الشيخ صالح آل الشيخ
Перевод шарха на русский язык — прослушать
هذا الحديث فيه ذكر دعائم الإسلام ومبانيه العظام، وهي الخمس المعروفة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذه واحدة باعتبار أن كلا من شقيها شهادة، والثاني: إقام الصلاة، والثالث: إيتاء الزكاة، والرابع: الحج، والخامس: صوم رمضان.
وهذا الحديث من الأحاديث التي استُدِلَّ بها على أن أركان الإسلام خمسة، وهذا الاستدلال صحيح؛ لأن قول النبي -ﷺ-: ﴿بني الإسلام على خمس﴾ يدل على أن البناء يقوم على هذه الخمس، وغير هذه الخمس مكملات للبناء، ومعلوم أن البناء يحسن السكنى فيه، ويكون جيدا، وفيه العبد سعيداً إذا كان تاماً.
وكلما كان أتم كان العبد فيه أسعد، والإسلام إذا أتى العبد بمبانيه الخمس هذه فقد حقق الإسلام، وكان له عهد عند الله -جل وعلا- أن يدخله الجنة.
قال في أوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿بني الإسلام على خمس﴾ ولفظ "بُني" يقتضي أن هناك من بناه على هذه الخمس، فلم يذكر الباني على هذه الخمس، والمقصود بالباني: الشرع أو المُشَرِّع.
فالذي بنى الإسلام على هذه الخمس هو الله -جل جلاله- وهو الشارع -جل وعلا- والنبي -ﷺ- مبلغ عن ربه -جل وعلا- وليس هو شارعاً على جهة الاستقلال، وإنما هو -عليه الصلاة والسلام- مبلغ أو مشرِّع على جهة التبليغ.
على الصحيح من أقوال أهل العلم في هذه المسألة فإن النبي -ﷺ- ذكر لنا هنا أن الإسلام بني على هذه الخمس، والمقصود بالإسلام هنا: الدين؛ لأن الدين هو الإسلام كما قال -جل وعلا-: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ والإسلام في قوله: ﴿بني الإسلام على خمس﴾ المقصود منه: الإسلام الخاص الذي بعث به محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام. والإسلام في القرآن وفي السنة له إطلاقان:
الإطلاق الأول: الإسلام العام الذي لا يخرج عنه شيء من مخلوقات الله -جل وعلا- إما اختيارا، وإما اضطرارا، قال -جل وعلا-: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ وقال -جل وعلا-: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ﴾ إلخ الآية، وقال -جل وعلا-: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اْلإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي اْلآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ وقال -جل وعلا- عن إبراهيم -عليه السلام-: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا﴾ وقال -جل وعلا-: ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا﴾.
فالمقصود: أن لفظ الإسلام هذا هو الذي يقبله الله -جل وعلا- من العباد المكلفين ديناً، فآدم عليه السلام مسلم وكل الأنبياء وأتباع الأنبياء والرسل جميعاً على دين الإسلام الذي هو الإسلام العام، وهذا الإسلام العام هو الذي يفسر بأنه: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله، فهذا هو ملة إبراهيم وهو الذي دانَ به جميع الأنبياء والمرسلين ومَن تبعهم.
أما الإسلام الخاص فيراد به: الإسلام الذي بُعِث به محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام- وهو الذي إذا أطلق الإسلام لم يعن به إلا هذا على وجه الخصوص؛ لأن الخاص مقدم على العام في الدلالة؛ ولأن هذا الاسم خصت به هذه الأمة، وخص به النبي -عليه الصلاة والسلام- فجعل دين المصطفى -ﷺ- الإسلام.
فإذًا المقصود هنا بقوله: ﴿بني الإسلام﴾ يعني: الإسلام الذي جاء به نبينا محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام-. أما الإسلام الذي كان عليه الأنبياء والمرسلون فهو من حيث التوحيد والعقيدة كالإسلام الذي بعث به النبي -ﷺ- محمد في أصوله وأكثر فروع الاعتقاد والتوحيد. وأما من حيث الشريعة فإنه يختلف؛ فإن شريعة الإسلام غير شريعة اليهود غير شريعة عيسى -عليه السلام- غير شريعة موسى … إلى آخر الشرائع.
وقد جاء في الصحيح أن النبي -ﷺ- قال: ﴿الأنبياء أخوة لعلات الدين واحد والشرائع شتى﴾ فقوله هنا -عليه الصلاة والسلام-: ﴿بني الإسلام﴾ يعني: الذي جاء به محمد -عليه الصلاة والسلام- فلا يتصور من هذا أنه يعم ما كان عليه الأنبياء من قبل- فالأنبياء ليس عندهم هذه الشريعة من جهة إقامة الصلاة على هذا النحو، أو إيتاء الزكاة على هذا النحو أو صيام رمضان... إلخ، فهذا بقيوده مما اختصت به هذه الأمة.
قال: ﴿على خمس: شهادةِ أن لا إله إلا الله﴾ ويجوز في شهادةِ ونظائرها أن تكون مجرورةً على أنها بدل بعض من كل، يعني: تقول: على خمسٍ شهادةِ، فخمس شُمول، وشهادة بعض هذا الشمول، فتكون بدل بعض من كل.
ويجوز أن تستأنفها، فتقول: على خمسٍ: شهادةُ أن لا إله إلا الله على القطع كما قال -جل وعلا -: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ﴾ رجلين أحدُهما، وهذا شائع كثير، وإذا ذكرت نظائرها فيجوز فيها الوجهان: الجرّ على البدلية، والرفع على القطع والاستئناف.
﴿شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله﴾ الشهادة مأخوذة من شهد يشهد شهودًا وشهادة إذا علم ذلك بقلبه فأخبر به بلسانه وأعلم به غيره، ولا تكون شهادة حتى يجتمع فيها هذه الثلاث: أن يعتقد، ويعلم بقلبه، وأن يتلفظ … يقول بلسانه مُعْلِما بها الغير، طبعاً إذا لم يكن ثمة عذر شرعي عن الإعلام -إعلام الغير- كالإكراه أو اختفاء أو ما أشبه ذلك مما تجوز فيه التَّقِيَّة.
فإذًا قوله: ﴿شهادة أن لا إله إلا الله﴾ يعني: العلم بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والنطق بذلك والإعلام به. وكل شهادة هي بهذا المعنى، والشاهد عند القاضي لا يُسمى شاهداً حتى يكون علِم ثم نطق … تكلم بذلك فأعلَمَ به القاضي؛ سمي شاهداً لأجل ذلك. وقد يتوسع فيقال في المعاني: إنها شواهد لأجل تنزيلها في النهاية منزلة الشهادة الأصلية.
﴿شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله﴾ أنْ لا إله إلا الله "أنْ" هذه هي التفسيرية، وضابطها أنها تأتي بعد كلمة فيها معنى القول دون حروف القول. وقد يجوز أن تكون مخففة من الثقيلة أيضا، يعني: شهادة أنه لا إله إلا الله.
"لا إله إلا الله": هي كلمة التوحيد، و"لا إله": نفي، و"إلا الله": إثبات، والمنفي استحقاق أحد العبادة؛ لأن الإله هو المألوه … هو المعبود، وإلا الله: هذا إثبات، يعني: إثبات استحقاق العبادة لله -جل وعلا- دونما سواه، ونفي هذا الاستحقاق عما سواه. فإذا قلنا: كلمة التوحيد نفي وإثبات، فهذا معناه أنها تنفي استحقاق العبادة عما سوى الله، وتثبت استحقاق العبادة لله -جل وعلا- وحده.
فمن شهد أن لا إله إلا الله يكون اعتقد وأخبر بأنه لا أحد يستحق شيئا من أنواع العبادة إلا الله وحده لا شريك له. وفى ضمن ذلك أن مَن توجه بالعبادة إلى غيره فهو ظالم متعدٍّ باغٍ على حق الله -جل جلاله.
﴿وأن محمداً رسول الله﴾ يعني: أن يعتقد ويخبر ويعلن بأن محمداً هو محمد بن عبد الله القرشي المكي أنه رسول من عند الله حقا، وأنه نزَل عليه الوحي؛ فأخبره بما تكلم الله -عز وجل- به، وأنه إنما يبلغ عن الله -جل وعلا- وهذا واضح من كلمة رسول فإن الرسول مبلغ.
والرسل البشريون مبلغون … من لفظ الرسالة، كما أن الملائكة رسل من لفظ الملائكة، فالرسول يأخذ من الله -جل وعلا- ويبلغ الناس ما أخذه عن الله -جل وعلا.
معلوم أن الرسل من البشر لم يجعل الله لهم -عليهم الصلاة والسلام- لم يجعل الله لهم خاصية أن يأخذوا الوحي منه مباشرة، وأن يسمعوا الكلام منه، يعني: في عامة الوحي، وقد يسمعون بما أذِنَ الله -جل وعلا- لهم في بعض الرسل. فالمَلَك رسول فيلقي الخبر على هذا الرسول، فاعتقاداً أن محمدا رسول الله اعتقاد أنه مُبَلَّغٌ ومُبَلِّغٌ، هو رسول من الله -جل وعلا- لم يكلمه الله -جل وعلا- بكل الوحي مباشرة، وإنما أوحى إليه عن طريق جبريل -عليه السلام- واعتقاد -أيضاً- أنه خاتم المرسلين، وأن محمدا رسول الله أنه خاتم الرسل -عليه الصلاة والسلام.
وهذا معنى الشهادة مَن اعتقد أنه موحَى إليه من الله، وأنه رسول حق وأنه خاتم الرسل، تمت له هذه الشهادة.
وهذه الشهادة بأن محمد رسول الله لها مقتضى، وهذا المقتضى: هو طاعته -عليه الصلاة والسلام- فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهي وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرعه رسوله -ﷺ.
قال:﴿وإقام الصلاة﴾ التعبير عن الصلاة بلفظ "إقام الصلاة" هذا لأجل مجيئها في القرآن هكذا: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ﴾ … ونحو ذلك من الآيات.
ففي القرآن أن الصلاة تُقام، ومعنى كونها تقام يعني: أن تكون على صفة … تكون قائمة بإيمان العبد، وهذا هو معنى قول الله -جل وعلا-: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾. فمن لم يقم الصلاة لم تَنْهَهُ الصلاة عن الفحشاء والمُنكر.
﴿وإيتاء الزكاة﴾ أيضاً لفظ الإيتاء المقصود به … أو قيل فيه: إيتاء؛ لأجل مجيئه في القرآن.
﴿وحج البيت﴾ كذلك "وصوم رمضان" كذلك، يعني: اختيرت هذه الألفاظ بلَّغها النبي -ﷺ- هكذا لموافقتها لما جاء في القرآن فيها، فلو قيل في الزكاة: إعطاء الزكاة لجاز، ولو قيل في الصلاة: تأْدِيَة الصلاة لجاز ذلك ولكن إتباع ما جاء في القرآن أولى في هذا الأمر. هذا من جهة ألفاظ الحديث.
هذا الحديث دل على أن هذه الخمسَ أركانٌ، وقد ذكرت لك البارحة أن التعبير عن هذه الخمس بالأركان إنما هو مصطلح حادث عند الفقهاء؛ لأنهم عرَّفوا الركن بأنه: ما تقوم عليه ماهية الشيء، وأن الشيء لا يُتصور أن يقوم بلا ركنه.
فمثلاً يقولون: البيع أركانه … ما تقوم عليه ماهية البيع … لا يمكن أن تتصور بيعاً موجوداً إلا أن يكون هناك: بائع، ومشتري، وهناك سلعة تُباع وتُشترى، يعني: سلعة يقوم عليها ذلك، وهناك صيغة … يعني: واحد يقول: خذ وهات، أو بِعْتُ، والثاني يقول: اشتريتُ، أو ما أشبه ذلك.
فإذًا الأركان كيف نستنتجها؟ ما تقوم عليها حقيقة الشيء … تتصور شيئا … كيف يوجد؟ دعائمُ وجوده هي الأركان.
النكاح -مثلاً- أركان النكاح ما هي؟ ما يقوم عليها النكاح، ما يُتصور أن يوجد نكاح إلا بزوجين، أليس كذلك؟ وبصيغة. زوج يعني: رجل وامرأة، وصيغة. هذا حقيقته -يعني من حيث هو.
يأتي هناك أشياء شرعية لتصحيح هذه الأركان، يقال: يشترط في الزوج المواصفات كذا وكذا، يشترط في المرأة أن يعقد لها وليها، يشترط في الصيغة أن تكون كذا وكذا … إلى آخره، فغيرُها تكون شروطاً.
فإذًا الركن عندهم: ما تقوم عليه ماهية الشيء أو حقيقة الشيء، فهذه الخمس سميت أركانا، أو قيل عنها: أركان الإسلام.
وهذه التسمية يُشكِل عليها … أو هذا الإطلاق أنها أركان الإسلام يشكل عليها أن أهل السُّنة قالوا: إن من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأدى الصلاة المفروضة وترك بقية الأركان تهاوناً وكسلاً فإنه يطلق عليه لفظ المسلم، ولا يُسلَب عنه اسم الإسلام بتركه ثلاثة أركان تهاوناً وكسلاً.
وهذا متّفق مع قولهم في الإيمان : الإيمان قول وعمل واعتقاد، ويعنون بالعمل جنس العمل، ويمثله في أركان الإسلام الصلاة.
فإذًا نقول: مرادهم بهذا ما دلت عليه الأدلة الشرعية، ودلت عليه قواعد أهل السنة من أن هذه الأركان ليس معنى كونها أركاناً أنه إن فقد منها ركن لم تقم حقيقة الإسلام، كما أنه إذا فقد من البيع ركن لم تقم حقيقة البيع، لا يتصور أن هناك بيع بلا بائع، أليس كذلك؟ ولا نكاح بلا زوج؟
أما الإسلام فيتصور أن يوجد الإسلام شرعاً بلا أداء للحج، يعني: لو تُرك الحج تهاوناً؛ فإنه يقال عنه: مسلم، أو ترك تأدية الزكاة تهاوناً لا جحدًا؛ فإنه يقال عنه: مسلم، وهكذا في صيام رمضان.
الصلاة اختلفوا فيها. اختلف فيها أهل السنة: هل ترْكُ الصلاة تهاوناً وكسلاً يَسلُب عنه اسمَ الإسلام أو لا؟ فقالت طائفة من أهل السنة: إنَّ تَرْكَ الصلاة تهاوناً وكسلاً لا يسلب عن المسلم الذي شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله … لا يسلب عنه اسم الإسلام، وإنما يكون على كبيرة، وهو في كفر أصغر، وهذا قول طائفة قليلة من علماء أهل السنة.
وقال جمهور أهل السنة: إنَّ تَرْكَ الصلاة تهاوناً وكسلاً كُفْرٌ، وأنه مَن ترَكَ الصلاة فليس له إسلام، يعني: ولو أتى بتأدية الزكاة وصيام رمضان والحج، وهذا هو الصحيح لدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك.
والصحابة أجمعوا على أن الأعمال جميعاً المأمور بها تركُها ليس بكفر إلا الصلاة، كما قال شقيق بن عبد الله فيما رواه الترمذي وغيره: ﴿كانوا -أي الصحابة- لا يرون من الأعمال شيئا تركُه كُفر﴾.
والصلاة يُجمع على أن تركَها كفر، وهو الذي دل عليه قول الله -جل وعلا-: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾ إلخ الآيات وكذلك قول النبي -ﷺ- في صحيح مسلم: ﴿بين الرجل وبين الشرك -أو قال: الكفر- ترك الصلاة﴾ وفى السنن الأربعة وفى المُسنَد وفي غيرها بإسناد صحيح من حديث بريدة -رضي الله عنه- مرفوعا: ﴿العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر﴾ وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿بين الرجل وبين الشرك -أو قال: الكفر- ترك الصلاة﴾ دلنا على أن ترك الصلاة كفرٌ أكبر.
وذلك أن القاعدة أن لفظ الكفر إذا جاء في النصوص فإنه يأتي على وجهين:
الوجه الأول: يأتي مُعرَّفًا، والوجه الثاني يأتي منكراً بلا تعريف، فإذا أتى منكراً فإنه يكون معناه الكفر الأصغر، وإذا أتى معرفا فتكون (الْ) فيه إما للعهد: عهد الكفر الأكبر … العهد الشرعي في ذلك، وإما أن تكون للاستغراق، يعني: استغراق أنواع الكفر.
مثلاً- في الكفر المنكَّر قال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿ثنتان في الناس هما بهم كُفْرٌ: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت﴾ ﴿ثنتان في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن﴾ هذا حديث آخر.
قال أيضاً -عليه الصلاة والسلام-: ﴿لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم أعناق بعض﴾ وأشباه ذلك مِن ذكر كلمة الكفر مُنَكَّرَة (كفر).
فإذا قيل في الكفر: كفر، فهذا الأصل فيه أنه كفر أصغر؛ لأن الشارع جعله منكراً في الإثبات، وإذا كان منكرا في الإثبات فإنه لا يعم، كما هو معلوم في قواعد الأصول، أما إذا أتى معرَّفاً فإن المقصود به الكفر الأكبر.
فإذًا نقول: الصحيح أن ترك الصلاة تهاوناً وكسلاً كفر أكبر، لكن كفره باطن وليس كفره ظاهرا، وليس بباطن وظاهر جميعاً حتى يثبت عند القاضي؛ لأنه قد يكون له شبهة من خلاف أو فهم أو نحو ذلك.
ولهذا لا يحكم بردَّةٍ من ترك الصلاة بمجرد تركه، وإنما يطلق على الجنس أن مَن ترك الصلاة فهو كافر الكفر الأكبر، وأما المعيَّن فإن الحكم عليه بالكفر وتنزيل أحكام الكفر كلها عليه هذا لا بد فيه من حكم قاضٍ يدرأ عنه الشبهة ويستتيبه حتى يؤدي ذلك.
وهذا هو المعتمد عند جمهور أهل السنة -كما ذكرت لك-، وغير الصلاة الأمر على عكس ما ذكرت.
جمهور أهل السنة على أن مَن ترك الزكاة تهاوناً وكسلاً أو من ترك الصيام أو من ترك الحج فإنه لا يكفر بتركها تهاوناً وكسلاً؛ لأنه ما دل الدليل على ذلك.
وقالت طائفة من أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم: إن من ترك بعض هذه أنه كافر على خلاف بينهم في ذلك.
فعمر -رضي الله عنه- ظاهر قوله: أن ترك الحج مع القدرة عليه ووجود الاستطاعة المالية والبدنية أنه كفر، حيث قال لعماله في الأمصار: أن يكتبوا له مَن وجد سعة من المسلمين ثم لم يحجوا أن تضرب عليهم الجزية، قال: ما هم بمسلمين … ما هم بمسلمين.
وكَفَّر -أيضاً- بعض الصحابة كابن مسعود مَن ترك الزكاة تهاوناً وكسلاً، وهذا خلاف ما عليه الجمهور -جمهور الصحابة- ومن بعدهم في أن من تركها بلا امتناع وإنما ترك الزكاة أو ترك الصيام أو ترك الحج تهاوناً منه أنه لا يكفر، ومنهم من قال بكفره يعني: على عكس مسألة الصلاة.
فنقول: إذًا مسألة الصلاة الجمهور -جمهور أهل السنة- على تكفير من تركها تهاوناً وكسلاً.
وهناك من أهل السنة من لم يكفِّر من تركها تهاوناً وكسلاً، وبقية الثلاثة الأركان العملية جمهور أهل السنة على أنه لا يكفر وهناك من كفَّره.
هذه الأركان منقسمة إلى ثلاثة أقسام، وخصت بالذكر لعظم مقامها في هذه الشريعة وعظم أثرها على العبد.
فالشهادتان نصيب القلب والإيمان، فبهما يتحقق الإيمان الذي هو أصل الاعتقاد والعمل، والصلاة عبادة بدنية محضة، والزكاة عبادة مالية محضة، والحج مركب من العبادة المالية والعبادة البدنية، وصوم رمضان عبادة بدنية محضة.
لهذا قال طائفة من المحققين من أهل العلم: إنه جاء في هذه الرواية تقديم الحج على الصوم فقال: ﴿وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان﴾ وصوم رمضان في بقية الروايات قدم على الحج فقال: ﴿وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً﴾.
وسبب تقديم الحج على الصيام: أن الأمر على ما ذكرت لك من أن الصوم من حيث جنس دلالته مُمَثَّلٌ في الصلاة، فالصلاة حق البدن المحض يعني: عبادة وجبت وتعلقت بالبدن محضة، والزكاة عبادة تعلقت بالمال محضة، والحج عبادة تركبت من المال والبدن فصارت قسماً ثالثاً مستقلاً، وأما الصوم فهو من حيث هذا الاعتبار مكرر للصلاة، وعلى هذا الفهم بنى البخاري -رحمه الله تعالى- صحيحه فجعل كتاب الحج مقدما على كتاب الصوم؛ لأجل أن الحج عبادة مركبة من المال والبدن؛ فهي جنس من حيث هذا الاعتبار جديد، والصيام جنس سبق مثله وهو إقام الصلاة.
الشيخ ابن العثيمين
﴿عَنْ أَبِيْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ﴾ هذه كنية عبد الله بن عمر، هذا اسم علم.
والكنية: كل ما صدر بأبٍ، أو أم، أو أخ، أو خالٍ، أو ما أشبه ذلك. والعلم: اسم يعين المسمى مطلقاً.
﴿رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا﴾ قال العلماء: إذا كان الصحابي وأبوه مسلمين فقل: رضي الله عنهما، وإذا كان الصحابي مسلماً وأبوه كافراً فقل: رضي الله عنه.
﴿قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: بُنِيَ الإِسْلامُ﴾ الذي بناه هو الله عزّ وجل، وأبهم الفاعل للعلم به، كما أُبهم الفاعل في قوله تعالى: ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً﴾ (النساء: من الآية 28) فلم يبين من الخالق، لكنه معلوم، فما عُلم شرعاً أو قدراً جاز أن يبنى فعله لما لم يسم فاعله.
﴿عَلَى خَمْسٍ﴾ أي على خمسِ دعائم.
﴿ شَهَادَة أنْ لا إِلَهَ إِلاَّ الله وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُوْلُ اللهِ﴾ (شهادة) يجوز فيها وجهان في الإعراب:
الأول: الضم (شهادةُ) بناء على أنها خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هي شهادة.
والثاني: الكسر (شهادةِ) على أنها بدل من قوله: خمس، وهذا البدل بدل بعض من كل.
وقد سبق الكلام على الشهادتين في شرح حديث جبريل عليه السلام
﴿وَإِقَامِ الصّلاةِ، وَإِيْتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ البّيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَان﴾ وهذا سبق الكلام عليه في شرح حديث جبريل عليه السلام.
لكن في هذا الحديث إشكال وهو:تقديم الحج على الصوم.
والجواب عليه أن يقال: هذا ترتيب ذكري، والترتيب الذكري يجوز فيه أن يقدم المؤخر كقول الشاعر:
ثم ساد من بعد ذلك جده ** إن من ساد ثم ساد أبوه
فالترتيب هنا ترتيب ذكري.
وقد سبق في حديث جبريل تقديم الصيام على الحج، ونقول في شرح الحديث:
إن الله عزّ وجل حكيم، حيث بنى الإسلام العظيم علىهذه الدعائم الخمس من أجل امتحان العباد.
- الشهادتان: نطق باللسان، واعتقاد بالجنان.
- إقام الصلاة: عمل بدني يشتمل على قول وفعل، وما قد يجب من المال لإكمال الصلاة فإنه لا يعد منها، وإلا فمن المعلوم أنه يجب الوضوء للصلاة، وإذا لم تجد ماءً فاشتر ماءً بثمن ، ومن المعلوم أيضاً أنك ستستر العورة في الصلاة وتشتري السترة بمال لكن هذا خارج عن العبادة، ولذلك نقول:إن الصلاة عبادة بدنية محضة.
- إيتاء الزكاة: عبادة مالية لا بدنية، وكون الغني يجب أن يوصلها للفقير، وربما يمشي وربما يستأجر سيارة، هذا أمر خارج عن العبادة، ولهذا لو كان الفقير عند الغني أعطاه الدراهم مباشرة بدون أي عمل، ولا نقول: اذهب أيها التاجر إلى أقصى البلد ثم ارجع.
- صوم رمضان: عبادة بدنية لكن من نوع آخر، الصلاة بدنية لكنها فعل، والصيام بدني لكنه كف وترك، لأنه قد يسهل على الإنسان أن يفعل، ويصعب عليه أن يكف، وقد يسهل عليه الكف ويصعب عليه الفعل، فنوعت العبادات ليكمل بذلك الامتحان، فسبحان الله العظيم.
- حج البيت: هل يتوقف الحج على بذل المال؟
فيه تفصيل: إذا كان الإنسان يحتاج إلى شد رحل احتاج إلى المال، لكن هذا خارج العبادة، هذا من جنس الوضوء للصلاة.
وإذا قدرنا أن الرجل في مكة فهل يحتاج إلى بذل المال؟
الجواب: إذا كان يستطيع أن يمشي على رجليه فلا يحتاج إلى بذل المال، والنفقة من الأكل والشرب لابد منها حتى وإن لم يحج.
لذلك الحج - عندي- متردد بين أن يكون عبادة مالية، أوعبادة بدنية مالية، وعلىكل حال إن كان عبادة مالية بدنية فهو امتحان.
فصارت هذه الحكمة العظيمة في أركان الإسلام أنها:
بذل المحبوب، والكف عن المحبوب، وإجهاد البدن، كل هذا امتحان.
بذل المحبوب: في الزكاة ، لأن المال محبوب إلى الإنسان، كما قال الله عزّ وجل: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات: 8] وقال: ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً﴾ (الفجر: 20)
والكف عن المحبوب: في الصيام كما جاء في الحديث القدسي: ﴿يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي﴾.
فتنوعت هذه الدعائم الخمس على هذه الوجوه تكميلاً للامتحان، لأن بعض الناس يسهل عليه أن يصوم، ولكن لا يسهل عليه أن يبذل قرشاً واحداً، وبعض الناس يسهل عليه أن يصلي، ولكن يصعب عليه أن يصوم.
ويذكر أن بعض الملوك وجبت عليه كفارةفيها تحرير رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً. فاجتهد بعض العلماء وقال لهذا الملك: يجب عليك أن تصوم شهرين متتابعين ولا تعتق، فقيل للمفتي في ذلك فقال: لأن الشهرين أشق على هذا الملك من إعتاق رقبة، والمقصود بالكفارة محو ما حصل من إثم الذنب، وأن لا يعود.
فنقول: هذا استحسان لكنه ليس بحسن وفي غير محله لأنه مخالف للشرع، فألزمه بما أوجب الله عليه وحسابه على الله عزّ وجل، وليس إليك.
الشيخ صالح آل الشيخ
هذا الحديث فيه ذكر دعائم الإسلام ومبانيه العظام، وهي الخمس المعروفة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذه واحدة باعتبار أن كلا من شقيها شهادة، والثاني: إقام الصلاة، والثالث: إيتاء الزكاة، والرابع: الحج، والخامس: صوم رمضان.
وهذا الحديث من الأحاديث التي استُدِلَّ بها على أن أركان الإسلام خمسة، وهذا الاستدلال صحيح؛ لأن قول النبي -ﷺ-: ﴿بني الإسلام على خمس﴾ يدل على أن البناء يقوم على هذه الخمس، وغير هذه الخمس مكملات للبناء، ومعلوم أن البناء يحسن السكنى فيه، ويكون جيدا، وفيه العبد سعيداً إذا كان تاماً.
وكلما كان أتم كان العبد فيه أسعد، والإسلام إذا أتى العبد بمبانيه الخمس هذه فقد حقق الإسلام، وكان له عهد عند الله -جل وعلا- أن يدخله الجنة.
قال في أوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿بني الإسلام على خمس﴾ ولفظ "بُني" يقتضي أن هناك من بناه على هذه الخمس، فلم يذكر الباني على هذه الخمس، والمقصود بالباني: الشرع أو المُشَرِّع.
فالذي بنى الإسلام على هذه الخمس هو الله -جل جلاله- وهو الشارع -جل وعلا- والنبي -ﷺ- مبلغ عن ربه -جل وعلا- وليس هو شارعاً على جهة الاستقلال، وإنما هو -عليه الصلاة والسلام- مبلغ أو مشرِّع على جهة التبليغ.
على الصحيح من أقوال أهل العلم في هذه المسألة فإن النبي -ﷺ- ذكر لنا هنا أن الإسلام بني على هذه الخمس، والمقصود بالإسلام هنا: الدين؛ لأن الدين هو الإسلام كما قال -جل وعلا-: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ والإسلام في قوله: ﴿بني الإسلام على خمس﴾ المقصود منه: الإسلام الخاص الذي بعث به محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام. والإسلام في القرآن وفي السنة له إطلاقان:
الإطلاق الأول: الإسلام العام الذي لا يخرج عنه شيء من مخلوقات الله -جل وعلا- إما اختيارا، وإما اضطرارا، قال -جل وعلا-: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ وقال -جل وعلا-: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ﴾ إلخ الآية، وقال -جل وعلا-: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اْلإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي اْلآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ وقال -جل وعلا- عن إبراهيم -عليه السلام-: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا﴾ وقال -جل وعلا-: ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا﴾.
فالمقصود: أن لفظ الإسلام هذا هو الذي يقبله الله -جل وعلا- من العباد المكلفين ديناً، فآدم عليه السلام مسلم وكل الأنبياء وأتباع الأنبياء والرسل جميعاً على دين الإسلام الذي هو الإسلام العام، وهذا الإسلام العام هو الذي يفسر بأنه: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله، فهذا هو ملة إبراهيم وهو الذي دانَ به جميع الأنبياء والمرسلين ومَن تبعهم.
أما الإسلام الخاص فيراد به: الإسلام الذي بُعِث به محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام- وهو الذي إذا أطلق الإسلام لم يعن به إلا هذا على وجه الخصوص؛ لأن الخاص مقدم على العام في الدلالة؛ ولأن هذا الاسم خصت به هذه الأمة، وخص به النبي -عليه الصلاة والسلام- فجعل دين المصطفى -ﷺ- الإسلام.
فإذًا المقصود هنا بقوله: ﴿بني الإسلام﴾ يعني: الإسلام الذي جاء به نبينا محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام-. أما الإسلام الذي كان عليه الأنبياء والمرسلون فهو من حيث التوحيد والعقيدة كالإسلام الذي بعث به النبي -ﷺ- محمد في أصوله وأكثر فروع الاعتقاد والتوحيد. وأما من حيث الشريعة فإنه يختلف؛ فإن شريعة الإسلام غير شريعة اليهود غير شريعة عيسى -عليه السلام- غير شريعة موسى … إلى آخر الشرائع.
وقد جاء في الصحيح أن النبي -ﷺ- قال: ﴿الأنبياء أخوة لعلات الدين واحد والشرائع شتى﴾ فقوله هنا -عليه الصلاة والسلام-: ﴿بني الإسلام﴾ يعني: الذي جاء به محمد -عليه الصلاة والسلام- فلا يتصور من هذا أنه يعم ما كان عليه الأنبياء من قبل- فالأنبياء ليس عندهم هذه الشريعة من جهة إقامة الصلاة على هذا النحو، أو إيتاء الزكاة على هذا النحو أو صيام رمضان... إلخ، فهذا بقيوده مما اختصت به هذه الأمة.
قال: ﴿على خمس: شهادةِ أن لا إله إلا الله﴾ ويجوز في شهادةِ ونظائرها أن تكون مجرورةً على أنها بدل بعض من كل، يعني: تقول: على خمسٍ شهادةِ، فخمس شُمول، وشهادة بعض هذا الشمول، فتكون بدل بعض من كل.
ويجوز أن تستأنفها، فتقول: على خمسٍ: شهادةُ أن لا إله إلا الله على القطع كما قال -جل وعلا -: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ﴾ رجلين أحدُهما، وهذا شائع كثير، وإذا ذكرت نظائرها فيجوز فيها الوجهان: الجرّ على البدلية، والرفع على القطع والاستئناف.
﴿شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله﴾ الشهادة مأخوذة من شهد يشهد شهودًا وشهادة إذا علم ذلك بقلبه فأخبر به بلسانه وأعلم به غيره، ولا تكون شهادة حتى يجتمع فيها هذه الثلاث: أن يعتقد، ويعلم بقلبه، وأن يتلفظ … يقول بلسانه مُعْلِما بها الغير، طبعاً إذا لم يكن ثمة عذر شرعي عن الإعلام -إعلام الغير- كالإكراه أو اختفاء أو ما أشبه ذلك مما تجوز فيه التَّقِيَّة.
فإذًا قوله: ﴿شهادة أن لا إله إلا الله﴾ يعني: العلم بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والنطق بذلك والإعلام به. وكل شهادة هي بهذا المعنى، والشاهد عند القاضي لا يُسمى شاهداً حتى يكون علِم ثم نطق … تكلم بذلك فأعلَمَ به القاضي؛ سمي شاهداً لأجل ذلك. وقد يتوسع فيقال في المعاني: إنها شواهد لأجل تنزيلها في النهاية منزلة الشهادة الأصلية.
﴿شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله﴾ أنْ لا إله إلا الله "أنْ" هذه هي التفسيرية، وضابطها أنها تأتي بعد كلمة فيها معنى القول دون حروف القول. وقد يجوز أن تكون مخففة من الثقيلة أيضا، يعني: شهادة أنه لا إله إلا الله.
"لا إله إلا الله": هي كلمة التوحيد، و"لا إله": نفي، و"إلا الله": إثبات، والمنفي استحقاق أحد العبادة؛ لأن الإله هو المألوه … هو المعبود، وإلا الله: هذا إثبات، يعني: إثبات استحقاق العبادة لله -جل وعلا- دونما سواه، ونفي هذا الاستحقاق عما سواه. فإذا قلنا: كلمة التوحيد نفي وإثبات، فهذا معناه أنها تنفي استحقاق العبادة عما سوى الله، وتثبت استحقاق العبادة لله -جل وعلا- وحده.
فمن شهد أن لا إله إلا الله يكون اعتقد وأخبر بأنه لا أحد يستحق شيئا من أنواع العبادة إلا الله وحده لا شريك له. وفى ضمن ذلك أن مَن توجه بالعبادة إلى غيره فهو ظالم متعدٍّ باغٍ على حق الله -جل جلاله.
﴿وأن محمداً رسول الله﴾ يعني: أن يعتقد ويخبر ويعلن بأن محمداً هو محمد بن عبد الله القرشي المكي أنه رسول من عند الله حقا، وأنه نزَل عليه الوحي؛ فأخبره بما تكلم الله -عز وجل- به، وأنه إنما يبلغ عن الله -جل وعلا- وهذا واضح من كلمة رسول فإن الرسول مبلغ.
والرسل البشريون مبلغون … من لفظ الرسالة، كما أن الملائكة رسل من لفظ الملائكة، فالرسول يأخذ من الله -جل وعلا- ويبلغ الناس ما أخذه عن الله -جل وعلا.
معلوم أن الرسل من البشر لم يجعل الله لهم -عليهم الصلاة والسلام- لم يجعل الله لهم خاصية أن يأخذوا الوحي منه مباشرة، وأن يسمعوا الكلام منه، يعني: في عامة الوحي، وقد يسمعون بما أذِنَ الله -جل وعلا- لهم في بعض الرسل. فالمَلَك رسول فيلقي الخبر على هذا الرسول، فاعتقاداً أن محمدا رسول الله اعتقاد أنه مُبَلَّغٌ ومُبَلِّغٌ، هو رسول من الله -جل وعلا- لم يكلمه الله -جل وعلا- بكل الوحي مباشرة، وإنما أوحى إليه عن طريق جبريل -عليه السلام- واعتقاد -أيضاً- أنه خاتم المرسلين، وأن محمدا رسول الله أنه خاتم الرسل -عليه الصلاة والسلام.
وهذا معنى الشهادة مَن اعتقد أنه موحَى إليه من الله، وأنه رسول حق وأنه خاتم الرسل، تمت له هذه الشهادة.
وهذه الشهادة بأن محمد رسول الله لها مقتضى، وهذا المقتضى: هو طاعته -عليه الصلاة والسلام- فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهي وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرعه رسوله -ﷺ.
قال:﴿وإقام الصلاة﴾ التعبير عن الصلاة بلفظ "إقام الصلاة" هذا لأجل مجيئها في القرآن هكذا: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ﴾ … ونحو ذلك من الآيات.
ففي القرآن أن الصلاة تُقام، ومعنى كونها تقام يعني: أن تكون على صفة … تكون قائمة بإيمان العبد، وهذا هو معنى قول الله -جل وعلا-: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾. فمن لم يقم الصلاة لم تَنْهَهُ الصلاة عن الفحشاء والمُنكر.
﴿وإيتاء الزكاة﴾ أيضاً لفظ الإيتاء المقصود به … أو قيل فيه: إيتاء؛ لأجل مجيئه في القرآن.
﴿وحج البيت﴾ كذلك "وصوم رمضان" كذلك، يعني: اختيرت هذه الألفاظ بلَّغها النبي -ﷺ- هكذا لموافقتها لما جاء في القرآن فيها، فلو قيل في الزكاة: إعطاء الزكاة لجاز، ولو قيل في الصلاة: تأْدِيَة الصلاة لجاز ذلك ولكن إتباع ما جاء في القرآن أولى في هذا الأمر. هذا من جهة ألفاظ الحديث.
هذا الحديث دل على أن هذه الخمسَ أركانٌ، وقد ذكرت لك البارحة أن التعبير عن هذه الخمس بالأركان إنما هو مصطلح حادث عند الفقهاء؛ لأنهم عرَّفوا الركن بأنه: ما تقوم عليه ماهية الشيء، وأن الشيء لا يُتصور أن يقوم بلا ركنه.
فمثلاً يقولون: البيع أركانه … ما تقوم عليه ماهية البيع … لا يمكن أن تتصور بيعاً موجوداً إلا أن يكون هناك: بائع، ومشتري، وهناك سلعة تُباع وتُشترى، يعني: سلعة يقوم عليها ذلك، وهناك صيغة … يعني: واحد يقول: خذ وهات، أو بِعْتُ، والثاني يقول: اشتريتُ، أو ما أشبه ذلك.
فإذًا الأركان كيف نستنتجها؟ ما تقوم عليها حقيقة الشيء … تتصور شيئا … كيف يوجد؟ دعائمُ وجوده هي الأركان.
النكاح -مثلاً- أركان النكاح ما هي؟ ما يقوم عليها النكاح، ما يُتصور أن يوجد نكاح إلا بزوجين، أليس كذلك؟ وبصيغة. زوج يعني: رجل وامرأة، وصيغة. هذا حقيقته -يعني من حيث هو.
يأتي هناك أشياء شرعية لتصحيح هذه الأركان، يقال: يشترط في الزوج المواصفات كذا وكذا، يشترط في المرأة أن يعقد لها وليها، يشترط في الصيغة أن تكون كذا وكذا … إلى آخره، فغيرُها تكون شروطاً.
فإذًا الركن عندهم: ما تقوم عليه ماهية الشيء أو حقيقة الشيء، فهذه الخمس سميت أركانا، أو قيل عنها: أركان الإسلام.
وهذه التسمية يُشكِل عليها … أو هذا الإطلاق أنها أركان الإسلام يشكل عليها أن أهل السُّنة قالوا: إن من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأدى الصلاة المفروضة وترك بقية الأركان تهاوناً وكسلاً فإنه يطلق عليه لفظ المسلم، ولا يُسلَب عنه اسم الإسلام بتركه ثلاثة أركان تهاوناً وكسلاً.
وهذا متّفق مع قولهم في الإيمان : الإيمان قول وعمل واعتقاد، ويعنون بالعمل جنس العمل، ويمثله في أركان الإسلام الصلاة.
فإذًا نقول: مرادهم بهذا ما دلت عليه الأدلة الشرعية، ودلت عليه قواعد أهل السنة من أن هذه الأركان ليس معنى كونها أركاناً أنه إن فقد منها ركن لم تقم حقيقة الإسلام، كما أنه إذا فقد من البيع ركن لم تقم حقيقة البيع، لا يتصور أن هناك بيع بلا بائع، أليس كذلك؟ ولا نكاح بلا زوج؟
أما الإسلام فيتصور أن يوجد الإسلام شرعاً بلا أداء للحج، يعني: لو تُرك الحج تهاوناً؛ فإنه يقال عنه: مسلم، أو ترك تأدية الزكاة تهاوناً لا جحدًا؛ فإنه يقال عنه: مسلم، وهكذا في صيام رمضان.
الصلاة اختلفوا فيها. اختلف فيها أهل السنة: هل ترْكُ الصلاة تهاوناً وكسلاً يَسلُب عنه اسمَ الإسلام أو لا؟ فقالت طائفة من أهل السنة: إنَّ تَرْكَ الصلاة تهاوناً وكسلاً لا يسلب عن المسلم الذي شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله … لا يسلب عنه اسم الإسلام، وإنما يكون على كبيرة، وهو في كفر أصغر، وهذا قول طائفة قليلة من علماء أهل السنة.
وقال جمهور أهل السنة: إنَّ تَرْكَ الصلاة تهاوناً وكسلاً كُفْرٌ، وأنه مَن ترَكَ الصلاة فليس له إسلام، يعني: ولو أتى بتأدية الزكاة وصيام رمضان والحج، وهذا هو الصحيح لدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك.
والصحابة أجمعوا على أن الأعمال جميعاً المأمور بها تركُها ليس بكفر إلا الصلاة، كما قال شقيق بن عبد الله فيما رواه الترمذي وغيره: ﴿كانوا -أي الصحابة- لا يرون من الأعمال شيئا تركُه كُفر﴾.
والصلاة يُجمع على أن تركَها كفر، وهو الذي دل عليه قول الله -جل وعلا-: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾ إلخ الآيات وكذلك قول النبي -ﷺ- في صحيح مسلم: ﴿بين الرجل وبين الشرك -أو قال: الكفر- ترك الصلاة﴾ وفى السنن الأربعة وفى المُسنَد وفي غيرها بإسناد صحيح من حديث بريدة -رضي الله عنه- مرفوعا: ﴿العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر﴾ وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿بين الرجل وبين الشرك -أو قال: الكفر- ترك الصلاة﴾ دلنا على أن ترك الصلاة كفرٌ أكبر.
وذلك أن القاعدة أن لفظ الكفر إذا جاء في النصوص فإنه يأتي على وجهين:
الوجه الأول: يأتي مُعرَّفًا، والوجه الثاني يأتي منكراً بلا تعريف، فإذا أتى منكراً فإنه يكون معناه الكفر الأصغر، وإذا أتى معرفا فتكون (الْ) فيه إما للعهد: عهد الكفر الأكبر … العهد الشرعي في ذلك، وإما أن تكون للاستغراق، يعني: استغراق أنواع الكفر.
مثلاً- في الكفر المنكَّر قال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿ثنتان في الناس هما بهم كُفْرٌ: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت﴾ ﴿ثنتان في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن﴾ هذا حديث آخر.
قال أيضاً -عليه الصلاة والسلام-: ﴿لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم أعناق بعض﴾ وأشباه ذلك مِن ذكر كلمة الكفر مُنَكَّرَة (كفر).
فإذا قيل في الكفر: كفر، فهذا الأصل فيه أنه كفر أصغر؛ لأن الشارع جعله منكراً في الإثبات، وإذا كان منكرا في الإثبات فإنه لا يعم، كما هو معلوم في قواعد الأصول، أما إذا أتى معرَّفاً فإن المقصود به الكفر الأكبر.
فإذًا نقول: الصحيح أن ترك الصلاة تهاوناً وكسلاً كفر أكبر، لكن كفره باطن وليس كفره ظاهرا، وليس بباطن وظاهر جميعاً حتى يثبت عند القاضي؛ لأنه قد يكون له شبهة من خلاف أو فهم أو نحو ذلك.
ولهذا لا يحكم بردَّةٍ من ترك الصلاة بمجرد تركه، وإنما يطلق على الجنس أن مَن ترك الصلاة فهو كافر الكفر الأكبر، وأما المعيَّن فإن الحكم عليه بالكفر وتنزيل أحكام الكفر كلها عليه هذا لا بد فيه من حكم قاضٍ يدرأ عنه الشبهة ويستتيبه حتى يؤدي ذلك.
وهذا هو المعتمد عند جمهور أهل السنة -كما ذكرت لك-، وغير الصلاة الأمر على عكس ما ذكرت.
جمهور أهل السنة على أن مَن ترك الزكاة تهاوناً وكسلاً أو من ترك الصيام أو من ترك الحج فإنه لا يكفر بتركها تهاوناً وكسلاً؛ لأنه ما دل الدليل على ذلك.
وقالت طائفة من أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم: إن من ترك بعض هذه أنه كافر على خلاف بينهم في ذلك.
فعمر -رضي الله عنه- ظاهر قوله: أن ترك الحج مع القدرة عليه ووجود الاستطاعة المالية والبدنية أنه كفر، حيث قال لعماله في الأمصار: أن يكتبوا له مَن وجد سعة من المسلمين ثم لم يحجوا أن تضرب عليهم الجزية، قال: ما هم بمسلمين … ما هم بمسلمين.
وكَفَّر -أيضاً- بعض الصحابة كابن مسعود مَن ترك الزكاة تهاوناً وكسلاً، وهذا خلاف ما عليه الجمهور -جمهور الصحابة- ومن بعدهم في أن من تركها بلا امتناع وإنما ترك الزكاة أو ترك الصيام أو ترك الحج تهاوناً منه أنه لا يكفر، ومنهم من قال بكفره يعني: على عكس مسألة الصلاة.
فنقول: إذًا مسألة الصلاة الجمهور -جمهور أهل السنة- على تكفير من تركها تهاوناً وكسلاً.
وهناك من أهل السنة من لم يكفِّر من تركها تهاوناً وكسلاً، وبقية الثلاثة الأركان العملية جمهور أهل السنة على أنه لا يكفر وهناك من كفَّره.
هذه الأركان منقسمة إلى ثلاثة أقسام، وخصت بالذكر لعظم مقامها في هذه الشريعة وعظم أثرها على العبد.
فالشهادتان نصيب القلب والإيمان، فبهما يتحقق الإيمان الذي هو أصل الاعتقاد والعمل، والصلاة عبادة بدنية محضة، والزكاة عبادة مالية محضة، والحج مركب من العبادة المالية والعبادة البدنية، وصوم رمضان عبادة بدنية محضة.
لهذا قال طائفة من المحققين من أهل العلم: إنه جاء في هذه الرواية تقديم الحج على الصوم فقال: ﴿وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان﴾ وصوم رمضان في بقية الروايات قدم على الحج فقال: ﴿وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً﴾.
وسبب تقديم الحج على الصيام: أن الأمر على ما ذكرت لك من أن الصوم من حيث جنس دلالته مُمَثَّلٌ في الصلاة، فالصلاة حق البدن المحض يعني: عبادة وجبت وتعلقت بالبدن محضة، والزكاة عبادة تعلقت بالمال محضة، والحج عبادة تركبت من المال والبدن فصارت قسماً ثالثاً مستقلاً، وأما الصوم فهو من حيث هذا الاعتبار مكرر للصلاة، وعلى هذا الفهم بنى البخاري -رحمه الله تعالى- صحيحه فجعل كتاب الحج مقدما على كتاب الصوم؛ لأجل أن الحج عبادة مركبة من المال والبدن؛ فهي جنس من حيث هذا الاعتبار جديد، والصيام جنس سبق مثله وهو إقام الصلاة.