الشيخ صالح آل الشيخ
هذا الحديث -أيضا- من الأحاديث الأصول العظيمة.
عن أبي ثعلبة الخشني -جرثوم بن ناشر- جرثوم، وجرثومة معناها الأصل الذي يرجع إليه، هذه بالمناسبة، فجرثوم، يعني: كلمة، اسم له دلالته القوية في اللغة، يعني: هو أصل لغيره، والجرثومة هي الأصل، وليست هي كلمة ذم، وإنما هي في اللغة ما يدل على أنه أصل لغيره، قال جرثوم بن ناشر -رضى الله عنه-: قال رسول الله -ﷺ-: ﴿إن الله -تعالى- فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها﴾ الحديث.
قوله -عليه الصلاة والسلام - ﴿إن الله تعالى فرض فرائض، فلا تضيعوها﴾ يعني: هنا بالفرائض ما جاء إيجابه في القرآن، قال: ﴿إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها﴾.
"فرض": يعني: أوجب واجبات فلا تضيعوها، ومن المعلوم أن كلمة "فرض" في القرآن قليلة، والفرض قليل في الكتاب والسنة؛ ولهذا ما دل القرآن على وجوبه، فهو فرض، فقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا: ﴿إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها﴾ يعني: ما أوجبه الله -جلا وعلا- في القران، فما ثبت في القرآن وجوبه، فيسمى فرض بهذا الحديث؛ ولهذا ذهب جماعة من أهل العلم، منهم الإمام أحمد على أن الفرض أعظم من الواجب من جهة أن ما أوجب الله -جل وعلا -يقال له فرض، وما دلت السنة على وجوبه يقال له: واجب إلا إذا أتى بصيغة الفرض، ففرق أحمد وجماعة من أهل العلم بين الفرض والواجب من جهة الدليل، لا من جهة المرتبة.
فهما من حيث الحكم التكليفي واحد، حكمهما الوجوب، الفرض واجب، والواجب فرض، لكن ما كان من جهة الدليل من القرآن سمي فرضا، وما كان من جهة الدليل من السنة سمي واجبا، وقال بعض أهل العلم: إن الفرض أرفع درجة من الواجب، وهو المعروف من مذهب أبي حنيفة -رحمه الله- فإن الفرض عنده ما ثبت بدليل قطعي، والواجب ما ثبت بدليل غير قطعي، فحصل عنده أنه فرق بين الفرض والواجب من جهة الدليل عليه، ومن جهة مرتبته، فالفرض عنده أرفع من الواجب، والقول الأول: لا، الفرض الواجب من حيث المرتبة واحد، لكن من حيث الثبوت مختلف.
وقالت طائفة من أهل العلم -وهو قول الجمهور-: إن الفرض والواجب واحد من حيث الدليل عليهما، ومن حيث المرتبة، فيقال: الصلوات الخمس فرائض، ويقال: هي واجبة، ويقال صوم رمضان واجب، ويقال: فرض، يقال الحج واجب وفرض، يقال: بر الوالدين واجب وفرض، وهكذا على القول الثالث، وهو القول المعروف المشهور؛ لأن الفرائض والواجبات معناهما واحد، فالفرض معناه الواجب؛ ولهذا نقول: إن قوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿إن الله تعالى فرض فرائض، فلا تضيعوها﴾ يعني ما أوجبه الله -جل وعلا -في القرآن فلا نضيعه، نهى -عليه الصلاة والسلام- عن تضييعه، وما أمر به المصطفى -ﷺ- فهو من حيث اللزوم والإلزام بعدم تضييعه بدليل خارج عن هذا الدليل، وهو بدليل قول الله -جل وعلا -: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ وبقوله -جل وعلا: - ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ والآيات كثيرة في هذا الباب، وبقوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿ألا وإني أوتيت الكتاب، ومثله معه﴾ إلى أن قال: ﴿ألا وإن ما حرم رسول الله -ﷺ- مثل ما حرم الله﴾ في الحديث المعروف، حديث تحريم الخمر في خيبر إلى آخره.
المقصود أن قوله: ﴿فلا تضيعوها﴾ يعني: امتثلوا وأدوا هذه الفرائض، ولا تضيعوها بعدم الامتثال، فإن الله ما فرضها إلا ليمتثل، وهذا دليل على أن من ضيع أثم؛ لأنه نهى عن التضييع، وهذا داخل ضمن القاعدة أن ترك الواجب محرم.
قال: ﴿وحد حدودا فلا تعتدوها﴾ هذا اللفظ ﴿حد حدودا فلا تعتدوها﴾ يدخل فيه البحث من جهات كثيرة، لكن ألخص لك ذلك بتقرير قاعدة عامة في فهم نصوص الكتاب والسنة، التي جاء فيها لفظ الحد والحدود، وهي أنها جاءت على ثلاثة أنواع من الاستعمال:
الأول: أن يؤتى بلفظ الحدود بإطلاق، يعني: بلا أمر أو نهي بعدها، كقوله -تعالى- في سورة النساء: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ أو تأتي، ويكون بعدها النهي عن الاعتداء، كقوله -جل وعلا -: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ وكقوله: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا﴾. والثالث: أن يكون بعد ذكر الحدود النهي عن المقاربة، فلا تقربوها في آية البقرة التي فيها ذكر الصيام والاعتكاف ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا﴾ فهذه ثلاثة أنواع في القرآن.
وفي السنة أتى الحد -أيضا- ويراد به العقوبات المقدرة، أو يراد به الذنوب التي عليها عقوبات، يعني: المحرمات التي يجب في حق من اقتحمها أن يعاقب.
إذا تقرر ذلك، فنرجع إلى تأصيل هذا في أن الحدود لفظ استعمل في الكتاب والسنة، واستعمل في كلام الفقهاء، وكلامي -السالف- في التقسيم إلى الأنواع، هذا إنما هو لنصوص الكتاب والسنة، وأما التعبير بالحدود في كتب أهل العلم وأهل الفقه، فهذا استعمال اصطلاحي، ليس هو استعمال الحدود في نصوص الكتاب والسنة. إذا تبين هذا، فالنوع الأول - ذكرنا لكم ثلاثة أنواع- النوع الأول: كقوله: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ أو كقوله: ﴿وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ﴾ وكقوله: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا﴾ فإذا ذكر الحدود بلا كلمة بعدها، يعني: نهي عن الاعتداء، أو ذكر بعدها النهي عن الاعتداء، فإن المراد بالحدود هنا الفرائض يعني: ما أُذِن به، الفرائض، أو ما أذن به، فما أذن به فرضا كان، أو مستحبا، أو مباحا، فالحدود هنا المراد بها هذه الأشياء؛ ولهذا جاء بعدها ﴿فَلاَ تَعْتَدُوهَا﴾ فالذي يخرج من دائرة المأذون به إلى خارج عن المأذون به، فقد تعدى الحد، وقد خرج عنه، وهذا الحد، هو حد المأذون به، فهذا نوع.
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ جاءت بعد بيان ما فرض الله -جل وعلا -في التركات ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ﴾ الآيات في سورة النساء، لما أتمها في آيتين قال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ يعني: هذا ما أمر الله -جل وعلا -به وشرعه، وهذا معناه أن هذه حدود المأمور؛ ولهذا عقبها بالطاعة، قال: ﴿وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ﴾ ﴿وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ هذه الحدود هي ما أذن به، وأمر به، هذا هو النوع الأول، فالحدود هنا ليست هي المحرمات، الحدود هي ما أذن به، يدخل فيها الواجبات والمستحبات والمباحات.
الحدود بالمعنى الثاني إذا جعلت للمحرمات فلها ضابطان:
الأول: أن يكون بعدها ﴿فَلاَ تَقْرَبُوهَا﴾ وأن يكون بعدها، أو معها ذكر العقوبة، وهذا يعني: أن الحدود هنا هي المحرمات؛ لهذا ناسب أن يكون معها النهي عن القربان، النهي عن الاقتراب ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا﴾ يعني: المحرمات لا تقرب، ولا يقترب منها، فهذا نوع؛ ولأجل هذا النوع قيل في العقوبات التي شُرِعت لمن انتهك، تطهيرا لمن انتهك المحرمات، قيل لها حدود، من قبيل رؤية هذا النوع دون غيره، وهذا شائع كثير في اللغة وفي الشريعة، فإذن العقوبات التي شرعت لمن ارتكب محرما فقارب، أو انتهك حدود الله قيل للعقوبة حد؛ لأنه دخل في الحد، وقيل لها: حدود؛ لأنه اقتحم الحدود.
وأما النوع الثالث، وهو العقوبات التي جاءت في بعض الأحاديث، فهذه المراد منها ما جعل في الشرع له عقاب بعينه، فيقال: حد السرقة، حد الخمر … إلى آخره، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله﴾ في حد من حدود الله، يعني: إلا في معصية جاءت الشريعة بالعقوبة فيها، ويدخل في هذا الحدود عند الفقهاء والتعزيرات عند الفقهاء، وقوله -عليه الصلاة والسلام- في هذا القسم الثالث: ﴿لا يجلد فوق عشرة أسواط﴾ يعني: تأديبا.
فلا يحل لأحد أن يؤدب من أبيح له تأديبه فوق عشرة أسواط، إلا في حد من حدود الله، يعني: إلا في عقوبة جاء الشرع بها، إما أن تكون حدا على اصطلاح الفقهاء، أو أن تكون تعزيرا، وهذا بحث طويل في كتاب الحدود، ومعرفة الحدود والتعزيرات في الفقه، لكن ضبطت لك هذا على نحو ما ذكرت لك من التبسيط؛ ليجتمع لك شمل ما أراد به الفقهاء اصطلاحهم الحدود، وما جاءت النصوص بكلمة الحدود.
إذا تقررت هذه القاعدة، وهذا التحقيق في فهم هذه الكلمة التي أشكلت على كثير من العلماء؛ ولعدم فهمها ذهبوا إلى مذاهب شتى.
قال -عليه الصلاة والسلام- "نقول هنا": ﴿وحد حدودا فلا تعتدوها﴾ هنا الحدود على ما ذكرنا: هي ما أذن به، الواجبات والمستحبات وما أشبه ذلك؛ لهذا قال: ﴿حد حدودا فلا تعتدوها﴾ يعني: لا تعتد ما أُذِن لك، فكن في دائرة الواجب والمستحب والمباح، ولا تنتقل منه إلى غيره، فالأول: ﴿فرض فرائض فلا تضيعوها﴾ يعني: امتثل الفرائض، أد الواجبات، والثاني: كن في دائرة المستحب والمباح، ولا تتعده إلى غيره.
ثم قال: ﴿وحرم أشياء فلا تنتهكوها﴾ وهذا من العطف المغاير؛ لأن التحريم غير تعدي الحدود -كما ذكرنا لك-، من بيان فهم نصوص الكتاب والسنة في هذه المسألة المهمة، فما حرم الله -جل وعلا -نهانا -عليه الصلاة والسلام- أن تنتهكه، والتعبير بالانتهاك -أيضا- يفيد الاعتداء وعدم المبالاة ممن انتهك المحرمات، قال: ﴿وحرم أشياء فلا تنتهكوها﴾ وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿حرم أشياء﴾ يفيد أن هذه الأشياء المحرمة قليلة؛ ولهذا تجد أن أصول المحرمات في الأطعمة قليلة ﴿قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً﴾ … إلى آخر الآية، أو المحرمات بعامة ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ الآيات المعروفة في الوصايا العشر في آخر سورة الأنعام، أو محرمات في اللباس، فهي محدودة بالنسبة للرجال وبالنسبة للنساء، أو محرمات في الأشربة فهي -أيضا- محدودة، أو محرمات في المنازل، فهي محدودة، ومحرمات في المراكب، فهي محدودة.
لهذا المحرمات أشياء قليلة بالنسبة لغير المحرمات؛ لأن دائرة المباح -ولله الحمد- أوسع؛ لهذا قال: ﴿وحرم أشياء﴾ وهذه الأشياء قليلة، فعجيب أن تنتهك، فقال: ﴿فلا تنتهكوها﴾ فيكون هذا المنتهك لهذه المحرمات شيء في نفسه جعله ينتهك هذا القليل، ويغرى بهذا القليل؛ ولهذا لم يحرم الشرع شيئا فيه لابن آدم منفعة، في حياته حاجية أو تحسينية أو ضرورية، بل كل المحرمات يمكنه الاستغناء عنها، ولا تؤثر عليه في حياته.
فما حرم الله -جل وعلا -أو حرمه رسوله -ﷺ- من أشياء، فإنه لا حاجة لابن آدم إليه في إقامة حياته، أو التلذذ بحياته، فالمباحات والمستحبات يمكنه أن يتلذذ فيها بأشياء كثيرة تغنيه عن الحرام.
قال: ﴿وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها﴾. "سكت عن أشياء": يعني: أن الله سكت، وهذا السكوت الذي وُصِف الله -جل وعلا -به ليس هو السكوت المقابل للكلام، يقال: تكلم وسكت، وإنما هذا سكوت يقابل به إظهار الحكم، فالله -جل وعلا -سكت عن التحريم، بمعنى لم يحرم، لم يظهر لنا أن هذا حرام، فالسكوت هنا من قبيل الحكم، سكوت عن الحكم، ليس سكوتا عن الكلام، فغلط على هذا من قال: إن هذه الكلمة يستدل بها على إثبات صفة السكوت لله -جل وعلا -، وهذا مما لم يأت في نصوص السلف في الصفات، وهذا الحديث وأمثاله لا يدل على أن السكوت صفة؛ لأن السكوت قسمان: سكوت عن الكلام، وهذا لا يوصف الله -جل وعلا -به، بل يوصف الله -سبحانه وتعالى- بأنه متكلم، ويتكلم كيف شاء، وإذا شاء، متى شاء، وأما صفة السكوت عن الكلام، فهذه لم تأت في الكتاب ولا في السنة، فنقف على ما وُقِفنا عليه، يعني: على ما أوقفنا الشارع عليه، فلا نتعدى ذلك.
والقسم الثاني: من السكوت، السكوت عن إظهار الحكم، أو عن إظهار الخبر وأشباه ذلك، فلو فُرِض -مثلا- أن أنا أمامكم الآن، وأتكلم باسترسال، سكت عن أشياء، وأنا مسترسل في الكلام، بمعنى أني لم أظهر لكم أشياء أعلمها، تتعلق بالأحاديث التي نشرحها، وسكوتي في أثناء الشرح عن أشياء لم أظهرها لكم، أوصف فيه بالسكوت؟
فتقول -مثلا-: فلان سكت في شرحه عن أشياء كثيرة، لم يبدها لأجل أن المقام لا يتسع لها، مع أني متواصل الكلام، فإذاً لا يدل السكوت، يعني: في هذا، يعني: السكوت عن إظهار الحكم عن السكوت الذي هو صفة، والله -جل وعلا -له المثل الأعلى، فنصفه بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله -ﷺ-.
لا نتجاوز القرآن والحديث، فنصفه بالكلام، ولا نصفه بالسكوت الذي هو يُقابَل به الكلام، وإنما يجوز أن تقول: إن الله -جل وعلا -سكت عن أشياء، بمعنى لم يظهر لنا حكمها، إذا تقرر هذا من جهة البحث العقدي، فنرجع إلى قوله: ﴿سكت عن أشياء﴾ بما يدل على أن هذه الأشياء قليلة.
﴿رحمة بكم، أو رحمة لكم غير نسيان﴾ السكوت بعدم إظهار بعض أحكام القضايا، رحمة لا نسيان، والله -جل وعلا -ليس بنسيٍّ، كما قال -سبحانه-: ﴿وَ مَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ ﴿فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَ لاَ يَنْسَى﴾ فالله -سبحانه- ليس بذي نسيان، بل هو الحفيظ العليم الكامل في صفاته وأسمائه، سبحانه وتعالى، وجل وتقدس ربنا.
فإذا هناك أشياء لم يبين لنا حكمها، فالسكوت عنها رحمة غير نسيان، أمرنا -عليه الصلاة والسلام- ألا نبحث عنها فقال: ﴿فلا تبحثوا عنها﴾.
إذا تقرر هذا، فالأشياء المسكوت عنها أنواع:
النوع الأول : ما لم يأت التنصيص عليه من المسائل، لكنها داخلة في عموم نصوص الكتاب والسنة، داخلة في العموم، داخلة في الإطلاق، وداخلة في مفهوم الموافقة، أو مفهوم المخالفة، أو في المنطوق، أو أشباه ذلك، مما هو من مقتضيات علم أصول الفقه.
فهذا النوع، مما دلت عليه النصوص بنوع من أنواع الدلالات المعروفة في أصول الفقه، هذا لا يقال عنه: إنه مسكوت عنه؛ لأن الشريعة جاءت ببيان الأحكام من أدلتها بالكتاب والسنة، بأنواع الدلالات، فهذا النوع لا يصح أن يقال: إنه مسكوت عنه؛ ولهذا العلماء أدخلوا أشياء حدثت في عمومات النصوص، ففهموا منها الحكم، أو في الإطلاق، أو في المفهوم وأشباه ذلك، وإذا أردنا أن نسرد الأمثلة، فهي كثيرة يضيق المقام عنها تراجعونها في المطولات.
النوع الثاني: أشياء مسكوت عنها، لكن داخلة ضمن الأقيسة، يعني: يمكن أن يقاس المسكوت عنه على المنصوص عليه، وقد ذهب جمهور علماء الأمة إلى القول بالقياس، إذا كانت العلة واضحة، اجتمعت فيها الشروط، ومنصوصا عليها، فإذا كان القياس صحيحا، فإن المسألة لا تعد مسكوتا عنها.
الحالة الثالثة: أن تكون المسألة مسكوتا عنها، بمعنى أنه لا يظهر إدخالها ضمن دليل، فكانت في عهده -عليه الصلاة والسلام- هذا نوع، ولم ينص على حكمها، ولم تدخل ضمن دليل عام، فسُكِت عنها، فهذا يدل أنها على الإباحة؛ لأن الإيجاب أو التحريم نقل عن الأصل، فالأصل أن لا تكليف، ثم جاء التكليف بنقل أشياء عن الأصل، فلا بد للوجوب من دليل، ولا بد للتحريم من دليل، فما سكت عنه، فلا نعلم له دليلا من النص، من الكتاب والسنة، ولا يدخل في العمومات، وليس له قياس، فهذا يدل على أنه ليس بواجب، ولا يجوز البحث عنه، ولهذا أنكر النبي -عليه الصلاة والسلام - على من سأله عن الحج فقال الرجل: ﴿يا رسول الله، أفي كل عام؟﴾ هذه مسألة مسكوت عنها، وتوجه الخطاب للرجل بألا يبحث عن هذا، فسكت عن وجوب الحج، هل يتكرر أم لا يتكرر؟ والأصل أنه يحصل الامتثال بفعله مرة واحدة، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-:
﴿لو قلت: نعم؛ لوجبت. زروني ما تركتكم﴾ يعني: إذا تركت البيان، فاسكتوا عن ذلك، قد ثبت في صحيح مسلم أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: ﴿إن أشد المسلمين -في المسلمين- جرما رجل سأل عن شيء، فحرم لأجل مسألته﴾. قد قال -جل وعلا -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَ إِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا﴾ فإذا هذا النوع مما سكت عنه، فلا يسوغ لنا أن نبحث، ونتكلف الدليل عليها، تلحظ -أحيانا- من بعض الأدلة التي يقيمها بعض أهل العلم أن فيها تكلفا للاستدلال لحكم المسألة، فإذا كان الدليل لا يدخل فيها بوضوح، فإنها تبقى علي الأصل.
﴿وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها﴾ وهذا من رحمة الله -جل وعلا -بعباده.
أسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، أن يلهمني وإياكم الرشد والسداد، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يثبت العلم في قلوبنا، ويرزقنا زكاته والعمل به، وتعليمه، والإحسان في ذلك كله.
بقي عندنا اثنا عشر حديثا، وبقي عندنا جلستان غدا بعد العشاء، ويوم الخميس عصرا نكمل -إن شاء الله تعالى- البقية؛ لأن الأحاديث الباقية قصيرة، وليست بطويلة، وأحاديث اليوم وما قبل كانت طويلة في ألفاظها، وإلى لقاء -إن شاء الله تعالى- وأثابكم الله.
الشيخ ابن العثيمين
﴿فَرَضَ﴾ أي أوجب قطعاً، لأنه من الفرض وهو القطع.
﴿فَرَائِضَ﴾ ولا نقول: (فرائضاً) لأنها اسم لا ينصرف من أجل صيغة منتهى الجموع.
﴿فَرَضَ فَرَائِضَ﴾ مثل الصلوات الخمس، والزكاة، والصيام، والحج، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، ومالا يحصى.
﴿فَلا تُضَيِّعُوهَا﴾ أي تهملوها فتضيع، بل حافظوا عليها.
﴿وَحَدَّ حُدودَاً فَلا تَعتَدوها﴾ الحد في اللغة المنع، ومنه الحد بين الأراضي لمنعه من دخول أحد الجارين على الآخر، وفي الاصطلاح قيل:إن المراد بالحدود الواجبات والمحرمات.
فالواجبات حدود لا تُتعدى، والمحرمات حدود لا تقرب.
وقال بعضهم: المراد بالحدود العقوبات الشرعية كعقوبة الزنا، وعقوبة السرقة وما أشبه ذلك.
ولكن الصواب الأول، أن المراد بالحدود في الحديث محارم الله عزّ وجل الواجبات والمحرمات، لكن الواجب نقول: لا تعتده أي لاتتجاوزه، والمحرم نقول: لا تقربه، هكذا في القرآن الكريم لما ذكر الله تعالى تحريم الأكل والشرب على الصائم قال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا﴾ (البقرة: من الآية 229) ولما ذكر العدة وما يجب فيها قال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقرَبُوهَا﴾ (البقرة: 187).
﴿وَحَرَّمَ أَشيَاء﴾ (أشياء) منصوبة بدون تنوين لوجود ألف التأنيث الممدودة.
﴿فَلا تَنتَهِكوهَا﴾ أي فلا تفعلوها، مثل :الزنا، وشرب الخمر، والقذف، وأشياء كثيرة لا تحصى.
﴿وَسَكَتَ عَنْ أَشيَاء رَحمَةً لَكُمْ غَيرَ نسيَان فَلا تَبحَثوا عَنهَا﴾ سكت عن أشياء أي لم يحرمها ولم يفرضها.
قال: ﴿سكت﴾ بمعنى لم يقل فيها شيئاً، ولا أوجبها ولا حرمها.
وقوله: ﴿غَيْرَ نسيَان﴾ أي أنه عزّ وجل لم يتركها ناسياً ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً﴾ (مريم: من الآية 64) ولكن رحمة بالخلق حتى لا يضيق عليهم.
﴿فَلا تَبحَثوا عَنهَا﴾ أي لا تسألوا، مأخوذ من بحث الطائر في الأرض، أي لا تُنَقِّبُوا عنها، بل دعوها.
الفوائد من هذا الحديث:
1- إثبات أن الأمر لله عزّ وجل وحده، فهو الذي يفرض، وهو الذي يوجب، وهو الذي يحرم، فالأمر بيده، لا أحد يستطيع أن يوجب مالم يوجبه الله، أو يحرم مالم يحرمه الله، لقوله: ﴿إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائض ...وقَالَ: وَحَرمَ أَشيَاء﴾.
فإن قال قائل: هل الفرض والواجب بمعنى واحد، أو الفرض غير الواجب؟
فالجواب:أما من حيث التأثيم بترك ذلك فهما واحد.
وأما من حيث الوصف:هل هذا فرض أو واجب؟ فقد اختلف العلماء- رحمهم الله- في هذا، فقال بعضهم:
الفرض ما كان دليله قطعياً، والواجب ما كان دليله ظنياً.
وقال آخرون: الفرض ما ثبت بالقرآن، والواجب ما ثبت بالسنة.
وكلا القولين ضعيف، والصواب: أن الفرض والواجب بمعنى واحد، ولكن إذا تأكد صار فريضة، وإذا كان دون ذلك فهو واجب، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة .
2- أن الدين الإسلامي ينقسم إلى فرائض ومحرمات.
3- وجوب المحافظة على فرائض الله عزّ وجل، مأخوذ من النهي عن إضاعتها، فإن مفهومه وجوب المحافظة عليها.
4- أن الله عزّ وجل حد حدوداً، بمعنى أنه جعل الواجب بيناً والحرام بيناً: كالحد الفاصل بين أراضي الناس، وقد سبق في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات.
5- تحريم تعدي حدود الله، لقوله: ﴿فَلاَ تَعتَدوهَا﴾.
وانظر كيف كرر الله عزّ وجل النهي عن التعدي إلى حدود الله في مسألة الطلاق، يتبين لك أهمية النكاح عقداً وإطلاقاً.
6- أنه لا يجوز تجاوز الحد في العقوبات، فالزاني مثلاً إذا زنا وكان بكراً فإنه يجلد مائة جلدة ويغرّب عاماً، ولا يجوز أن نزيد على مائة جلدة، ونقول يجلد مائة وخمسين مثلاً، فإن هذا محرم.
فإن قال قائل: إذا اقتصرنا على مائة جلدة ربما يكثر الزنا، وإذا زدنا يقل؟
فالجواب:أأنتم أعلم أم الله؟ وما دام الله عزّ وجل فرض مائة جلدة فلا نتجاوزها، بالاضافة إلى تغريب عام على خلاف بين العلماء في ذلك، هل يغرب أو لا، لأنه ثبت بالسنة، والخلاف في هذا معروف.
ومن هنا نعرف أن عقوبة شارب الخمر ليست حداً، ولا يمكن أن نقول:إنها حد فلو كانت حداً ما تجاوزها عمر والصحابة رضي الله عنهم، ثم هناك دليل آخر من نفس القضية، لما استشار عمر الصحابة رضي الله عنهم ، قال عبد الرحمن بن عوف:يا أمير المؤمنين أخف الحدود ثمانون، ويعني بذلك حد القذف.
ولو كانت عقوبة شارب الخمر حداً لكان أخف الحدود أربعين، وهذا شيء واضح، لكن - سبحان الله - الفقهاء - رحمهم الله - يرونه حداً، وعند التأمل يتبين أن القول بأنه حد ضعيف، ولا يمكن لعمر رضي الله عنه ولا لغيره أن يتجاوز حد الله عزّ وجل.
7- وصف الله عزّ وجل بالسكوت، هذا من تمام كماله عزّ وجل، أنه إذا شاء تكلم وإذا شاء لم يتكلم.
8- أنه يحرم على الإنسان أن ينتهك محارم الله عزّ وجل، لقوله: ﴿حَرَّمَ أَشيَاء فَلا تَنتَهِكُوهَا﴾.
وطرق التحريم كثيرة، منها: النهي، ومنها: التصريح بالتحريم، ومنها: ذكر العقوبة على الفعل، ولإثبات التحريم طرق.
9- أن ما سكت الله عنه فلم يفرضه، ولم يحده، ولم ينه عنه فهو الحلال، لكن هذا في غير العبادات، فالعبادات قد حرم الله عزّ وجل أن يشرع أحد الناس عبادة لم يأذن بها الله عزّ وجل، فتدخل في قوله: ﴿حَرَّمَ أَشيَاء فَلاَ تَنتَهِكُوهَا﴾.
ولهذا نقول:إن من ابتدع في دين الله ما ليس منه من عقيدة أو قول أو عمل فقد انتهك حرمات الله، ولا يقال هذا مما سكت الله عزّ وجل عنه، لأن الأصل في العبادات المنع حتى يقوم دليل عليها، وغير ذلك الأصل فيه الإباحة، فما سُكِتَ عنه فهو مباح.
وحينئذ نذكر مسألة يكثر السؤال عنها، ربما نعرف حكمها من هذا الحديث: يسأل بعض الناس ولاسيما النساء:هل يجوز للإنسان أن يزيل شعر الساق، أو شعر الذراع أو لا يجوز؟
فالجواب: الشعور ثلاثة أقسام:
الأول: ما نهي عن إزالته.
الثاني: ما أمر بإزالته.
الثالث: ما سكت عنه.
فأما ما أمر بإزالته فمعروف:كالعانة والإبط للرجال والنساء والشارب بالنسبة للرجال ، فهذا مأمور بإزالته، لكن الشارب لا يؤمر بإزالته نهائياً كالحلق مثلاً، حتى إن الإمام مالك- رحمه الله - قال: ينبغي أن يؤدب من حلق شاربه، لأن الحديث أحفوا الشوَارب.
والثاني: ما نهي عن إزالته كشعر اللحية بالنسبة للرجال، فإن النبي ﷺ أمر بإعفائها وقال: ﴿خَالِفُوا المَجوسَ﴾ ﴿خَالِفُوا المُشرِكينَ﴾ فلا يحل لأحد أن يحلق لحيته، بل ولا أن ينقص منها على القول الراجح حتى لو زادت على القبضة.
وأما إجازة الفقهاء- رحمهم الله - قص ما زاد على القبضة واستدلالهم بفعل ابن عمر رضي الله عنهما، فهذا رأي لكنه مخالف لظاهر الحديث.
وابن عمر رضي الله عنهما ليس يقص ما زاد على القبضة في كل السنة، إنما يفعل ذلك إذا حج أو اعتمر فقط، وهذا فرق بين ما شغف به بعض الناس وقالوا: إن ابن عمر رضي الله عنهما يرى جواز أخذ ما زاد على القبضة.
وكأنه - والله أعلم - رأى أن هذا من كمال التقصير أو الحلق.
ومع ذلك فرأيه رضي الله عنه غير صواب، فالصواب فيما قاله النبي ﷺ .
والعجب أن ابن عمر رضي الله عنهما ممن روى حديث الأمر بإعفاء اللحية وهو يفعله، لكن نعلم أن ابن عمر رضي الله عنهما عنده من العبادة ما فات كثيراً من الناس إلا أنه تأول ، والمتأول مجتهد إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر.
القسم الثالث:بقية الشعور التي ليس فيها أمر ولا نهي، فقال بعض الناس:إن أخذها حرام، لقول الله تعالى عن إبليس: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾(النساء: من الآية 119) هذا يستثنى منه ما أمر بإزالته كالختان وما أشبه ذلك.
قالوا: وهذا مغير لخلق الله، بينما كان ساقه فيه الشعر أو ذراعه فيه الشعر أصبح الآن ليس فيه شعر.
ولاشك أن هذا القول والاستدلال وجيه، لكن إذا رأينا أن النبي ﷺ قسم الأشياء إلى ثلاثة أقسام قلنا: هذا مما سكت عنه، لأنه لو كان ينهى عنه لألحق بما نهي عنه، وهذه قرينة تمنع أن يكون هذا من باب تغيير خلق الله عزّ وجل أو يقال: هو من التغيير المباح.
والذي نرى في هذه المسالة: أن الشعر يبقى ولا يحلق ولا يقص، اللهم إلا إذا كثر بالنسبة للنساء حتى شوه الخلقة، فالمرأة محتاجة إلى الجمال والتجمل، فلا بأس.
وأما الرجال فيقال: كلما كثر الشعر دلّ ذلك على قوة الرجل.
10- أنه لا ينبغي البحث عما سكت الله تعالى عنه ورسوله.
وهل هذا النهي في عهد الرسالة، أم إلى الآن؟
في هذا قولان للعلماء منهم من قال: هذا خاص في عهد الرسالة، لأن ذلك عهد نزول الوحي، فقد يسأل الإنسان عن شيء لم يُحرم فيحرم من أجله، أو عن شيء لم يجب فيوجب من أجله، كما سأل الأقرع بن حابس النبي ﷺ حين قال النبي ﷺ : ﴿إِنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَيكُم الحَجَّ﴾ فقام الأقرع وقال: يا رسول الله أفي كل عام؟ وهذا سؤال في غير محله، اللهم إلا إذا كان الأقرع بن حابس أراد أن يزيل الوهم الذي قد يعلق في أفهام بعض الناس، فالله أعلم بنيته، لكن النبي ﷺ قال: ﴿لَو قُلتُ نَعَم لَوَجَبَت وَمَا استَطَعتُم، الحَجَّ مَرَةً فَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوع﴾، من أعظم الناس جرماً من يسأل عن شيء لم يحرم فيحرم من أجل مسألته، أو لم يوجب فيوجب من أجل مسألته.
أما بعد عهد الرسالة فلا بأس أن يبحث الإنسان.
ولكن الصواب في هذه المسالة أن النهي حتى بعد عهد الرسالة إلا أنه إذا كان المراد بالبحث الاتساع في العلم كما يفعله طلبة العلم، فهذا لا بأس به، لأن طالب العلم ينبغي أن يعرف كل مسألة يحتمل وقوعها حتى يعرف الجواب، وأما إذا لم يكن كذلك فلا يبحث، بل يمشي على ما كان عليه الناس.
ومن ذلك: البحث عن اللحوم وعن الأجبان وعما يرد إلى البلاد من بلاد الكفار فلا تبحث، ولا تقل: هل هذا حلال أو حرام؟ ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنهما لما سئل عن اللحم في السوق، ما كان من لحم في سوقنا فسوف نشتريه ولا نسأل.
كذلك أيضاً لا نبحث عن مسائل الغيب ونتعمق فيها، ولا نبحث في صفات الله عزّ وجل عن كيفيتها، لأن هذا من التعمق، ولا نأتي بمعضلات المسائل التي فيها: أرأيت إن كان كذا، ولو كان كذا، ولو كان كذا كما يوجد من بعض طلبة العلم الآن، يوجد أناس يفرضون مسائل ليست واقعة ولن تقع فيما يظهر، ومع ذلك يسألون، وهم ليسوا في مكان البحث، بل يسألون سؤالاً عاماً، فهذا لا ينبغي.
ومن ذلك أيضاً: ما كان الناس قد عاشوا عليه لا تبحث عنه إلا إذا علمت أنه حرام، فيجب بيان الحكم.
من ذلك: الذين قالوا: إن أذان الجمعة الثالث الذي زاده عثمان رضي الله عنه هذا بدعة لا يجوز، فنقول لهم: أين الدليل؟ ثم يأتي إنسان آخر، ويقول : ليس بين أذان الجمعة الأول والثاني إلا دقائق، فنقول له: من الذي قال لك ابحث عن هذا؟ فالناس من أزمنة كثيرة تتوالى عليهم العلماء والأذان الأول يكون قبل الثاني بخمس وأربعين دقيقة أو ستين دقيقة، والناس يمشون على هذا، فلا تبحث، دع الناس على ما هم عليه.
ثم لو فرض أنه ثبت أن بين الأذان الثاني والأول في زمن عثمان رضي الله عنه خمس أو عشر دقائق، فالوقت اختلف الآن، كانت المدينة صغيرة أقل من قرية من قرانا اليوم، أما اليوم فتباعدت الأقطار حيث يحتاج الإنسان أن يأتي من أقصى المدينة إلى المسجد إلى وقت، فليقدم الأذان الأول بحيث يتأهب الناس ويحضرون.
أشياء كثيرة من هذا النوع، ولكن هذا الحديث ميزان ﴿فلا تَبحَثُوا عَنهَا﴾.
11- إثبات رحمة الله عزّ وجل في شرعه، لقوله: ﴿رَحمَةً بِكُم﴾ وكل الشرع رحمة، لأن جزاءه أكثر بكثير من العمل، فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومع ذلك فالله عزّ وجل خفف عن العباد ، وسكت عن أشياء كثيرة لم يمنعهم منها ولم يلزمهم بها.
12- انتفاء النسيان عن الله عزّ وجل، لقوله ﴿غَيرَ نسيَان﴾ وقد جاء ذلك في القرآن الكريم، فقال الله عزّ وجل: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً﴾ (مريم: 64) وقال موسى عليه الصلاة والسلام لفرعون لما سأله ما بال القرون الأولى: ﴿قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى﴾ (طـه: 52).
فإن قال قائل: ما الجواب عن قول الله تعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ (التوبة: من الآية 67) فأثبت لنفسه النسيان؟
فالجواب:أن المراد:النسيان هنا نسيان الترك، يعني تركوا الله فتركهم. فهؤلاء تعمدوا الشرك وترك الواجب، ولم يفعلوا ذلك نسياناً. إذاً: ﴿نَسُوا اللَّهَ)(التوبة: 67) أي تركوا دين الله ﴿فَنَسِيَهُمْ﴾ أي فتركهم.
أما النسيان الذي هو الذهول عن شيء معلوم فهذا لا يمكن أن يوصف الله عزّ وجل به، بل يوصف به الإنسان، لأن الإنسان ينسى، ومع ذلك لا يؤاخذ بالنسيان لأنه وقع بغير اختيار.
13- حسن بيان النبي ﷺ حيث ساق الحديث بهذا التقسيم الواضح البين والله أعلم.
الشيخ صالح آل الشيخ
هذا الحديث -أيضا- من الأحاديث الأصول العظيمة.
عن أبي ثعلبة الخشني -جرثوم بن ناشر- جرثوم، وجرثومة معناها الأصل الذي يرجع إليه، هذه بالمناسبة، فجرثوم، يعني: كلمة، اسم له دلالته القوية في اللغة، يعني: هو أصل لغيره، والجرثومة هي الأصل، وليست هي كلمة ذم، وإنما هي في اللغة ما يدل على أنه أصل لغيره، قال جرثوم بن ناشر -رضى الله عنه-: قال رسول الله -ﷺ-: ﴿إن الله -تعالى- فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها﴾ الحديث.
قوله -عليه الصلاة والسلام - ﴿إن الله تعالى فرض فرائض، فلا تضيعوها﴾ يعني: هنا بالفرائض ما جاء إيجابه في القرآن، قال: ﴿إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها﴾.
"فرض": يعني: أوجب واجبات فلا تضيعوها، ومن المعلوم أن كلمة "فرض" في القرآن قليلة، والفرض قليل في الكتاب والسنة؛ ولهذا ما دل القرآن على وجوبه، فهو فرض، فقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا: ﴿إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها﴾ يعني: ما أوجبه الله -جلا وعلا- في القران، فما ثبت في القرآن وجوبه، فيسمى فرض بهذا الحديث؛ ولهذا ذهب جماعة من أهل العلم، منهم الإمام أحمد على أن الفرض أعظم من الواجب من جهة أن ما أوجب الله -جل وعلا -يقال له فرض، وما دلت السنة على وجوبه يقال له: واجب إلا إذا أتى بصيغة الفرض، ففرق أحمد وجماعة من أهل العلم بين الفرض والواجب من جهة الدليل، لا من جهة المرتبة.
فهما من حيث الحكم التكليفي واحد، حكمهما الوجوب، الفرض واجب، والواجب فرض، لكن ما كان من جهة الدليل من القرآن سمي فرضا، وما كان من جهة الدليل من السنة سمي واجبا، وقال بعض أهل العلم: إن الفرض أرفع درجة من الواجب، وهو المعروف من مذهب أبي حنيفة -رحمه الله- فإن الفرض عنده ما ثبت بدليل قطعي، والواجب ما ثبت بدليل غير قطعي، فحصل عنده أنه فرق بين الفرض والواجب من جهة الدليل عليه، ومن جهة مرتبته، فالفرض عنده أرفع من الواجب، والقول الأول: لا، الفرض الواجب من حيث المرتبة واحد، لكن من حيث الثبوت مختلف.
وقالت طائفة من أهل العلم -وهو قول الجمهور-: إن الفرض والواجب واحد من حيث الدليل عليهما، ومن حيث المرتبة، فيقال: الصلوات الخمس فرائض، ويقال: هي واجبة، ويقال صوم رمضان واجب، ويقال: فرض، يقال الحج واجب وفرض، يقال: بر الوالدين واجب وفرض، وهكذا على القول الثالث، وهو القول المعروف المشهور؛ لأن الفرائض والواجبات معناهما واحد، فالفرض معناه الواجب؛ ولهذا نقول: إن قوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿إن الله تعالى فرض فرائض، فلا تضيعوها﴾ يعني ما أوجبه الله -جل وعلا -في القرآن فلا نضيعه، نهى -عليه الصلاة والسلام- عن تضييعه، وما أمر به المصطفى -ﷺ- فهو من حيث اللزوم والإلزام بعدم تضييعه بدليل خارج عن هذا الدليل، وهو بدليل قول الله -جل وعلا -: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ وبقوله -جل وعلا: - ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ والآيات كثيرة في هذا الباب، وبقوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿ألا وإني أوتيت الكتاب، ومثله معه﴾ إلى أن قال: ﴿ألا وإن ما حرم رسول الله -ﷺ- مثل ما حرم الله﴾ في الحديث المعروف، حديث تحريم الخمر في خيبر إلى آخره.
المقصود أن قوله: ﴿فلا تضيعوها﴾ يعني: امتثلوا وأدوا هذه الفرائض، ولا تضيعوها بعدم الامتثال، فإن الله ما فرضها إلا ليمتثل، وهذا دليل على أن من ضيع أثم؛ لأنه نهى عن التضييع، وهذا داخل ضمن القاعدة أن ترك الواجب محرم.
قال: ﴿وحد حدودا فلا تعتدوها﴾ هذا اللفظ ﴿حد حدودا فلا تعتدوها﴾ يدخل فيه البحث من جهات كثيرة، لكن ألخص لك ذلك بتقرير قاعدة عامة في فهم نصوص الكتاب والسنة، التي جاء فيها لفظ الحد والحدود، وهي أنها جاءت على ثلاثة أنواع من الاستعمال:
الأول: أن يؤتى بلفظ الحدود بإطلاق، يعني: بلا أمر أو نهي بعدها، كقوله -تعالى- في سورة النساء: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ أو تأتي، ويكون بعدها النهي عن الاعتداء، كقوله -جل وعلا -: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ وكقوله: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا﴾. والثالث: أن يكون بعد ذكر الحدود النهي عن المقاربة، فلا تقربوها في آية البقرة التي فيها ذكر الصيام والاعتكاف ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا﴾ فهذه ثلاثة أنواع في القرآن.
وفي السنة أتى الحد -أيضا- ويراد به العقوبات المقدرة، أو يراد به الذنوب التي عليها عقوبات، يعني: المحرمات التي يجب في حق من اقتحمها أن يعاقب.
إذا تقرر ذلك، فنرجع إلى تأصيل هذا في أن الحدود لفظ استعمل في الكتاب والسنة، واستعمل في كلام الفقهاء، وكلامي -السالف- في التقسيم إلى الأنواع، هذا إنما هو لنصوص الكتاب والسنة، وأما التعبير بالحدود في كتب أهل العلم وأهل الفقه، فهذا استعمال اصطلاحي، ليس هو استعمال الحدود في نصوص الكتاب والسنة. إذا تبين هذا، فالنوع الأول - ذكرنا لكم ثلاثة أنواع- النوع الأول: كقوله: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ أو كقوله: ﴿وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ﴾ وكقوله: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا﴾ فإذا ذكر الحدود بلا كلمة بعدها، يعني: نهي عن الاعتداء، أو ذكر بعدها النهي عن الاعتداء، فإن المراد بالحدود هنا الفرائض يعني: ما أُذِن به، الفرائض، أو ما أذن به، فما أذن به فرضا كان، أو مستحبا، أو مباحا، فالحدود هنا المراد بها هذه الأشياء؛ ولهذا جاء بعدها ﴿فَلاَ تَعْتَدُوهَا﴾ فالذي يخرج من دائرة المأذون به إلى خارج عن المأذون به، فقد تعدى الحد، وقد خرج عنه، وهذا الحد، هو حد المأذون به، فهذا نوع.
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ جاءت بعد بيان ما فرض الله -جل وعلا -في التركات ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ﴾ الآيات في سورة النساء، لما أتمها في آيتين قال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ يعني: هذا ما أمر الله -جل وعلا -به وشرعه، وهذا معناه أن هذه حدود المأمور؛ ولهذا عقبها بالطاعة، قال: ﴿وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ﴾ ﴿وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ هذه الحدود هي ما أذن به، وأمر به، هذا هو النوع الأول، فالحدود هنا ليست هي المحرمات، الحدود هي ما أذن به، يدخل فيها الواجبات والمستحبات والمباحات.
الحدود بالمعنى الثاني إذا جعلت للمحرمات فلها ضابطان:
الأول: أن يكون بعدها ﴿فَلاَ تَقْرَبُوهَا﴾ وأن يكون بعدها، أو معها ذكر العقوبة، وهذا يعني: أن الحدود هنا هي المحرمات؛ لهذا ناسب أن يكون معها النهي عن القربان، النهي عن الاقتراب ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا﴾ يعني: المحرمات لا تقرب، ولا يقترب منها، فهذا نوع؛ ولأجل هذا النوع قيل في العقوبات التي شُرِعت لمن انتهك، تطهيرا لمن انتهك المحرمات، قيل لها حدود، من قبيل رؤية هذا النوع دون غيره، وهذا شائع كثير في اللغة وفي الشريعة، فإذن العقوبات التي شرعت لمن ارتكب محرما فقارب، أو انتهك حدود الله قيل للعقوبة حد؛ لأنه دخل في الحد، وقيل لها: حدود؛ لأنه اقتحم الحدود.
وأما النوع الثالث، وهو العقوبات التي جاءت في بعض الأحاديث، فهذه المراد منها ما جعل في الشرع له عقاب بعينه، فيقال: حد السرقة، حد الخمر … إلى آخره، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله﴾ في حد من حدود الله، يعني: إلا في معصية جاءت الشريعة بالعقوبة فيها، ويدخل في هذا الحدود عند الفقهاء والتعزيرات عند الفقهاء، وقوله -عليه الصلاة والسلام- في هذا القسم الثالث: ﴿لا يجلد فوق عشرة أسواط﴾ يعني: تأديبا.
فلا يحل لأحد أن يؤدب من أبيح له تأديبه فوق عشرة أسواط، إلا في حد من حدود الله، يعني: إلا في عقوبة جاء الشرع بها، إما أن تكون حدا على اصطلاح الفقهاء، أو أن تكون تعزيرا، وهذا بحث طويل في كتاب الحدود، ومعرفة الحدود والتعزيرات في الفقه، لكن ضبطت لك هذا على نحو ما ذكرت لك من التبسيط؛ ليجتمع لك شمل ما أراد به الفقهاء اصطلاحهم الحدود، وما جاءت النصوص بكلمة الحدود.
إذا تقررت هذه القاعدة، وهذا التحقيق في فهم هذه الكلمة التي أشكلت على كثير من العلماء؛ ولعدم فهمها ذهبوا إلى مذاهب شتى.
قال -عليه الصلاة والسلام- "نقول هنا": ﴿وحد حدودا فلا تعتدوها﴾ هنا الحدود على ما ذكرنا: هي ما أذن به، الواجبات والمستحبات وما أشبه ذلك؛ لهذا قال: ﴿حد حدودا فلا تعتدوها﴾ يعني: لا تعتد ما أُذِن لك، فكن في دائرة الواجب والمستحب والمباح، ولا تنتقل منه إلى غيره، فالأول: ﴿فرض فرائض فلا تضيعوها﴾ يعني: امتثل الفرائض، أد الواجبات، والثاني: كن في دائرة المستحب والمباح، ولا تتعده إلى غيره.
ثم قال: ﴿وحرم أشياء فلا تنتهكوها﴾ وهذا من العطف المغاير؛ لأن التحريم غير تعدي الحدود -كما ذكرنا لك-، من بيان فهم نصوص الكتاب والسنة في هذه المسألة المهمة، فما حرم الله -جل وعلا -نهانا -عليه الصلاة والسلام- أن تنتهكه، والتعبير بالانتهاك -أيضا- يفيد الاعتداء وعدم المبالاة ممن انتهك المحرمات، قال: ﴿وحرم أشياء فلا تنتهكوها﴾ وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿حرم أشياء﴾ يفيد أن هذه الأشياء المحرمة قليلة؛ ولهذا تجد أن أصول المحرمات في الأطعمة قليلة ﴿قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً﴾ … إلى آخر الآية، أو المحرمات بعامة ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ الآيات المعروفة في الوصايا العشر في آخر سورة الأنعام، أو محرمات في اللباس، فهي محدودة بالنسبة للرجال وبالنسبة للنساء، أو محرمات في الأشربة فهي -أيضا- محدودة، أو محرمات في المنازل، فهي محدودة، ومحرمات في المراكب، فهي محدودة.
لهذا المحرمات أشياء قليلة بالنسبة لغير المحرمات؛ لأن دائرة المباح -ولله الحمد- أوسع؛ لهذا قال: ﴿وحرم أشياء﴾ وهذه الأشياء قليلة، فعجيب أن تنتهك، فقال: ﴿فلا تنتهكوها﴾ فيكون هذا المنتهك لهذه المحرمات شيء في نفسه جعله ينتهك هذا القليل، ويغرى بهذا القليل؛ ولهذا لم يحرم الشرع شيئا فيه لابن آدم منفعة، في حياته حاجية أو تحسينية أو ضرورية، بل كل المحرمات يمكنه الاستغناء عنها، ولا تؤثر عليه في حياته.
فما حرم الله -جل وعلا -أو حرمه رسوله -ﷺ- من أشياء، فإنه لا حاجة لابن آدم إليه في إقامة حياته، أو التلذذ بحياته، فالمباحات والمستحبات يمكنه أن يتلذذ فيها بأشياء كثيرة تغنيه عن الحرام.
قال: ﴿وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها﴾. "سكت عن أشياء": يعني: أن الله سكت، وهذا السكوت الذي وُصِف الله -جل وعلا -به ليس هو السكوت المقابل للكلام، يقال: تكلم وسكت، وإنما هذا سكوت يقابل به إظهار الحكم، فالله -جل وعلا -سكت عن التحريم، بمعنى لم يحرم، لم يظهر لنا أن هذا حرام، فالسكوت هنا من قبيل الحكم، سكوت عن الحكم، ليس سكوتا عن الكلام، فغلط على هذا من قال: إن هذه الكلمة يستدل بها على إثبات صفة السكوت لله -جل وعلا -، وهذا مما لم يأت في نصوص السلف في الصفات، وهذا الحديث وأمثاله لا يدل على أن السكوت صفة؛ لأن السكوت قسمان: سكوت عن الكلام، وهذا لا يوصف الله -جل وعلا -به، بل يوصف الله -سبحانه وتعالى- بأنه متكلم، ويتكلم كيف شاء، وإذا شاء، متى شاء، وأما صفة السكوت عن الكلام، فهذه لم تأت في الكتاب ولا في السنة، فنقف على ما وُقِفنا عليه، يعني: على ما أوقفنا الشارع عليه، فلا نتعدى ذلك.
والقسم الثاني: من السكوت، السكوت عن إظهار الحكم، أو عن إظهار الخبر وأشباه ذلك، فلو فُرِض -مثلا- أن أنا أمامكم الآن، وأتكلم باسترسال، سكت عن أشياء، وأنا مسترسل في الكلام، بمعنى أني لم أظهر لكم أشياء أعلمها، تتعلق بالأحاديث التي نشرحها، وسكوتي في أثناء الشرح عن أشياء لم أظهرها لكم، أوصف فيه بالسكوت؟
فتقول -مثلا-: فلان سكت في شرحه عن أشياء كثيرة، لم يبدها لأجل أن المقام لا يتسع لها، مع أني متواصل الكلام، فإذاً لا يدل السكوت، يعني: في هذا، يعني: السكوت عن إظهار الحكم عن السكوت الذي هو صفة، والله -جل وعلا -له المثل الأعلى، فنصفه بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله -ﷺ-.
لا نتجاوز القرآن والحديث، فنصفه بالكلام، ولا نصفه بالسكوت الذي هو يُقابَل به الكلام، وإنما يجوز أن تقول: إن الله -جل وعلا -سكت عن أشياء، بمعنى لم يظهر لنا حكمها، إذا تقرر هذا من جهة البحث العقدي، فنرجع إلى قوله: ﴿سكت عن أشياء﴾ بما يدل على أن هذه الأشياء قليلة.
﴿رحمة بكم، أو رحمة لكم غير نسيان﴾ السكوت بعدم إظهار بعض أحكام القضايا، رحمة لا نسيان، والله -جل وعلا -ليس بنسيٍّ، كما قال -سبحانه-: ﴿وَ مَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ ﴿فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَ لاَ يَنْسَى﴾ فالله -سبحانه- ليس بذي نسيان، بل هو الحفيظ العليم الكامل في صفاته وأسمائه، سبحانه وتعالى، وجل وتقدس ربنا.
فإذا هناك أشياء لم يبين لنا حكمها، فالسكوت عنها رحمة غير نسيان، أمرنا -عليه الصلاة والسلام- ألا نبحث عنها فقال: ﴿فلا تبحثوا عنها﴾.
إذا تقرر هذا، فالأشياء المسكوت عنها أنواع:
النوع الأول : ما لم يأت التنصيص عليه من المسائل، لكنها داخلة في عموم نصوص الكتاب والسنة، داخلة في العموم، داخلة في الإطلاق، وداخلة في مفهوم الموافقة، أو مفهوم المخالفة، أو في المنطوق، أو أشباه ذلك، مما هو من مقتضيات علم أصول الفقه.
فهذا النوع، مما دلت عليه النصوص بنوع من أنواع الدلالات المعروفة في أصول الفقه، هذا لا يقال عنه: إنه مسكوت عنه؛ لأن الشريعة جاءت ببيان الأحكام من أدلتها بالكتاب والسنة، بأنواع الدلالات، فهذا النوع لا يصح أن يقال: إنه مسكوت عنه؛ ولهذا العلماء أدخلوا أشياء حدثت في عمومات النصوص، ففهموا منها الحكم، أو في الإطلاق، أو في المفهوم وأشباه ذلك، وإذا أردنا أن نسرد الأمثلة، فهي كثيرة يضيق المقام عنها تراجعونها في المطولات.
النوع الثاني: أشياء مسكوت عنها، لكن داخلة ضمن الأقيسة، يعني: يمكن أن يقاس المسكوت عنه على المنصوص عليه، وقد ذهب جمهور علماء الأمة إلى القول بالقياس، إذا كانت العلة واضحة، اجتمعت فيها الشروط، ومنصوصا عليها، فإذا كان القياس صحيحا، فإن المسألة لا تعد مسكوتا عنها.
الحالة الثالثة: أن تكون المسألة مسكوتا عنها، بمعنى أنه لا يظهر إدخالها ضمن دليل، فكانت في عهده -عليه الصلاة والسلام- هذا نوع، ولم ينص على حكمها، ولم تدخل ضمن دليل عام، فسُكِت عنها، فهذا يدل أنها على الإباحة؛ لأن الإيجاب أو التحريم نقل عن الأصل، فالأصل أن لا تكليف، ثم جاء التكليف بنقل أشياء عن الأصل، فلا بد للوجوب من دليل، ولا بد للتحريم من دليل، فما سكت عنه، فلا نعلم له دليلا من النص، من الكتاب والسنة، ولا يدخل في العمومات، وليس له قياس، فهذا يدل على أنه ليس بواجب، ولا يجوز البحث عنه، ولهذا أنكر النبي -عليه الصلاة والسلام - على من سأله عن الحج فقال الرجل: ﴿يا رسول الله، أفي كل عام؟﴾ هذه مسألة مسكوت عنها، وتوجه الخطاب للرجل بألا يبحث عن هذا، فسكت عن وجوب الحج، هل يتكرر أم لا يتكرر؟ والأصل أنه يحصل الامتثال بفعله مرة واحدة، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-:
﴿لو قلت: نعم؛ لوجبت. زروني ما تركتكم﴾ يعني: إذا تركت البيان، فاسكتوا عن ذلك، قد ثبت في صحيح مسلم أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: ﴿إن أشد المسلمين -في المسلمين- جرما رجل سأل عن شيء، فحرم لأجل مسألته﴾. قد قال -جل وعلا -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَ إِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا﴾ فإذا هذا النوع مما سكت عنه، فلا يسوغ لنا أن نبحث، ونتكلف الدليل عليها، تلحظ -أحيانا- من بعض الأدلة التي يقيمها بعض أهل العلم أن فيها تكلفا للاستدلال لحكم المسألة، فإذا كان الدليل لا يدخل فيها بوضوح، فإنها تبقى علي الأصل.
﴿وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها﴾ وهذا من رحمة الله -جل وعلا -بعباده.
أسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، أن يلهمني وإياكم الرشد والسداد، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يثبت العلم في قلوبنا، ويرزقنا زكاته والعمل به، وتعليمه، والإحسان في ذلك كله.
بقي عندنا اثنا عشر حديثا، وبقي عندنا جلستان غدا بعد العشاء، ويوم الخميس عصرا نكمل -إن شاء الله تعالى- البقية؛ لأن الأحاديث الباقية قصيرة، وليست بطويلة، وأحاديث اليوم وما قبل كانت طويلة في ألفاظها، وإلى لقاء -إن شاء الله تعالى- وأثابكم الله.