأمر - أي أمر الدنيا والآخرة- الإسلام. والإسلام هوما بعث به النبي ﷺ، إذ بعد بعثته لا إسلام إلا ما كان على شريعته، وعلى هذا فلو سألك سائل: هل اليهود مسلمون؟ هل النصارى مسلمون؟
فالجواب: أن اليهود في حال قيام شريعة التوراة إذا اتبعوها فهم مسلمون، وكذلك النصارى في حال قيام الإنجيل إذا اتبعوه فهم مسلمون، ولهذا في القرآن الكريم ذكر الإسلام لهؤلاء وهؤلاء. وأما بعد بعثة النبي ﷺ فإن كل من كفر به ليس بمسلم حتى لو قال:أني أسلمت.
21- أن الصلاة عمود الدين، والعمود لا يستقيم البناء إلا به.
ويتفرّع على هذا: أن من ترك الصلاة فهو كافر، لأن العمود إذا سقط لم يستقم البناء، وهذا القول هو القول الراجح الذي دل عليه كتاب الله، وسنة رسوله، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم حتى حكي هذا القول إجماعاً من الصحابة، وهو مقتضى النظر والقياس، إذ كيف يمكن لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يحافظ على ترك الصلاة؟ لايمكن هذا أبداً.
وقد كتبنا في هذا رسالة موجزة - والحمد لله - لكنها تضمنت ذكر الأدلة على كفر تارك الصلاة والجواب عن قول من يقول: إنه لايكفر.
وليس عند من يقول إنه لايكفر دليل، إلا نصوصاً عامة تخص بنصوص كفر تارك الصلاة، أو نصوص قيدت بما لايمكن مع هذا القيد أن يترك الصلاة، أو نصوص قيدت بقيود لا يمكن معها ترك الصلاة.
المهم على كل حال هذه الرسالة ينبغي لكل إنسان أن يقرأها متجرداً عن الهوى، وفي ظني أنه لو شاع هذا القول بين الناس لارتدع كثير من الناس عن ترك الصلاة، وأما إذا قيل: ترك الصلاة فسق من الفسوق فكثير من الناس لا يبالي أن يكون فاسقاً أو مستقيماً.
ويرى بعض أهل العلم من السابقين واللاحقين أن ترك صلاة واحدة حتى يخرج وقتها بلا عذر كفر.
ولكن الذي أرى: أنه لا يكفر إلا إذا ترك الصلاة نهائياً.
22- أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، والذروة هو الشيء العالي، لأنه إذا استقام الجهاد فمقتضاه أن المسلمين تكون كلمتهم هي العليا، وهذا ذروة السنام.
ولكن يقيد هذا الإطلاق بما إذا كان الجهاد في سبيل الله عزّ وجل يتعيّن؛ لأن النبي ﷺ سئل عن الرجل يقاتل حمية - أي حمية لقومه وعصبية - ويقاتل شجاعة - أي لأنه شجاع، والشجاع يحب القتال، ويقاتل ليرى مكانه، وفي لفظ: ويقاتل رياءً، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فعدل النبي ﷺ عن هذا كله وقال: ﴿مَنْ قَاتَل لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُليَا فَهُوَ فِي سَبِيْلِ اللهِ﴾ هذا الميزان.
ولذلك نجد الذين قاتلوا حميّة ممن ينتسبون للإسلام لم ينجحوا، ولن ينجحوا، فماذا حصل من قتال العرب لليهود؟ حصل الفشل، وحصلت الهزيمة لأنهم لايقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا، بل يقاتلون: للقومية العربية، هذه القومية حصل بسببها من المفاسد بأن دخل فيهم النصارى واليهود العرب مادام مناط الحكم هو العروبة، كما دخل فيهم الشيوعيون وغيرهم إذا كانوا عرباً، ولايعقل أن يهودياً أو نصرانياً أو شيوعياً يقاتل لحماية الإسلام.
وخرج الملايين من المسلمين من غير العرب وصار في نفوسهم شيء وقالوا: لماذا تخرجوننا من القتال؟ ولهذا صارت الهزيمة والفشل الذي ليس بعده استرداد للعزة والعلو، وإلا قد يكون هزيمة يبتلي الله بها كما حصل في أحد ولكن استردّ المسلمون عزهم وعلوّهم.
أما نحن فلن نزال في أرجوحة، كان الناس في عنفوان العروبة - كما يقولون- عندهم ثلاث لاءات يسمّونها اللاءات الثلاث: لاصلح، لاسلام، ولا استسلام. والآن يهود براك الخبيث جاء بخمس لاءات، والعرب الآن يلهثون وراءهم يطلبون الصلح، ولكنه ليس بحاصل إلا على ثروات العرب، وربما دمائهم أيضاً.
فالمهم: أن الجهاد المحمود المفروض على ا لمسلمين هو: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.
23- أن ملاك هذا كله كف اللسان، لقول النبي ﷺ: ﴿أَلا أُخْبِرُكَ بِملاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ﴾.
24- خطورة اللسان، فاللسان من أخطر ما يكون، فإن الإنسان ربما يتكلم بالكلمة من غضب الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار كذا وكذا، سنوات، وهو لم يلق لها بالاً، يتكلم بكلمة الكفر لا يلقي لها بالاً فيكفر ويرتد - والعياذ بالله -.
والغيبة الآن ملأت المجالس إلا ماشاء الله، وهي من آفات اللسان.
والكذب من آفات اللسان، والسبّ مقابلة وجهاً لوجه من آفات اللسان، والنميمة من آفات اللسان، فإذا حفظ الإنسان لسانه حفظه الله عزّ وجل، ولهذا جاء في الحديث: ﴿مَنْ يَضْمَنُ لِي مَابَيْنَ لَحْيَيْهِ وفَخِذَيْهِ أَضمَنُ لَهُ الجَنَّةَ﴾ أي من كفَّ عن الزنا وعن القول المحرّم فإنه يدخل الجنة.
25- التعليم بالقول وبالفعل، لقوله: ﴿أَخَذَ بِلِسَانِهِ وَقَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا﴾ ولم يقل: كفّ عليك لسانك، بل أخذ بلسانه وقال: كفّ عليك هذا، لأنه إذا حصل الفعل رأت العين وانطبعت الصورة في القلب بحيث لاينسى، والمسموع ينسى لكن المرئي لاينسى، بل يبقى في صفحة الذهن إلى ماشاء الله عزّ وجل.
ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم أحياناً يعلمون الناس بالفعل، ومن ذلك لما سئل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه عن وضوء النبي ﷺ ، دعا بماء وتوضّأ أمام الناس، حتى يفقهوا ذلك بالفعل.
26- أن الصحابة رضي الله عنهم لايبقون في نفوسهم إشكالاً ولاقلقاً، بل يسألون عنه حتى ينكشف الأمر، قال معاذ رضي الله عنه: وإنَّا لمؤاخذون بما نتكلّم به؟ وهذا إشكال يرد، لأن الإنسان إذا كان مؤاخذاً بما يتكلّم به فما أكثر المؤاخذة لكثرة الكلام فأجابه النبي ﷺ.
ومن هنا نأخذ فائدة عظيمة وهي: أن ما لم يسأل عنه الصحابة رضي الله عنهم ولم يرد في الكتاب والسنة من مسائل الاعتقاد فالواجب الكفّ عنها، فإذا سألك إنسان عن شيء في الاعتقاد، سواء في أسماء الله، أو صفات الله أو أفعال الله، أو في اليوم الآخر أو غيره ولم يسأل عنه الصحابة فقل له:هذا بدعة، لو كان خيراً لسبقونا إليه لأنهم - والله - أحرص منا على العلم، وأشد منا خشية لله تعالى.
27- جواز إطلاق القول الذي لايقصد وإنما يدرج على اللسان، لقوله: ﴿ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَامُعَاذُ﴾ هذه الكلمة دعاء، لكنها تجري على الألسن لقصد الحث لا للدعاء، وهي موافقة للقاعدة الشرعية، وهي أن الله تعالى لا يؤاخذ باللغو كما قال الله تعالى: ﴿لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ﴾ (المائدة: من الآية 89) وفي الآية الأخرى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ (البقرة: من الآية 225) وعلى هذا فما يجري على اللسان من الأيمان لا يؤاخذ به الإنسان، فمثلاً: دائماً يقول لك صاحبك: هل ستذهب إلى فلان؟ فتقول: لا والله لن أذهب إليه، ثم تذهب، فلا كفارة عليك، لأن هذا جرى على اللسان بلا قصد، فما لايعقد عليه القلب فإنه ليس بشيء، ولا يؤاخذ به الإنسان.
28- أن أهل النار - والعياذ بالله - قد يكبون في النار على وجوههم، لقوله: ﴿وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّار عَلَى وُجُوهِهِم أوقال: عَلَى مَنَاخِرِهِم﴾ وهذا اختلاف لفظ والمعنىواحد، لأن المنخر في الوجه، واسمع قول الله عزّ وجل: ﴿أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ (الزمر: من الآية 24) العادة أن الإنسان يتقي العذاب بيده، لكن أهل النار - أجارنا الله منها بمنّه وكرمه - لا يستطيعون، تلفح وجوههم النار، يتقي بوجهه سوء العذاب.
وهذا دليل على كمال الإهانة، لأن الوجه محل الإكرام، فإذا أهين إلى هذا الحد فهذا غاية ما يكون من الذلّ، قال الله تعالى: ﴿وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ (الشورى: من الآية 45).
29- الحذر من إطلاق اللسان، وقد مرّ علينا في الأحاديث السابقة ﴿مَنْ كَان يُؤمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيرَاً أَو لِيَصْمُتْ﴾ والله لو سرنا على هذا لسلمنا من أشياء كثيرة، وما أكثر ما يقول الإنسان شيئاً ثم يندم في الحال، لكن الكلمة إذاخرجت فهي كالرصاصة تخرج من البندق، لايمكن ردّها، لكن مادامت في قلبك يمكنك أن تتحكّم فيها.
30- تحرّي مانقل في الحديث من أقوال رسول الله حيث قال: ﴿عَلَى وُجُوهِهِم أو مَنَاخِرِهِم﴾ وهذا يدلّ على الأمانة التامّة في نقل الأحاديث. ولله الحمد
الشيخ صالح آل الشيخ
هذا الحديث فيه ذكر أشياء من أبواب الخير، وهو من الأحاديث العظيمة التي في كل جملة منها شاهد، لكل جملة منه شواهد كثيرة؛ ولهذا هو حديث حسن بمجموع شواهده لجمله المختلفة.
قال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: ﴿قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار﴾ هذا فيه ما ينبغي التأدب به على ما ينبغي التأدب به لأهل العلم؛ لأن معاذ بن جبل -رضي الله عنه، ورحمه- من أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام، بل هو أعلم الأمة بالحلال والحرام.
فهو من أهل العلم، وهذا يدل على أن طالب العلم ينبغي عليه أن يكون حريصا على ما يقربه من الجنة، ويباعده عن النار، قال معاذ: ﴿يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار﴾ وهذا مما ينبغي لكل طالب علم أن يحرص عليه: ما يقربه إلى الجنة، وما يباعده من النار.
لأن العلم له شهوة، والعلم له عنفوان، وقد يصرف صاحبه عن السعي في الغاية من العلم، وهو ما يقرب من الجنة، وما يباعد عن النار، وقد قال عبد الله بن المبارك -رحمه الله تعالى-: إن للعلم طغيانا كطغيان الماء، فالعلم يطغي إذا لم يكن صاحبه يسعى فيما يقربه إلى الجنة، ويباعده عن النار.
فالعلم له مقتضيات كثيرة، وأصحاب العلم وأهل العلم وطلبة العلم ينبغي لهم أن يكونوا ألين الناس في غير تفريط، وأن يكونوا أبصر الناس، وأحق الناس بالحكمة والأخذ بما يقربهم إلى الله -جل وعلا-؛ فهم القدوة، وهم البصراء في العلم والعمل.
لهذا سئل معاذ هذا السؤال، وذلك من حكمة الله -جل وعلا- أن يسأل ليبصر أهل العلم جميعا بما ينبغي أن يكونوا عليه، قال: ﴿أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار. قال -عليه الصلاة والسلام-: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله -تعالى- عليه﴾.
هذا السؤال العظيم ما يقرب إلى الجنة، ويبعد عن النار، سؤال عظيم، وهو شاق من حيث الامتثال، لكنه يسير على من يسره الله عليه، فإذن نفهم من هذا أن ثم كلفة في أن يمتثل المرء بمقتضى العلم، ولكنه يسير على من يسره الله عليه.
والله -جل وعلا- إذا أقبل العبد يسر عليه الأمر، كما قال -جل وعلا-: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾ فتيسير الله -جل وعلا- أمور الخير للعبد هذا يكون بشئ يبذله العبد: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾.
قال -عليه الصلاة والسلام- هنا: ﴿وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه﴾ ثم فصل فقال: ﴿تعبد الله لا تشرك به شيئا﴾ "تعبد الله" يعني: أن تتوجه بجميع أنواع العبادات إلى الله -جل وعلا- وحده، فإذا دعوت دعوت الله، وإذا سألت سألت الله، وإذا صليت صليت لله، وإذا استغثت استغثت بالله، وإذا أعظمت الرجاء أعظمته بالله.
وكل العبادات القلبية، واللسانية، والعملية بالجوارح كلها تكون لله -جل وعلا- وحده، ولا يكون لمخلوق فيها نصيب، قال: ﴿تعبد الله لا تشرك به شيئا﴾ يعني: كبير الشرك وصغيره وخفيه؛ لأن كلمة شيئا نكرة جاءت في سياق النفي فتعم كل ما كان في معناها.
فلا يشرك بأي شيء: لا يشرك بالهوى، لا يشرك بالمخلوق البشر، لا يشرك بالملائكة، لا يشرك بعظيم، لا يشرك بصالح، لا يشرك بجني، بإنسي، بشجر، بحجر، بأي نوع مما خلق الله -جل وعلا-، وهذا لا شك أنه عظيم، ولكنه يسير على من يسره الله عليه.
فعبادة الله -جل وعلا- وحده دون ما سواه هذه غاية إرسال المرسلين، ونفي الشرك ونبذه والتخلص منه، أيضا مما جاء به المرسلون وأقاموا رسالاتهم عليه، وهذا يتنوع، فما كان من قبيل الشرك الأكبر فظاهر وجوب اجتنابه، وأن من فعله فهو مشرك كافر تارك للدين مع اجتماع الشروط وانتفاع الموانع.
وما هو أقل من ذلك الشرك الأصغر والخفي، ينبغي على العبد أن يسعى في تجنبه -يعني: ينبغي وجوبا- يجب عليه أن يسعى في تجنبه، وأن يجاهد نفسه، والشرك الأصغر يدخل فيه الرياء -يسير الرياء-، والشرك الخفي أيضا يدخل فيها أشياء، والشهوة الخفية، والتسميع والمقاصد، وأن يكون قصد المرء الدنيا فيما يأتي ويذر، وفي الأمور الدينية وطلب العلم وأشباه ذلك مما يراد لله.
فإذن عبادة الله وحده لا شريك له، هذا حاصل -إن شاء الله- عند الموحِّد، لكن يخاف على الموحد من أنواع الشرك الأصغر والخفي، مما يكون من يسير الرياء والتوجه لغير الله في ذلك، فهذه عظيمة:
فإن تنجُ منها تنجُ من ذي عظيمة وإنـي لا أخـالك ناجيـا
يعني: أن هذا الأمر شديد، ويجب أن توطن نفسك على إخراج المخلوق من قلبك، وأن يكون القلب خالصا لله متوجها لله: في تحركه، في سكناته، في أمره، في نهيه، في تصرفك مع أهلك، مع أقاربك، مع الأمور العامة، مع الأمور الخاصة، إذا كان كل شيء لله تم الإخلاص.
قال: ﴿وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت﴾ وهذه الأربعة مر بيانها.
ثم قال: ﴿ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة﴾ الصوم يريد به صوم النفل؛ لأنه قدم صيام رمضان، ثم قال: ﴿ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة﴾ جنة يعني: وقاية يقي العبد مما يسخطه الله -جل وعلا-؛ لأن الصيام فيه تذكير بحقوق الله -جل وعلا- وحقوق عباده، فهو جنة من نفوذ الشيطان إلى العبد.
وكما جاء في الحديث أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: ﴿إذا دخل رمضان -أو قال إذا جاء رمضان- فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين﴾ وقال -عليه الصلاة والسلام- في حق من لم يجد طولا للنكاح: ﴿ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء﴾.
فالصيام جنة -يعني: يكون به الاجتنان؛ لأن الجنة والاجتنان هو: الحاجز الذي يقي. فالغطاء هو الجنة، ومنه قيل للجنين: جنين؛ لأنه في غطاء في استتار، وللمجن مجن لذلك... إلى آخره.
قال: ﴿والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار﴾ الصدقة بأنواعها تطفئ الخطايا؛ الصدقة بالقول وبالعمل، الواجبة والمستحبة، والصدقة بالمال، كل هذه تطفئ الخطايا؛ لأنها حسنات، والله -جل وعلا- قال: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾.
وقد مر معنا قوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن﴾ فإذا فهمت معنى الصدقة العام الشامل الذي ذكرناه لك في درس مضى، فإنه كلما حصلت منك خطية فعليك بكثرة الصدقات، والخطايا لا تحصى؛ لأنه ما من حال تكون فيه إلا ولله -جل وعلا- أمر ونهي في ذلك، وقل من يكون ممتثلا للأمر والنهي في كل حالة.
فإذن لا بد من الإكثار من الصدقات؛ فهي أبواب الخير، قال: ﴿تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار﴾ النار إذا شبت لا يطفئها إلا الماء، فإنك تأتي بالماء فتنطفئ، وهذا مثال الحسنات بعد السيئات.
قال: ﴿وصلاة الرجل في جوف الليل﴾ صلاة الرجل في جوف الليل، يعني: أن يقوم الليل القيام المستحب، وقيام الليل على درجات، وأعلاه أن يكون كقيام المصطفى -ﷺ- الذي جاء في آخر سورة المزمل: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾.
فأفضله ما كان بعد نصف الليل إلى الفجر، وبعده من أول ثلث الليل الآخر إلى الفجر، ثم هكذا مراتب بما يتيسر للعبد، فصلاة الرجل في جوف الليل هذه من أعظم أبواب الخير، وبها يحصل للمرء من النور في قلبه، وحسن تعامله مع ربه، وخشيته له، والتنقب عن دار الدنيا، والرغب في الآخرة ما لا يدخل تحت وصف.
أعاننا الله وإياكم على ذلك، فإن صلاة الرجل والمرأة في جوف الليل هذه يكون معها التدبُّر للقرآن، وحسن منجاة الله، والدمعة التي تسيل من خشية الله -جل وعلا- إذ يكون المرء في ذلك على يقين من أنه إنما قام لله -جل وعلا- وحده، فتعظم الصلة، ويعظم التعلق، ويعظم إخبات القلب، ويعظم الرجاء، وتعظم الرهبة، ويعظم الخوف، ويؤثر القرآن في القلوب تأثيرا عظيما.
فأصحاب الليل هم أهل التقوى، قال -جل وعلا-: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ﴾يعني: في وصف عباده المخبتين المنيبين في سورة الم السجدة: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وهذا من فضل الله -جل وعلا- عليهم.
قال: ﴿ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى، يا رسول الله. قال: رأس الأمر الإسلام﴾ لأن الأمر الذي هو الدين رأسه الإسلام، فإذا صدع الرأس فلا حياة، فإذا ذهب الإسلام فلا حياة للمرء في الدين، فقال: ﴿رأس الأمر الإسلام﴾ وهو الاستسلام لله -جل وعلا- بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله.
قال: ﴿وعموده الصلاة﴾ العمود هو ما يقوم عليه البناء، فإذا كان ثم أشياء يقوم عليها البناء فإن بالصلاة يقوم البناء؛ بهذا قال: ﴿وعموده الصلاة﴾ فعمود الأمر عمود الدين الصلاة، وقال: "عموده"؛ لأن الصلاة هي الركن العملي الذي به يحصل الامتثال لِمُقْتَضَيات الإيمان العملية، يعني: بركن الإيمان الذي هو العملي.
فالإيمان: قول واعتقاد وعمل، والعمل عموده الصلاة، فإذا ذهبت الصلاة فلا قيام في ذلك؛ لهذا قال عمر -رضي الله عنه-: "ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة" وثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ﴿العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر﴾.
قال -عليه الصلاة والسلام- بعد ذلك: ﴿وذروة سنامه الجهاد﴾ ﴿ذروة سنامه﴾ تشبيه للأمر بالجمل، والجمل أعلاه ذروة السنام، والجمل متحرك، والجهاد أيضا يبعث على الانتشار؛ فهو سبب انتشار الإسلام، وامتداد الدخول في الدين، فمثَّله -عليه الصلاة والسلام- -يعني: مثل الدين بالراحلة بالجمل-، وجعل الجهاد من هذه الراحلة ذروة السنام؛ لأنه بارز بين متميز.
فالإسلام تميز من بين الأديان كتميُّز الجمل بذروة سنامه بالجهاد، فالجمل متميز بذروة السنام -يعني: بالسنام بعامة وبذروة السنام- وهذا الإسلام تميز بالجهاد في سبيل الله، والجهاد أنواع، والمراد به هنا -الجهاد- جهاد الأعداء، وهو -كما هو معلوم- على مرتبتين: واجبة، ومستحبة، والواجب أيضا على قسمين: واجب عيني، وواجب كفائي، كما هو معلوم في مكانه من الفقه.
قال: ﴿ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى، يا رسول الله. فأخذ بلسانه وقال: كف عليك هذا﴾ فاللسان هو أعظم الأعضاء جرما؛ لأنه سهل الحركة، كثير الخطايا، فباللسان يحصل الاعتقاد الزائف باللسان يقول المرء الكلمة لا يلقي لها بالا تهوي به في النار سبعين خريفا، باللسان تحصل العداوات.
باللسان تحصل العداوات، وقد قال -جل وعلا -: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾ وباللسان يحصل الوقوع في المؤمنين والإيذاء بغير حق، قد قال -جل وعلا - ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ والإيذاء أعظم أنواعه ما كان باللسان، وقد أوذيت عائشة -رضى الله عنها وأرضاها- باللسان بما بلغ بها المَبْلَغ الذي تعلمون في قصة الإفك، باللسان يحصل نشر الخير وباللسان يحصل نشر الشر.
فإذا حاسب المرء نفسه على لسانه، حصل له ملاك هذا الأمر، وهو أنه ملك عليه دينه، وأما إذا أطلق لسانه في كل شيء، فإنه يضر نفسه ضررا بالغا ولا يملك على نفسه دينه، واللسان قد جاءت الأحاديث الكثيرة في بيان شأنه، ومر معنا في حديث مضى بعض ذلك فقال: ﴿كف عليك هذا﴾ يعني: أمسك، فالكلمة إذا لم تعلم أنها من الحق الذي تؤجر عليه، فاتركها؛ لأنها عليك، وليست لك، قال: ﴿قلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك﴾؛ لأنه لا يتوقع من معاذ، وهو العالم بالحلال والحرام الفقيه أن يسأل هذا السؤال، فقال: ﴿ثكلتك أمك﴾ يعني: استغراب من هذا السؤال الذي لم يتوقع من معاذ أن يسأله فقال: ﴿ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم﴾.
يستنكف كثير من الناس، يعني: من المسلمين أن يعمل عملا محرما من الكبائر بجوارحه، تجد أنه يستنكف أن يأكل الربا، ويستنكف أن يشرب الخمر، يستنكف أن يأتي كبيرة الزنا، يستنكف أن يأتي كبيرة السحر، يستنكف أن يأتي كبيرة قذف المحصنات الغافلات، يستنكف أن يأتي كذا وكذا من الكبائر، ولكنه في كبائر اللسان يقع فيها بلا مبالاة، فيقع في النميمة من دون أن يشعر، فينقل كلاما، وبه يفرق بين المرء وبين أخيه، يقول: فلان سمعته يقول فيك كذا وكذا، وهذه نميمة أن تنقل كلاما يوقع الضغينة والشر في نفس مسلم على أخيه المسلم، وهي كبيرة من الكبائر، وهي الحالقة، ويغتاب، والغيبة محرمة، وهي عند كثير من أهل العلم كبيرة، ومدارها على اللسان، وقد قال -جل وعلا -: ﴿وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾.
قال طائفة من أهل العلم: لما شبه الغيبة بأكل لحم الميت دل على أنها من الكبائر؛ لأن المشبه به كبيرة، فيأخذ المشبه حكم المشبه به، فدل على أنها من الكبائر.
وهكذا في أصناف شتى، فما وجدت العداوات والبغضاء إلا باللسان، وما تفرقت الأمة إلا باللسان قبل الأعمال، فاللسان هو مدار الأمر؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟﴾ يعني: برأس الأمر وعموده وذروة سنامه، ﴿قال: بلى، يا رسول الله، قال: كف عليك هذا﴾ فهذه وصية عظيمة، وسبب التعذيب، تعذيب كثيرين في النار، أنهم لم يكفوا ألسنتهم عما لا يحل لهم؛ فلهذا علينا أن نحذر اللسان أعظم الحذر، فنوصي بهذه الوصية التي أوصى بها المصطفى -عليه الصلاة والسلام- بقوله: ﴿كف عليك هذا﴾.
فأوصي نفسي وإياكم بأن نكف ألسنتنا، إلا عن شيء علمنا حسنه، فإذا خاطبنا إخواننا، فلنخاطبهم بالتي هي أحسن ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ أحسن ما تجد من اللفظ قله لوالدك، لوالدتك، لإخوانك، لأخواتك، لأهلك، لإخوانك المؤمنين؛ لأنه بهذا تبعد مدخل الشيطان في التفريق ما بين أهل الإيمان.
وما حصل، ما حصل في تاريخ الإسلام، وفي زماننا هذا من أمور منكرة إلا بسبب إطلاق اللسان فيما لا يعلم أنه من الحق، وكل يتكلم بما شاء، فحصل ما لم يحمد، نسأل الله -جل وعلا -أن يلهمني وإياكم ما فيه صلاحنا في قلوبنا وألسنتنا وجوارحنا.