الشيخ صالح آل الشيخ
هذا الحديث فيه ذكر الزهد، الزهد في الدنيا، والزهد فيما في أيدي الناس، وهو حديث أصل في بيان كيف يكون المرء محبوبا عند الله -جل وعلا -وعند الناس.
وهو -أيضا- من أحاديث الوصايا؛ لأن النبي -ﷺ- أجاب عن سؤال مضمونه طلب الوصية، قال سهل بن سعد -رضى الله عنه-: ﴿جاء رجل إلى النبي -ﷺ- فقال يا رسول الله: دلني على عمل إذا عملته أحبني الله، وأحبني الناس﴾ وهذا السؤال يدل على علو الهمة؛ لأن محبة الله -جل وعلا -غاية المطالب ومحبة الناس للمرء، أو للعبد معناها أداء حقوقهم، والدين قائم على أداء حقوق الله وأداء حقوق العباد، فمن أدى حق الله -جل وعلا -أحبه الله، ومن أدى حقوق العباد وعاملهم بالعدل والإحسان، فإنه يثوب بمحبة الناس له، وهذا الذي يجمع بين الطرفين هو الصالح من عباد الله؛ لأن الصالح هو الذي يقوم بحق الله وحق العباد، والصلاح هو القيام بحقوق الله وحقوق الناس.
فهذا الحديث فيه ما يحصل به محبة الرب -جل وعلا -للعبد فقال: ﴿دلني على عمل إذا عملته أحبني الله﴾ وهذا فيه تنبيه إلى أصل، وهو أن همة المرء ينبغي أن تكون مصروفة لما به يحب الله العبد، وليس أن تكون مصروفه لمحبته هو لله -جل وعلا -، فالعباد كثيرون منهم من يحبون الله -جل وعلا -، بل كل متديِّن بالباطل أو بالحق، فإنه ما تدين إلا لمحبة الله -جل وعلا -، وليس هذا هو الذي يميز الناس، وإنما الذي يميز الناس عند الله -جل وعلا -هو من الذي يحبه الله، -جل وعلا -.
وقد قال بعض أئمة السلف -رحمهم الله-: ليس الشأن أن تحِب، ولكن الشأن كل الشأن أن تُحَب، يريد أن محبة العبد لربه -جل وعلا -هذه تحصل إما بموافقة مراد الله، أو بمخالفة مراد الله، فالنصارى يحبون الله، وعباد اليهود يحبون الله، وعباد الملل يحبون الله، وعباد جهلة المسلمين يحبون الله، ولكن ليس هؤلاء بمحبوبين لله -جل وعلا -إلا إذا كانوا على ما يحبه الله -جل وعلا -ويرضاه من الأقوال والأعمال.
إذاً فحصل من ذلك أن السعي في محبة الله للعبد هذا هو المطلب، وهذا إنما بالرغب في العلم ومعرفة ما يحبه الله -جل وعلا -ويرضاه، فإذا عرفت كيف يحب الله العبد، أو إذا عرفت بما يحب الله -جل وعلا -العبد، حصل لك السعي في محبة الله -جل وعلا -.
وقد قال -تعالى-: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ فصرفهم عن الدعوة إلى البرهان، قال هنا: ﴿دلني على عمل إذا عملته أحبني الله﴾ وفي قوله: ﴿دلني على عمل﴾ ما يشعر أن الصحابي فقه أن محبة الله -جل وعلا- للعبد تكون بالعمل، وهذا خلاف ما يدعيه بعضهم أنه يكتفي بما يقوم في القلب، وإن كانت الأعمال مخالفة لذلك، بل إنما يحصل حب الله -جل وعلا -للعبد بعمل قلبي وعمل بدني من العباد، وقد قال -جل وعلا- : ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ … الآية.
قال: ﴿دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس﴾ فقال: ﴿ازهد في الدنيا يحبك الله﴾ يحب هذه مجزومة، ولكن لأجل التقاء الساكنين صارت مفتوحة، ولا تقرؤها بالضم؛ لأن المعنى يتغير، كما تقول لم يحب فلان كذا؛ لأنها إذا كان الحرف مشددا، فإنه إذا دخل عليه جازم يصبح مفتوحا؛ لأجل التقاء الساكنين، وكما هو معلوم في النحو، ويحبك مجزوم جواب الطلب، أو جواب الأمر، قال: ﴿ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس﴾ الوصية جمعت الزهد.
والزهد في اللغة: هو الأمر القليل الذي لا يُؤْبَهُ له، وكذلك زهد في الشيء يعني: إذا جعله شيئا قليلا لا يؤبه له، وسعر زهيد، إذا كان قليلا ليس مثله مما يلتفت إليه، وهكذا، فالزهد في الدنيا أن تكون الدنيا في القلب غير مرفوع بها الرأس، يعني: ألا تكون الدنيا في القلب، واختلفت عبارات العلماء كثيرا في تفسير الزهد، ففسره طائفة بأن الزهد هو أن تكون فيما في يدي الله -جل وعلا -وبعطاء الله أوثق مما في يدك، يعني: أن يصح اليقين بأن ما عند الله -جل وعلا -أوثق مما في يديك، وهذا تفسير روي عن بعض الصحابة، وروي مرفوعا -أيضا- إلى النبي -ﷺ- لكن الصحيح أنه عن بعض الصحابة، هو عن أبي صُبَيْح الخولاني قال فيه:
"إن الزهد أن تكون فيما في يدي الله أوثق مما في يدك"، وهذا يعني أن ما عند الله -جل وعلا- في الدنيا مما وعد به عباده، وما عنده في الآخرة، تكون الثقة به أعظم مما تمارسه في الدنيا، وهذا ينشأ عن قلب عظم يقينه بربه -جل وعلا- وعظم يقينه وتصديقه بوعده ووعيده، وعظم توكله على الله -جل وعلا- وهذا حقيقه الزهد، وأيضا فسر الزهد بأنه الإعراض عن الحرام، والاكتفاء بالحلال، وهذا طريقة من قال: إن كل مقتصد من عباد الله زاهد.
يعني: كل من ابتعد عن الحرام، وأقبل على الحلال، فاقتصر عليه، فإنه زاهد، وهذا عندهم زهد في المحرم، فيصح الوصف بأنه زاهد إذا زهد في المحرم، وهذا النوع من الزهد، وليس هو الزهد في نصوص الشريعة، ومنهم من فسر الزهد بعامة بأن الزهد ترك الدنيا والإقبال على الآخرة، ترك الدنيا بفضول مباحاتها، والإقبال على الآخرة والتعبد.
فالزاهد: هو الذي ترك الدنيا، وأقبل على الآخرة، وهذا -أيضا- من التعاريف المعروفة، لكنه ليس بصحيح؛ لأن الصحابة -رضوان الله عليهم- هم سادة الزهاد، ولم يتركوا الدنيا، فلم يستعملوا المباحات، بل عملوا بما يحب الله -جل وعلا -ويرضاه وأخذوا نصيبهم من الدنيا، كما قال -جل وعلا -: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَ لاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ وأيضا فُسِّر الزهد بتفسيرات كثيرة متعددة نصل إلى آخرها، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وهو أصح ما قيل في الزهد؛ لصحة اجتماعه مع ما جاء في الأحاديث، وكذلك ما دلت الآيات، وكذلك ما كان عليه حال الصحابة وحال السلف الصالح -رضوان الله عليهم- قال:
"الزهد: هو ترك ما لا ينفع في الآخرة"، فمن كان بقلبه الرغبة في الآخرة، وأنه لا يعمل العمل إلا إذا كان نافعا له في الآخرة، وإذا لم يكن نافعا له في الآخرة، فإنه يتركه، فهذا هو الزاهد، فعلى هذا يكون الزاهد غنيا، وعلى هذا يكون الزاهد مشتغلا ببعض المباحات، إذا كان اشتغاله بها مما ينفعه في الآخرة؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿روحوا عن القلوب ساعة بعد ساعة﴾ فمن استعان بشيء من اللهو المباح على قوته في الحق، فهذا لا يخرج عن وصف الزهادة؛ لأنه لم يفعل ما لا ينفعه في الآخرة، وهذا حاصله أن إقباله على الآخرة فقط، فلا يتأثر بمدح الناس، ولا يتأثر بذمهم، ولا بثنائهم ولا بترك الثناء، وإنما هو يعمل ما ينفعه في الآخرة.
ويترك الاشتغال بكل المباحات، لأن الاشتغال بكل المباحات لا يستقيم مع ترك الرغبة في الدنيا، وكل المباحات لا تنفع في الآخرة، وإنما الذي ينفع بعض المباحات؛ ولهذا ذهب قائل هذا القول وهو الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله-: إلى أن الاشتغال بفضول بالمباحات والإكثار منها لا يجوز، يعني: أنه كلما أقبل عليه مباح غشيه دون مواربة، فقال: هذا لا يجوز وهو من اختيارات الشيخ ابن تيمية، رحمه الله تعالى.
واستدل بقوله -تعالى-: ﴿وَ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ والاستدلال ظاهر، حيث نهي -عليه الصلاة والسلام- والنهي لأمته على وجه التبع، أن يمد المرء عينيه إلى ما مُتِّع به الخلق من زهرة الحياة الدنيا، ومن مد عينيه إلى ما متع به الخلق من زهرة الحياة الدنيا، فإنه يفوته الزهد في الدنيا؛ لأنه لا بد وأن يحصل بالقلب نوع تعلق بالدنيا، وهذا خلاف الزهادة، فتحصل من ذلك أن الزهد ليس معناه الفقر، وليس معناه ترك المال، وإنما الزهد حقيقة في القلب بتعلقه بالآخرة، وتجانبه وابتعاده عن الدنيا، من حيث التعلق، فيتعامل بأمور الدنيا على أنها في يده، وليست في قلبه، فتخلص قصده، ونيته في كل عمل يعمله في أن يكون نافعا له في الآخرة.
فإذا عامل -مثلا- بالبيع والشراء، فإنه يستعين به على الحق، وعلى ما ينفعه في الآخرة، وقد قال رجل للإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: هل يكون الغنى زاهدا ؟ قال: نعم، إذا لم يأس على ما فاته من الدنيا، ولم يفرح بما كثر عنده منها.
قد يكون الرجل عنده مال وفير جدا، ولكنه إن نقص ما تأثر، وإن زاد ما فرح به، فهذا عنده وجوده يعني: زيادته، ونقصه واحد لإقباله على الآخرة، وإنما حصل هذا بيده، فيستعمله فيما ينفعه في الآخرة، وهذا من الأمر العظيم الذي فات إدراكه على كثير من الناس في هذه الأمة، فظنوا أن الزهادة الإعراض عن المال، والإعراض عما يحصل للمرء به نفع في الآخرة، وسئل الحسن فقيل له: -الحسن، أو غيره- فقيل له: من الزاهد؟ فقال: "الزاهد هو الذي إذا رأى غيره ظن أنه خير منه".
وهذا من عظيم المعاني، التي اخترعها الحسن -رحمه الله- حيث قال: إن الزاهد هو الذي يفضل غيره عليه، يعني: إذا رأى أحدا من المسلمين ظن أنه خير منه، يعني: عند الله -جل وعلا -.
وهذا يعني: أنه غير متعلق بالدنيا مزدر نفسه في جنب الله -جل وعلا -غير مترفع على الخلق، وهذا إنما يحصل لمن منَّ الله عليه، فعمر قلبه بالرغبة في الآخرة، وبالبعد عن التعلق بالدنيا، والكلام على تاريخ الزهد كثير.
إذا تقرر هذا، فنرجع إلى قوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿ازهد في الدنيا يحبك الله﴾.
والزهد في الدنيا معناه: أن تكون الدنيا قليلة حقيرة في قلبك فلا ترفع، فلا ترفع بها رأسك، يعني أنه إذا تصرف لا يتصرف للدنيا، إذا فعل لا يفعل للدنيا، وإنما يكون لله -جل وعلا-، فينقلب حامده وذامه من الناس سواء، رضي عنه الناس، أو لم يرضوا عنه، فإنه يعامل ربه -جل وعلا- بما أمر الله -جل وعلا- به من التصرفات والأعمال، فإذا: ﴿ازهد في الدنيا يحبك الله﴾ يعني: ليكن تعلقك بالآخرة، وأخرج الدنيا من قلبك، أو قللها من قلبك؛ لأن "ازهد" معناه: قلل، وإذا كان كذلك حصلت لك محبة الله؛ لأنه إذا اجتمع في القلب الرغبة في الآخرة، فإنه يكون مع الإقبال على الله -جل وعلا- والابتعاد عن دار الغرور.
قال: ﴿يحبك الله﴾ وحب الله -جل وعلا- صفة من صفاته، التي يتبعها أهل السنة والجماعة له على الوجه الذي يليق بجلال الله -جل وعلا- وعظمته، وقد جاء إثباتها في القرآن في آيات كثيرة، وكذلك في السنة، فهو -جل وعلا- يحب كما يليق بجلاله وعظمته، يحب لا حاجة لمحبوبه، أو لضعفه مع محبوبه، وإنما يحب -جل وعلا- لخير يسوقه إلى من يحب، فحبه -جل وعلا- كمال لا لحاجة، بل هو عن كمال غني، وعن كمال اقتدار فيحب عبده؛ لتقرب العبد منه، وحب -جل وعلا -للعبد من ثمراته أن يكون مع العبد المعية الخاصة، قال - عليه الصلاة والسلام-: ﴿وازهد فيما عند الناس يحبك الناس﴾.
﴿ازهد فيما عند الناس﴾ يعني: لا يكن قلبك متعلقا فيما في أيدي الناس، فإذا فعلت ذلك، فأخرجت ما في أيدي الناس من التعلق ومن الاهتمام، وكان ما عند الناس في قلبك لا قيمة له، سواء أَعَظُم أم قل، فإنه بذلك يحبك الناس؛ لأن الناس يرون فيه أنك غير متعلق بما في أيديهم، لا تنظر إلى ما أنعم الله به عليهم نظر رغبة، ولا نظر طلب، وإنما تسأل الله -جل وعلا- لهم التخفيف من الحساب، وتحمد الله -جل وعلا- على ما أعطاك، وما أنت فيه، فهذا إخراج ما في أيدي الناس من القلب، هذه حقيقة الزهادة فيما عند الناس، وإذا فعل ذلك المرء أحبه الناس؛ لأن الناس جبلوا على أنهم لا يحبون من نازعهم ما يختصون به، مما يملكون، أو ما يكون في أيديهم حتى إذا دخلت بيت أحد، ورأيت شيئا يعجبك، وظهر عند ذلك أنك أعجبت بكذا، فإنه يكون في نفس ذاك الآخر بعض الشيء. وهذا يعكِّر صفو المحبة، فوطن نفسك أن ما عند الناس في قلبك شيء قليل لا قيمة له، حقير لا قيمة له، حقير قيمة له مهما بلغ، وهذا في الحقيقة لا يكون إلا لقلب زاهد متعلق بالآخرة، لا ينظر إلى الدنيا أما من ينظر إلى الدنيا، فإنه يكون متعلقا بما في أيدي الناس.
فإذا نظر إلى ملك هذا تعلق به، وإذا نظر إلى ملك هذا تعلق به، ولا يزال يسأل، أو ينظر إليه، أو يتمتع به حتى لا يكون محبوبا عند الناس، فإذن هذه الوصية جمعت ما يكون فيه أداء حق الله -جل وعلا- والتخلص من حقوق الناس، فحق الله -جل وعلا- عظيم وطريقه أن تزهد فيما ابتلي به الخلق من الدنيا، أن تقلل الدنيا في قلبك وكذلك أن تقلل شأن ما في أيدي الناس، فتكون معلقا بالآخرة.
فهذه هي حقيقة هذه الوصية العظيمة، ولا شك أننا بحاجة إلى ذلك، خاصة في هذا الزمن الذي صار أكثر الخلق معلقين بالدنيا في قلوبهم، وينظرون إذا نظروا على جهة المحبة للدنيا، وهذا مما يضعف قلب المرء في تعلقه بالآخرة، وتعلقه بما يحب الله -جل وعلا -ويرضى.
فعظموا الآخرة وقللوا من شأن الدنيا، فبذلك يكون الزهد الحقيقي، والإقبال على الآخرة، والتجانف عن دار الغرور.
الشيخ ابن العثيمين
قوله ﴿جَاءَ رَجُلٌ﴾ لم يعين اسمه، ومثل هذا لا حاجة إليه، ولاينبغي أن نتكلف بإضاعة الوقت في معرفة هذا الرجل، وهذا يأتي في أحاديث كثيرة، إلا إذا كان يترتب على معرفته بعينه اختلاف الحكم فلابد من معرفته.
وقوله: ﴿دُلني عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَملتُهُ أَحَبَّني الله، وَأَحبَّني النَّاس﴾ هذا الرجل طلب حاجتين عظيمتين، أولهما محبة الله عزّ وجل والثانية محبة الناس.
فدله النبي ﷺ على عمل معين محدد، فقال: ﴿ازهَد في الدُّنيَا﴾ والزهد في الدنيا الرغبة عنها، وأن لا يتناول الإنسان منها إلا ما ينفعه في الآخرة، وهو أعلى من الورع، لأن الورع: ترك ما يضر من أمور الدنيا ، والزهد: ترك مالا ينفع في الآخرة، وترك ما لا ينفع أعلى من ترك ما يضر، لأنه يدخل في الزهد الطبقة الوسطى التي ليس فيها ضرر ولا نفع، فالزهد يتجنب مالا نفع فيه، وأما الوَرَع فيفعل ما أبيح له، لكن يترك ما يضره.
وقوله: ﴿يُحِبكَ الله﴾ هو بالجزم على أنه جواب : ﴿ازهَد﴾.
والدنيا: هي هذه الدار التي نحن فيها، وسميت بذلك لوجهين:
الوجه الأول: دنيا في الزمن.
الوجه الثاني: دنيا في المرتبة.
فهي دنيا في الزمن لأنها قبل الآخرة، ودنيا في المرتبة لأنها دون الآخرة بكثير جداً، قال النبي ﷺ : ﴿لَمَوضِعُ سوطِ أَحَدِكُم في الجَنَّةِ خَيرٌ مِنَ الدُّنيَا وَمَا فيهَا﴾ وقال النبي ﷺ ﴿ركعَتَا الفَجرِ خَيرٌ مِنَ الدُّنيَا وَمَا فيهَا﴾ إذاً الدنيا ليست بشيء.
ولذلك لا تكاد تجد أنه يمر عليك شهر أو شهران أو أكثر إلا وقد أصبت بالسرور ثم أعقبه حزن، وما أصدق وصف الدنيا في قول الشاعر:
فيوم علينا ويوم لنا ** ويوم نساء ويوم نسر
وقوله: ﴿وازهَد فيمَا عِندَ النَاس يُحِبكَ النَّاس﴾ أي لا تتطلع لما في أيديهم، ارغب عما في أيدي الناس يحبك الناس، وهذا يتضمن ترك سؤال الناس أي أن لا تسأل الناس شيئاً، لأنك إذا سألت أثقلت عليهم، وكنت دانياً سافلاً بالنسبة لهم، فإن اليد العليا المعطية خير من اليد السفلى الآخذة.
من فوائد هذا الحديث:
1- علو-همم الصحابة رضي الله عنهم، فلا تكاد تجد أسئلتهم إلا لما فيه خير في الدنيا أو الآخرة أو فيهما جميعاً.
وهنا السؤال: هل الصحابة رضي الله عنهم إذا سألوا مثل هذا السؤال يريدون أن يطلعوا فقط، أو يريدون أن يطلعوا ويعملوا؟
الجواب: الثاني، بخلاف كثير من الناس اليوم-نسأل الله أن لايجعلنا منهم- يسألون ليطلعوا على الحكم فقط لا ليعملوا به، ولذلك تجدهم يسألون عالماً ثم عالماً ثم عالماً حتى يستقروا على فتوى العالم التي توافق أهواءهم، ومع ذلك قد يستقبلونها بنشاط وقد يستقبلونها بفتور.
2- إثبات محبة الله عزّ وجل، أي أن الله تعالى يحب محبة حقيقية.
ولكن هل هي كمحبتنا للشيء؟
الجواب:لا، حتى محبة الله لنا ليست كمحبتنا لله، بل هي أعلى وأعظم، وإذا كنا الآن نشعر بأن أسباب المحبة متنوعة، وأن المحبة تتبع تلك الأسباب وتتكيف بكيفيتها فكيف بمحبة الخالق؟!! لا يمكن إدراكها.
الآن نحب الأكل، ونحب من الأكل نوعاً نقدمه على نوع، وكذلك يقال في الشرب، ونحب الجلوس إلى الأصحاب، ونحب الوالدين، ونحب النساء، فهل هذه المحبات في كيفيتها وحقيقتها واحدة؟
الجواب:لا، تختلف.
فمحبة الخالق عزّ وجل لنا-ليست كمحبتنا إياه، بل هي أعظم وأعظم، لكنها حقيقية.
زعم أهل التعطيل الذين حكموا على الله بعقولهم وقالوا:ما وافق عقولنا من صفات الله تعالى أثبتناه وما لا فلا، ولهذا قاعدتهم في هذا، يقولون: ما أقرته عقولنا من صفات الله أقررناه، وما خالف عقولنا نفيناه، وما لم توافقه ولم تخالفه فأكثرهم نفاه وقالوا:لا يمكن نثبته حتى يشهد العقل بثبوته، وبعضهم توقف فيه.
وأقربهم إلى الورع الذين توقفوا ومع ذلك فلم يسلكوا سبيل الورع، إذ سبيل الورع أن نثبت ما أثبته الله تعالى لنفسه مطلقاً، سواء أدركته عقولنا أم لا، وأن ننفي ما نفاه الله تعالى عن نفسه مطلقاً، سواء أثبتته عقولنا أو لا، وما لم ترد عقولنا بإثباته أو نفيه نثبته إن أثبته الله تعالى لنفسه، وننفيه إن نفاه الله تعالى عن نفسه.وعلى هذا فمحبة الله تعالى للعباد ثابتة بالقرآن والسنة وإجماع السلف الصالح ، قال الله تعالى: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ (المائدة: من الآية 54) وقال عزّ وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ (التوبة: من الآية 4) ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً﴾ (الصف: 4) وآيات متعددة.
فيقول أهل العقل الذين حكموا على الله بعقولهم: محبة الله يعني إثباته على العمل.
فنقول: الإثابة على العمل أليس من لازمها المحبة؟ لأنه لا يمكن أن يثيب على عمل إلا وهو يحبه، إذ العقل لا يمكن أن يحكم بأن أحداً يثبت على عمل وهو لا يحب العمل، العقل ينفي هذا، فإذا رجعنا إلى العقل صار العقل دليلاً عليه.
وحينئذ يجب أن نثبت المحبة بدون واسطة، فنقول: هي محبة حقيقية.
فلو أنكروا المحبة وقالوا: إن الله لا يحب فقد كذبوا القرآن، ولذلك نقول:إنكار حقيقة الصفات إن كان إنكار تكذيب وجحد فهو كفر، وإن كان إنكار تأويل فهذا فيه تفصيل:
١- إن كان للتأويل مساغ لم يكفر، لكنه خالف طريق السلف، فيكون بهذا الاعتبار فاسقاً مبتدعاً.
٢- وإن كان التأويل لا مساغ له لم يقبل منه أبداً، ولهذا قال العلماء في الأيمان لو قال شخص: والله لا أشتري الخبز، وذهب واشترى خبزاً، فقلنا له: عليك كفارة، فقال: لا، أنا أردت بالخبز الثوب، فلا يقبل منه، لأن هذا ليس له مساغ في اللغة.
لكن لو قال: والله لا أنام إلا على فراش ثم خرج إلى الصحراء ونام عليها، وقلنا له:حنثت لأنك لم تنم على فراش، قال: أردت بالفراش الأرض كما قال الله عزّ وجل: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً﴾ (البقرة: من الآية 22) فإنه يقبل، لأن هذا سائغ.
وعلى كل حال:طريق السلامة، وطريق الأدب مع الله، وطريق الحكمة أن نثبت لله ما أثبته لنفسه، سواء أدركته عقولنا أم لم تدركه، وأن ننفي ما نفاه الله عن نفسه سواء أدركته عقولنا أم لم تدركه، وأن نسكت عما سكت الله عنه.
3- أن الإنسان لا حرج عليه أن يطلب محبة الناس، أي أن يحبوه، سواء كانوا مسلمين أو كفاراً حتى نقول:لا حرج عليه أن يطلب محبة الكفار له، لأن الله عزّ وجل قال: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ (الممتحنة: من الآية 8) ومن المعلوم أنه إذا برهم بالهدايا أو الصدقات فسوف يحبونه، أو عدل فيهم فسوف يحبونه، والمحذور أن تحبهم أنت، ولهذا جاء في الحديث وإن كان ضعيفاً أن النبي ﷺ إذا أقبل على البلد قال: ﴿اللَّهمَّ حَبِّبْنَا إِلَى أَهْلِهَا، وَحبب صَالِحي أَهْلِهَا إِلَينَا﴾، فلما أراد المحبة الصادرة منه قال: ﴿صَالِحي أَهْلِهَا﴾ ولما أراد المحبة الصادرة من الناس قال: ﴿حَبِّبنَا إِلَى أَهْلِهَا﴾ مطلقاً.
4- فضيلة الزهد في الدنيا، ومعنى الزهد: أن يترك مالا ينفعه في الآخرة.
وليس الزهد أنه لا يلبس الثياب الجميلة، ولا يركب السيارات الفخمة، وإنما يتقشف ويأكل الخبز بلا إدام وما أشبه ذلك، ولكن يتمتع بما أنعم الله عليه، لأن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، وإذا تمتع بالملاذ على هذا الوجه صار نافعاً له في الآخرة، ولهذا لا تغتر بتقشف الرجل ولبسه رديء الثياب، فربَّ حية تحت القش، ولكن عليك بعمله وأحواله.
5- أن الزهد مرتبته أعلى من الورع، لأن الورع ترك ما يضر، والزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة.
6- أن الزهد من أسباب محبة الله عزّ وجل لقوله ﴿ازهَد في الدنيَا يُحِبكَ اللهُ﴾ ومن أسباب محبة الله للعبد وهو أعظم الأسباب: اتباع النبي ﷺ لقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ (آل عمران: 31).
7- الحث والترغيب في الزهد فيما عند الناس، لأن النبي ﷺ جعله سبباً لمحبة الناس لك، وهذا يشمل أن لا تسأل الناس شيئاً، وأن لاتتطلع وتعرِّض بأنك تريد كذا.
مثال الأول: أن ترى مع شخص من الناس ما يعجبك من قلم أوساعة، وتقول يا فلان: هذه ساعة طيبة، ألا تهديها عليَّ، فإن الهدية تذهب السخيمة، وتهادوا تحابوا، وأتى بالمواعظ من أجل أن يأخذ الساعة، لكن إذا كان هذا ذكياً قال: وأنت أيضاً أهدي عليَّ ساعتك ويأتي له بالنصوص.
أقول:إن سؤال الناس ما عندهم لا شك أنه من أسباب إزالة المحبة والمودة، لأن الناس يستثقلون هذا ويستهجنون الرجل ويستذلونه، واليد العليا خير من اليد السفلى.
مثال ثان: أن تعرض بأنك تريده كأن تقول:ما شاء الله هذا القلم الذي معك ممتاز، ليتني أحصل على مثله، وهذا كأنك تقول له:أعطني إياه.
فمثل هذا عليك أن تردعه، إذا طلب منك هذا فقل له: ابحث عنه في السوق، لأنني لا أحب أن الناس تدنو أنفسهم إلى هذا الحد، دع نفسك عزيزة ولا تستذل.
ولكن هنا مسألة: إذا علمت أن صاحبك لو سألته لسره ذلك، فهل تسأله؟
الجواب:نعم، لأن النبي ﷺ لما رأى اللحم على النار قال: ﴿ألم أرَ البرمة على النار﴾ قالوا:يا رسول الله: هذا لحم تصدق به على بريرة، فقال: ﴿هو لها صدقة، ولنا هدية﴾، لأننا نعلم علم اليقين أن بريرة رضي الله عنها سوف تسر، فإذا علمت أن سؤالك يسر صاحبك فلا حرج. والله الموفق
الشيخ صالح آل الشيخ
هذا الحديث فيه ذكر الزهد، الزهد في الدنيا، والزهد فيما في أيدي الناس، وهو حديث أصل في بيان كيف يكون المرء محبوبا عند الله -جل وعلا -وعند الناس.
وهو -أيضا- من أحاديث الوصايا؛ لأن النبي -ﷺ- أجاب عن سؤال مضمونه طلب الوصية، قال سهل بن سعد -رضى الله عنه-: ﴿جاء رجل إلى النبي -ﷺ- فقال يا رسول الله: دلني على عمل إذا عملته أحبني الله، وأحبني الناس﴾ وهذا السؤال يدل على علو الهمة؛ لأن محبة الله -جل وعلا -غاية المطالب ومحبة الناس للمرء، أو للعبد معناها أداء حقوقهم، والدين قائم على أداء حقوق الله وأداء حقوق العباد، فمن أدى حق الله -جل وعلا -أحبه الله، ومن أدى حقوق العباد وعاملهم بالعدل والإحسان، فإنه يثوب بمحبة الناس له، وهذا الذي يجمع بين الطرفين هو الصالح من عباد الله؛ لأن الصالح هو الذي يقوم بحق الله وحق العباد، والصلاح هو القيام بحقوق الله وحقوق الناس.
فهذا الحديث فيه ما يحصل به محبة الرب -جل وعلا -للعبد فقال: ﴿دلني على عمل إذا عملته أحبني الله﴾ وهذا فيه تنبيه إلى أصل، وهو أن همة المرء ينبغي أن تكون مصروفة لما به يحب الله العبد، وليس أن تكون مصروفه لمحبته هو لله -جل وعلا -، فالعباد كثيرون منهم من يحبون الله -جل وعلا -، بل كل متديِّن بالباطل أو بالحق، فإنه ما تدين إلا لمحبة الله -جل وعلا -، وليس هذا هو الذي يميز الناس، وإنما الذي يميز الناس عند الله -جل وعلا -هو من الذي يحبه الله، -جل وعلا -.
وقد قال بعض أئمة السلف -رحمهم الله-: ليس الشأن أن تحِب، ولكن الشأن كل الشأن أن تُحَب، يريد أن محبة العبد لربه -جل وعلا -هذه تحصل إما بموافقة مراد الله، أو بمخالفة مراد الله، فالنصارى يحبون الله، وعباد اليهود يحبون الله، وعباد الملل يحبون الله، وعباد جهلة المسلمين يحبون الله، ولكن ليس هؤلاء بمحبوبين لله -جل وعلا -إلا إذا كانوا على ما يحبه الله -جل وعلا -ويرضاه من الأقوال والأعمال.
إذاً فحصل من ذلك أن السعي في محبة الله للعبد هذا هو المطلب، وهذا إنما بالرغب في العلم ومعرفة ما يحبه الله -جل وعلا -ويرضاه، فإذا عرفت كيف يحب الله العبد، أو إذا عرفت بما يحب الله -جل وعلا -العبد، حصل لك السعي في محبة الله -جل وعلا -.
وقد قال -تعالى-: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ فصرفهم عن الدعوة إلى البرهان، قال هنا: ﴿دلني على عمل إذا عملته أحبني الله﴾ وفي قوله: ﴿دلني على عمل﴾ ما يشعر أن الصحابي فقه أن محبة الله -جل وعلا- للعبد تكون بالعمل، وهذا خلاف ما يدعيه بعضهم أنه يكتفي بما يقوم في القلب، وإن كانت الأعمال مخالفة لذلك، بل إنما يحصل حب الله -جل وعلا -للعبد بعمل قلبي وعمل بدني من العباد، وقد قال -جل وعلا- : ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ … الآية.
قال: ﴿دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس﴾ فقال: ﴿ازهد في الدنيا يحبك الله﴾ يحب هذه مجزومة، ولكن لأجل التقاء الساكنين صارت مفتوحة، ولا تقرؤها بالضم؛ لأن المعنى يتغير، كما تقول لم يحب فلان كذا؛ لأنها إذا كان الحرف مشددا، فإنه إذا دخل عليه جازم يصبح مفتوحا؛ لأجل التقاء الساكنين، وكما هو معلوم في النحو، ويحبك مجزوم جواب الطلب، أو جواب الأمر، قال: ﴿ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس﴾ الوصية جمعت الزهد.
والزهد في اللغة: هو الأمر القليل الذي لا يُؤْبَهُ له، وكذلك زهد في الشيء يعني: إذا جعله شيئا قليلا لا يؤبه له، وسعر زهيد، إذا كان قليلا ليس مثله مما يلتفت إليه، وهكذا، فالزهد في الدنيا أن تكون الدنيا في القلب غير مرفوع بها الرأس، يعني: ألا تكون الدنيا في القلب، واختلفت عبارات العلماء كثيرا في تفسير الزهد، ففسره طائفة بأن الزهد هو أن تكون فيما في يدي الله -جل وعلا -وبعطاء الله أوثق مما في يدك، يعني: أن يصح اليقين بأن ما عند الله -جل وعلا -أوثق مما في يديك، وهذا تفسير روي عن بعض الصحابة، وروي مرفوعا -أيضا- إلى النبي -ﷺ- لكن الصحيح أنه عن بعض الصحابة، هو عن أبي صُبَيْح الخولاني قال فيه:
"إن الزهد أن تكون فيما في يدي الله أوثق مما في يدك"، وهذا يعني أن ما عند الله -جل وعلا- في الدنيا مما وعد به عباده، وما عنده في الآخرة، تكون الثقة به أعظم مما تمارسه في الدنيا، وهذا ينشأ عن قلب عظم يقينه بربه -جل وعلا- وعظم يقينه وتصديقه بوعده ووعيده، وعظم توكله على الله -جل وعلا- وهذا حقيقه الزهد، وأيضا فسر الزهد بأنه الإعراض عن الحرام، والاكتفاء بالحلال، وهذا طريقة من قال: إن كل مقتصد من عباد الله زاهد.
يعني: كل من ابتعد عن الحرام، وأقبل على الحلال، فاقتصر عليه، فإنه زاهد، وهذا عندهم زهد في المحرم، فيصح الوصف بأنه زاهد إذا زهد في المحرم، وهذا النوع من الزهد، وليس هو الزهد في نصوص الشريعة، ومنهم من فسر الزهد بعامة بأن الزهد ترك الدنيا والإقبال على الآخرة، ترك الدنيا بفضول مباحاتها، والإقبال على الآخرة والتعبد.
فالزاهد: هو الذي ترك الدنيا، وأقبل على الآخرة، وهذا -أيضا- من التعاريف المعروفة، لكنه ليس بصحيح؛ لأن الصحابة -رضوان الله عليهم- هم سادة الزهاد، ولم يتركوا الدنيا، فلم يستعملوا المباحات، بل عملوا بما يحب الله -جل وعلا -ويرضاه وأخذوا نصيبهم من الدنيا، كما قال -جل وعلا -: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَ لاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ وأيضا فُسِّر الزهد بتفسيرات كثيرة متعددة نصل إلى آخرها، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وهو أصح ما قيل في الزهد؛ لصحة اجتماعه مع ما جاء في الأحاديث، وكذلك ما دلت الآيات، وكذلك ما كان عليه حال الصحابة وحال السلف الصالح -رضوان الله عليهم- قال:
"الزهد: هو ترك ما لا ينفع في الآخرة"، فمن كان بقلبه الرغبة في الآخرة، وأنه لا يعمل العمل إلا إذا كان نافعا له في الآخرة، وإذا لم يكن نافعا له في الآخرة، فإنه يتركه، فهذا هو الزاهد، فعلى هذا يكون الزاهد غنيا، وعلى هذا يكون الزاهد مشتغلا ببعض المباحات، إذا كان اشتغاله بها مما ينفعه في الآخرة؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿روحوا عن القلوب ساعة بعد ساعة﴾ فمن استعان بشيء من اللهو المباح على قوته في الحق، فهذا لا يخرج عن وصف الزهادة؛ لأنه لم يفعل ما لا ينفعه في الآخرة، وهذا حاصله أن إقباله على الآخرة فقط، فلا يتأثر بمدح الناس، ولا يتأثر بذمهم، ولا بثنائهم ولا بترك الثناء، وإنما هو يعمل ما ينفعه في الآخرة.
ويترك الاشتغال بكل المباحات، لأن الاشتغال بكل المباحات لا يستقيم مع ترك الرغبة في الدنيا، وكل المباحات لا تنفع في الآخرة، وإنما الذي ينفع بعض المباحات؛ ولهذا ذهب قائل هذا القول وهو الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله-: إلى أن الاشتغال بفضول بالمباحات والإكثار منها لا يجوز، يعني: أنه كلما أقبل عليه مباح غشيه دون مواربة، فقال: هذا لا يجوز وهو من اختيارات الشيخ ابن تيمية، رحمه الله تعالى.
واستدل بقوله -تعالى-: ﴿وَ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ والاستدلال ظاهر، حيث نهي -عليه الصلاة والسلام- والنهي لأمته على وجه التبع، أن يمد المرء عينيه إلى ما مُتِّع به الخلق من زهرة الحياة الدنيا، ومن مد عينيه إلى ما متع به الخلق من زهرة الحياة الدنيا، فإنه يفوته الزهد في الدنيا؛ لأنه لا بد وأن يحصل بالقلب نوع تعلق بالدنيا، وهذا خلاف الزهادة، فتحصل من ذلك أن الزهد ليس معناه الفقر، وليس معناه ترك المال، وإنما الزهد حقيقة في القلب بتعلقه بالآخرة، وتجانبه وابتعاده عن الدنيا، من حيث التعلق، فيتعامل بأمور الدنيا على أنها في يده، وليست في قلبه، فتخلص قصده، ونيته في كل عمل يعمله في أن يكون نافعا له في الآخرة.
فإذا عامل -مثلا- بالبيع والشراء، فإنه يستعين به على الحق، وعلى ما ينفعه في الآخرة، وقد قال رجل للإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: هل يكون الغنى زاهدا ؟ قال: نعم، إذا لم يأس على ما فاته من الدنيا، ولم يفرح بما كثر عنده منها.
قد يكون الرجل عنده مال وفير جدا، ولكنه إن نقص ما تأثر، وإن زاد ما فرح به، فهذا عنده وجوده يعني: زيادته، ونقصه واحد لإقباله على الآخرة، وإنما حصل هذا بيده، فيستعمله فيما ينفعه في الآخرة، وهذا من الأمر العظيم الذي فات إدراكه على كثير من الناس في هذه الأمة، فظنوا أن الزهادة الإعراض عن المال، والإعراض عما يحصل للمرء به نفع في الآخرة، وسئل الحسن فقيل له: -الحسن، أو غيره- فقيل له: من الزاهد؟ فقال: "الزاهد هو الذي إذا رأى غيره ظن أنه خير منه".
وهذا من عظيم المعاني، التي اخترعها الحسن -رحمه الله- حيث قال: إن الزاهد هو الذي يفضل غيره عليه، يعني: إذا رأى أحدا من المسلمين ظن أنه خير منه، يعني: عند الله -جل وعلا -.
وهذا يعني: أنه غير متعلق بالدنيا مزدر نفسه في جنب الله -جل وعلا -غير مترفع على الخلق، وهذا إنما يحصل لمن منَّ الله عليه، فعمر قلبه بالرغبة في الآخرة، وبالبعد عن التعلق بالدنيا، والكلام على تاريخ الزهد كثير.
إذا تقرر هذا، فنرجع إلى قوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿ازهد في الدنيا يحبك الله﴾.
والزهد في الدنيا معناه: أن تكون الدنيا قليلة حقيرة في قلبك فلا ترفع، فلا ترفع بها رأسك، يعني أنه إذا تصرف لا يتصرف للدنيا، إذا فعل لا يفعل للدنيا، وإنما يكون لله -جل وعلا-، فينقلب حامده وذامه من الناس سواء، رضي عنه الناس، أو لم يرضوا عنه، فإنه يعامل ربه -جل وعلا- بما أمر الله -جل وعلا- به من التصرفات والأعمال، فإذا: ﴿ازهد في الدنيا يحبك الله﴾ يعني: ليكن تعلقك بالآخرة، وأخرج الدنيا من قلبك، أو قللها من قلبك؛ لأن "ازهد" معناه: قلل، وإذا كان كذلك حصلت لك محبة الله؛ لأنه إذا اجتمع في القلب الرغبة في الآخرة، فإنه يكون مع الإقبال على الله -جل وعلا- والابتعاد عن دار الغرور.
قال: ﴿يحبك الله﴾ وحب الله -جل وعلا- صفة من صفاته، التي يتبعها أهل السنة والجماعة له على الوجه الذي يليق بجلال الله -جل وعلا- وعظمته، وقد جاء إثباتها في القرآن في آيات كثيرة، وكذلك في السنة، فهو -جل وعلا- يحب كما يليق بجلاله وعظمته، يحب لا حاجة لمحبوبه، أو لضعفه مع محبوبه، وإنما يحب -جل وعلا- لخير يسوقه إلى من يحب، فحبه -جل وعلا- كمال لا لحاجة، بل هو عن كمال غني، وعن كمال اقتدار فيحب عبده؛ لتقرب العبد منه، وحب -جل وعلا -للعبد من ثمراته أن يكون مع العبد المعية الخاصة، قال - عليه الصلاة والسلام-: ﴿وازهد فيما عند الناس يحبك الناس﴾.
﴿ازهد فيما عند الناس﴾ يعني: لا يكن قلبك متعلقا فيما في أيدي الناس، فإذا فعلت ذلك، فأخرجت ما في أيدي الناس من التعلق ومن الاهتمام، وكان ما عند الناس في قلبك لا قيمة له، سواء أَعَظُم أم قل، فإنه بذلك يحبك الناس؛ لأن الناس يرون فيه أنك غير متعلق بما في أيديهم، لا تنظر إلى ما أنعم الله به عليهم نظر رغبة، ولا نظر طلب، وإنما تسأل الله -جل وعلا- لهم التخفيف من الحساب، وتحمد الله -جل وعلا- على ما أعطاك، وما أنت فيه، فهذا إخراج ما في أيدي الناس من القلب، هذه حقيقة الزهادة فيما عند الناس، وإذا فعل ذلك المرء أحبه الناس؛ لأن الناس جبلوا على أنهم لا يحبون من نازعهم ما يختصون به، مما يملكون، أو ما يكون في أيديهم حتى إذا دخلت بيت أحد، ورأيت شيئا يعجبك، وظهر عند ذلك أنك أعجبت بكذا، فإنه يكون في نفس ذاك الآخر بعض الشيء. وهذا يعكِّر صفو المحبة، فوطن نفسك أن ما عند الناس في قلبك شيء قليل لا قيمة له، حقير لا قيمة له، حقير قيمة له مهما بلغ، وهذا في الحقيقة لا يكون إلا لقلب زاهد متعلق بالآخرة، لا ينظر إلى الدنيا أما من ينظر إلى الدنيا، فإنه يكون متعلقا بما في أيدي الناس.
فإذا نظر إلى ملك هذا تعلق به، وإذا نظر إلى ملك هذا تعلق به، ولا يزال يسأل، أو ينظر إليه، أو يتمتع به حتى لا يكون محبوبا عند الناس، فإذن هذه الوصية جمعت ما يكون فيه أداء حق الله -جل وعلا- والتخلص من حقوق الناس، فحق الله -جل وعلا- عظيم وطريقه أن تزهد فيما ابتلي به الخلق من الدنيا، أن تقلل الدنيا في قلبك وكذلك أن تقلل شأن ما في أيدي الناس، فتكون معلقا بالآخرة.
فهذه هي حقيقة هذه الوصية العظيمة، ولا شك أننا بحاجة إلى ذلك، خاصة في هذا الزمن الذي صار أكثر الخلق معلقين بالدنيا في قلوبهم، وينظرون إذا نظروا على جهة المحبة للدنيا، وهذا مما يضعف قلب المرء في تعلقه بالآخرة، وتعلقه بما يحب الله -جل وعلا -ويرضى.
فعظموا الآخرة وقللوا من شأن الدنيا، فبذلك يكون الزهد الحقيقي، والإقبال على الآخرة، والتجانف عن دار الغرور.