الشيخ صالح آل الشيخ
هذا الحديث حديث عظيم -أيضا- في بيان وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو حديث معلوم لديكم بتفاصيل الكلام عليه؛ لأنه كثر بيانه، وبيان ما فيه، لكن نختصر المقام، عن أبي سعيد الخدري -رضى الله عنه- قال: سمعت رسول الله -ﷺ- يقول: ﴿من رأى منكم منكرا، فليغيره بيده﴾ المنكر: اسم لما عرف في الشريعة قُبْحه والنهي عنه، فلا يكون منكرا حتى يكون محرما في الشريعة، وهنا قال: ﴿من رأى منكم منكرا، فليغيره بيده﴾ فهنا شرط و جواب الشرط، أما جواب الشرط، فهو الأمر بالتغيير باليد، وهذا الأمر على الوجوب مع القدرة، وأما فعل الشرط فهو قوله: ﴿من رأى منكم منكرا﴾ والفعل رأى هو الذي تعلق به الحكم، وهو وجوب الإنكار، ورأى هنا بصرية؛ لأنها تعدت إلى مفعول واحد، فحصل لنا بذلك أن معنى الحديث من رأى منكم منكرا بعينه، فليغيره بيده، وهذا تقييد لوجوب الإنكار بما إذا رُؤِيَ بالعين، وأما العلم بالمنكر، فلا يكتفى به في وجوب الإنكار، كما دل عليه ظاهر هذا الحديث.
قال العلماء: ظاهر الحديث على أنه لا يجب حتى يرى بالعين، ويُنَزَّل السمع المحقق منزلة الرأي بالعين، فإذا سمع منكرا سماعا محققا، سمع صوت رجل وامرأة في خلوة محرمة سماعا محققا، يعرف بيقين أن هذا محرم، وأنه لا يفعل أن هذا في كلامه إنما هو مع أجنبية وأشبه ذلك، فإنه يجب عليه الإنكار؛ لتنزيل السماع المحقق منزلة النظر.
كذلك إذا سمع أصوات معازف، أو أصوات ملاهٍ، أو أشباه ذلك بسماع محقق، فإنه يجب عليه هنا الإنكار، وأما غير ذلك، فلا يدخل في الحديث، فإذا علم بمنكر، فإنه هنا لا يدخل في الإنكار، وإنما يدخل في النصيحة؛ لأن الإنكار عُلِّق بالرؤية في هذا الحديث، وينزل -كما قال العلماء- السماع المحقق -فقط- منزلة الرؤية قال: ﴿من رأى منكم منكرا﴾ وفي قوله: "منكرا" يظهر تعليق الأمر بالمنكر، دون الواقع فيه، فالحكم بالأمر بالتغيير باليد هذا راجع إلى المنكر، أما الواقع في المنكر، فهذا له بحث آخر.
قال: "فليغيره" يعني: فليغير المنكر، فلا يدخل في الحديث عقاب فاعل المنكر؛ لأن فاعل المنكر تكتنفه أبحاث، أو أحوال متعددة، فقد يكون الواجب معه الدعوة بالتي هي أحسن، وقد يكون التنبيه، وقد يكون الحَيْلولة بينه وبين المنكر والاكتفاء بزجره بكلام، ونحوه، وقد يكون بالتعزير، وقد يكون إلى آخر أحوال ذلك المعروفة، في كل مقام بحسب ذلك المقام، وما جاء فيه من الأحكام.
المقصود: أن الحديث دل بظاهره على تعليق وجوب الإنكار، ووجوب التغيير باليد بالرؤية، وما يقوم مقامها.
والثاني: بالمنكر نفسه، فتغيير المنكر، يعني -مثلا-: رجل أمامه زجاجة خمر، أو أمامه شيء من المُلْهِيات المحرمة، فإنكار المنكر ليس هو التعنيف للفاعل، وإنما هو تغيير هذا المنكر من الخمر، أو من الملاهي المحرمة، أو من الصور المحرمة، أو أشباه ذلك بتغييره باليد مع القدرة.
تغييره باليد مع القدرة، وأما الفاعل له فهذا له حكم آخر.
قال: ﴿فليغيره بيده﴾ والتغيير هنا أوجب التغيير باليد، وهذا مقيد بما إذا كان التغيير باليد مقدورا عليه، وأما إذا كان غير مقدور عليه، فإنه لا يجب، ومن أمثلة كونه مقدورا عليه: أن يكون في بيتك الذي لك الولاية عليه يعني: في زوجك وأبنائك وأشباه ذلك، أو في أيتام لك الولاية عليهم، أو في مكان أنت مسئول عنه، وأنت الولي عليه، هذا نوع من أنواع الاقتدار، فيجب عليك هنا أن تزيله، وإذا لم تغيره بيدك فتأثم، أما إذا كان في ولاية غيرك، فإنه لا تدخل القدرة هنا، أو لا توجد القدرة عليه؛ لأن المقتدر: هو من له الولاية فيكون هنا باب النصيحة لمن هذا تحت ولايته ليغيره من هو تحت ولايته والتغيير في الشرع ليس بمعنى الإزالة.
التغيير: اسم يشمل الإزالة، ويشمل الإنكار باللسان بلا إزالة، يعني أن يقال: هذا حرام، وهذا لا يجوز، ويشمل -أيضا- الاعتقاد أن هذا منكر و محرم؛ ولهذا جاء في هذا الحديث بيان هذه المعاني الثلاث، فقال عليه -الصلاة والسلام:- ﴿فإن لم يستطع - التغيير بيده - فبلسانه﴾ يعني: فليغيره بلسانه، ومن المعلوم أن اللسان لا يزيل المنكر دائما، بل قد يزول معه بحسب اختيار الفاعل للمنكر، وقد لا يزول معه المنكر، تقول مثلا لفلان: هذا حرام، وهذا منكر لا يجوز لك، قد ينتهي وقد لا ينتهي، فإذا أخبرت الخلق، أو المكلف الواقع في هذا المنكر، إذا أخبرته بأنه منكر وحرام فقد غيرت، وإذا سَكَتَّ، فإنك لم تغير.
وإن كنت لا تستطيع باللسان، فتغيره بالقلب تغييرا لازما لك لا ينفك عنك، ولا تعذر بالتخلف عنه، وهو اعتقاد أنه منكر ومحرم، والبراءة من الفعل يعني: بعدم الرضا به؛ لهذا جاء في سنن أبي داود أنه عليه -الصلاة والسلام- قال: ﴿إذا عملت الخطيئة كان من غاب عنها ورضيها كمن عملها، وكان من غاب عنها وكان ممن شهدها، فلم يفعلها كمن فعلها﴾ وهذا يعني: أن الراضي بالشيء كفاعله؛ لأن المنكر لا يجوز أن يقر، يعني: أن يقره المرء، ولو من جهة الرضا، وهذا ظاهر في قوله -جل وعلا-: ﴿فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ وفي الآية الأخرى: ﴿فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.
فمن جلس في مكان يستهزأ فيه بآيات الله، وهو جالس لا يفارق هذا المكان، فهو في حكم الفاعل من جهة رضاه بذلك؛ لأن الراضي بالذنب كفاعله كما قال العلماء، إذا تبين ذلك، فها هنا مسائل تتعلق بهذا الحديث، وهي أن الإنكار - وجوب الإنكار - متعلق بالقدرة بالإجماع، ومتعلق بظن الانتفاع عند كثير من أهل العلم.
قال طائفة من العلماء: إنما يجب الإنكار إذا غلب على ظنه أن ينتفع المنكر، يعني: باللسان، بما لا يدخل تحت ولايته، أما إذا غلب على ظنه أنه لا ينتفع، فإنه لا يجب الإنكار؛ وذلك لظاهر قول الله -جل وعلا:- ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى﴾ فأوجب التذكير بشرط الانتفاع، وهذا ذهب إليه جماعة من أهل العلم منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، ودل عليه عمل عدد من الصحابة -رضوان الله عليهم- كابن عمر وابن عباس وغيرهما، لما دخلوا على الولاة وأمراء المؤمنين في بيوتهم، وكان عندهم بعض المنكرات في مجالسهم، فلم ينكروها؛ وذلك لغلبة الظن أنهم لا ينتفعون بذلك؛ لأنها من الأمور التي أقروها وصارت فيما بينهم، وهذا خلاف قول الجمهور.
والجمهور على أنه يجب مطلقا، سواء غلب على الظن، أو لم يغلب الظن؛ لأن إيجاب الإنكار لحق الله -جل وعلا- وهذا لا يدخل فيه غلبة الظن، والقول الثاني، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية -كما ذكرت لكم- وجماعة، من أنه يجب مع غلبة الظن هذا أوجه من جهة نصوص الشريعة؛ لأن أعمال المكلفين مبنية على ما يغلب على ظنهم، والنبي -ﷺ- قال: ﴿من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه﴾ وعدم الاستطاعة هذه تشمل عدة أحوال، ويدخل فيها غلبة الظن ألا ينتفع الخصم، مثلا: إذا قابلت حليقا للحية، أو قابلت امرأة سفرت وجهها، ونحو ذلك، في بعض الأمكنة نجد حرجا هل ننكر أم لا ننكر؟
يغلب على ظننا في بعض الأحوال، أننا لو أنكرنا لما انتفع أولئك بذلك؛ لعلمهم بهذه المسألة، فيكتفى هنا بالإنكار بالقلب من جهة الوجوب، ويبقى الاستحباب في أنه يستحب أن تبقى هذه الشعيرة، وأن يفعلها من أراد فعل المستحب، وكما ذكرت لك هذا خلاف قول الجمهور، لكنه يتأيد بمعرفة حال الصحابة -رضوان الله عليهم- من أنهم إنما أنكروا ما غلب على ظنهم الانتفاع به، وإلا للزم منه أن يأثموا في ترك كثير من الواجبات في أحوال كثيرة ومعلومة.
قال في آخره: ﴿فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان﴾ ﴿فإن لم يستطع فبقلبه﴾ يعني: ينكر بقلبه، والإنكار بالقلب، يعني: بغض المنكر، وكراهته واعتقاد أنه منكر وأنه محرم ﴿وذلك أضعف الإيمان﴾ يعني: هذا أقل درجات الإيمان؛ لأنه هو الذي يجب على كل أحد، كل أحد يجب عليه هذا ﴿وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل﴾ لأن المنكر المجمع عليه إذا لم يعتقد حرمته، ولم يبغضه مع اعتقاد حرمته، فإنه على خطر عظيم في إيمانه.
هذا الحديث يدخل في بحثه الإنكار على الولاة، والإنكار على عامة الناس، ويدخل -أيضا- مراتب الإنكار، والقواعد التي تحكم ذلك، وهي كثيرة، يعني: مباحثه، أعني: مباحثه وفروعه كثيرة يطول المقام بذكرها، لكن أنبه على مسألة مهمة ذكرتها عدة مرات، وهي أن هناك فرقا ما بين النصيحة والإنكار في الشريعة، وذلك أن الإنكار أَضْيَقُ من النصيحة، فالنصيحة اسم عام يشمل أشياء كثيرة، كما مر معنا في حديث ﴿الدين النصيحة﴾ ومنها الإنكار، فالإنكار حال من أحوال النصيحة؛ ولهذا كان مقيدا بقيود وله ضوابطه، فمن ضوابطه: أن الإنكار الأصل فيه أن يكون عَلَناً؛ لقوله: ﴿من رأى منكم فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه﴾ وهذا بشرط رؤية المنكر.
وهنا ندخل في بحث مسألة بحثناها مرارا، وهي أن الولاة يُنْكَر عليهم إذا فعلوا المنكر بأنفسهم، ورآه من فعل أمامه ذلك الشيء، وعلى هذا يحمل هدي السلف في ذلك.
وكل الأحاديث التي جاءت، وهي كثيرة، أكثر من عشرة، أو اثني عشر حديثا في هذا الباب، فيها إنكار طائفة من السلف على الأمير، أو على الوالي، كلها على هذا الضابط، وهو أنهم أنكروا شيئا رأوه من الأمير أمامهم، ولم يكن هدي السلف أن ينكروا على الوالي شيئا أجراه في ولايته؛ ولهذا لما حصل من عثمان -رضي الله عنه- بعض الاجتهادات وقيل لأسامة بن زيد -رضي الله عنهما-: ألا تنصح لعثمان؟ ألا ترى إلى ما فعل؟ قال: أما إني بذلته له سرا، لا أكون فاتح باب فتنة.
ففرَّق السلف في المنكر الذي يُفعَل أمام الناس كحال الأمير الذي قدم خطبتي العيد على الصلاة، وكالذي أتى للناس وقد لبس ثوبين، وأحوال كثيرة في هذا، فرقوا ما بين حصول المنكر منه أمام الناس علنا، وما بين ما يجريه في ولايته، فجعلوا ما يجريه في ولايته بابا من أبواب النصيحة، وما يفعله علنا يأتي هذا الحديث: ﴿من رأى منكم منكرا فليغيره بيده﴾ مع الحكمة في ذلك؛ ولهذا قال رجل لابن عباس -رضي الله عنهما-: ألا آتي الأمير، فآمره وأنهاه؟ قال: لا تفعل، فإن كان ففيما بينك وبينه. قال: أرأيت إن أمرني بمعصية؟ قال: أما إن كان ذاك فعليك إذَنْ.
فدل هذا على أن الأمر والنهي المتعلق بالولي إنما يكون فيما بين المرء وبينه، فيما يكون في ولايته، وأما إذا كان يفعل الشيء أمام الناس، فإن هذا يجب أن ينكر من رآه بحسب القدرة وبحسب القواعد التي تحكم ذلك، إذا تقرر هذا، فثم مسألة متصلة بهذه، وهي: أن قاعدة الإنكار مبنية على قاعدة أخرى ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وهي أنه لا يجوز إنكار منكر حتى تتيقن أنه لن ينتقل المنكر عليه إلى منكر أشد منه، قال شيخ الإسلام: ومن أنكر ظانا أنه ينتقل، فإنه يأثم، حتى يتيقن أن إنكاره سينقل المنكر عليه إلى ما هو أفضل.
وقد قال بعض أهل العلم: إن هذا مجمع عليه، ومثل لهذا ابن القيم بمسائل كثيرة في كتابه "إعلام الموقعين" فقال مثلا: لو أتيت إلى أناس يلعبون لعبا محرما، أو يشتغلون بكتب مجون، فإن أنكرت عليهم ذلك، فإنه يكتنفه أحوال:
الأول: أن ينتقلوا من هذا المنكر إلى ما هو أنكر منه، فهذا حرام بالإجماع يعني: يخرج من لهوه بالكتب إلى الاتصال بالنساء مباشرة، أو إلى رؤية النساء مباشرة، أو ما أشبه ذلك، فهذا منكر أشد منه، فبقاؤه على الأول أقل خطرا في الشريعة من انتقاله إلى المنكر الثاني.
الحال الثانية: أن ينتقل إلى ما هو خير ودين، فهذا هو الذي يجب معه الإنكار.
والثالث: أن ينتقل منه إلى منكر يساويه، فهذا محل اجتهاد.
والرابع: أن ينتقل منه إلى منكر آخر.
ذكرنا أربعة: منكر أشد منه، ومنكر آخر، ومنكر مساويه، وإلى خير، هذه أربعة أقسام، وإلى منكر آخر، فهذا -أيضا- لا يجوز، وإذا كان إلى منكر مساويه، فهذا محل اجتهاد، وإلى خير فهذا واجب، وإلى منكر أشد منه فهذا لا يجوز، فتحصل منه أن ثم حالتين يحرم فيهما الإنكار، وهي: إذا انتقل من منكر إلى منكر آخر غير مساوٍ، وإلى منكر - يعني: إنك ما تدري إنه مساوٍ - وإلى منكر أشد منه بيقينك، فهذه حرام بالإجماع.
والثالث: أن ينتقل إلى منكر مساوٍ فهذا فيه محل اجتهاد.
والرابع: أن ينتقل إلى خير، فهذا يجب معه الإنكار، وذكر قصة لشيخ الإسلام ابن تيمية أنه مر وطائفة من أصحابه على قوم من التتر يلعبون بالشطرنج، ويشربون الخمر في شارع من شوارع دمشق علنا، فقال أحد أصحاب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ألا ننكر على هؤلاء؟ فقال شيخ الإسلام: دعهم، فإن انشغالهم بذلك أهون من أن يعيثوا في المسلمين، أو أن يعتدوا عليهم، وهذا من الفقه العظيم؛ لأن هذا منكر ومحرم لكنه قاصر، ولإنكاره عليهم قد يكون معه أن ينتقلوا إلى منكر متعدٍ على بعض المسلمين، ومعلوم أن المنكر القاصر أهون من المنكر المتعدي. هذه بعض المباحث التي يحسن ذكرها عند هذا الحديث. نعم. نقف عند هذا، بقي عندنا سبعة أحاديث ننهيها غدا -إن شاء الله-.
الشيخ ابن العثيمين
﴿مَنْ﴾ اسم شرط جازم، و: ﴿رأى﴾ فعل الشرط، وجملة ﴿فَليُغَيرْه بَيَدِه﴾ جواب الشرط.
وقوله: ﴿مَنْ رَأَى﴾ هل المراد من علم وإن لم يرَ بعينه فيشمل من رأى بعينه ومن سمع بأذنه ومن بلغه خبر بيقين وما أشبه ذلك، أو نقول: الرؤيا هنا رؤية العين، أيهما أشمل؟
الجواب :الأول، فيحمل عليه، وإن كان الظاهر الحديث أنه رؤية العين لكن مادام اللفظ يحتمل معنى أعم فليحمل عليه.
وقوله: ﴿مُنْكَراً﴾ المنكر:هو ما نهى الله عنه ورسوله ، لأنه ينكر على فاعله أن يفعله.
﴿فَلْيُغَيِّرْهُ﴾ أي يغير هذا المنكر بيده.
مثاله: من رأى مع شخص آلة لهو لا يحل استعمالها أبداً فيكسرها.
وقوله: ﴿مُنْكَرَاً﴾ لابد أن يكون منكراً واضحاً يتفق عليه الجميع، أي المنكر والمنكر عليه، أو يكون مخالفة المنكر عليه مبينة على قول ضعيف لا وجه له.
أما إذا كان من مسائل الاجتهاد فإنه لا ينكره.
﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ﴾ أي إن لم يستطع أن ينكره بيده ﴿فَبِلِسَانِهِ﴾ أي فلينكره بلسانه ويكون ذلك: بالتوبيخ، والزجر وما أشبه ذلك، ولكن لابد من استعمال الحكمة، كما سيأتي في الفوائد إن شاء الله، وقوله ﴿بِلِسَانِهِ﴾ هل نقيس الكتابة على القول؟
الجواب: نعم، فيغير المنكر باللسان، ويغير بالكتابة، بأن يكتب في الصحف أو يؤلف كتباً يبين المنكر.
﴿فَإنْ لَمْ يَستَطِعْ فَبِقَلْبِهِ﴾ أي فلينكر بقلبه، أي يكرهه ويبغضه ويتمنى أن لم يكن.
﴿وَذَلِكَ﴾ أي الإنكار بالقلب ﴿أَضْعَفُ الإِيْمَانِ﴾ أي أضعف مراتب الإيمان في هذا الباب أي في تغيير المنكر.
من فوائد هذا الحديث:
1- أن النبي ﷺ ولى جميع الأمة إذا رأت منكراً أن تغيره، ولا يحتاج أن نقول: لابد أن يكون عنده وظيفة، فإذا قال أحد: من الذي أمرك أو ولاك؟ يقول له؟النبي ﷺ لقوله مَنْ رَأَى مِنْكُمْ .
2- أنه لا يجوز إنكار المنكر حتى يتيقن المنكر، وذلك من وجهين:الوجه الأول: أن يتيقن أنه منكر. والوجه الثاني:أن يتيقن أنه منكر في حق الفاعل، لأن الشيء قد يكون منكراً في حد ذاته، لكنه ليس منكراً بالنسبة للفاعل.
مثال ذلك: الأكل والشرب في رمضان، الأصل أنه منكر، لكن قد لا يكون منكراً في حق رجل بعينه:كأن يكون مريضاً يحل له الفطر، أو يكون مسافراً يحل له الفطر.
3- أنه لابد أن يكون المنكر منكراً لدى الجميع، فإن كان من الأمور الخلافية فإنه لا ينكر على من يرى أنه ليس بمنكر، إلا إذا كان الخلاف ضعيفاً لا قيمة له، فإنه ينكر على الفاعل، وقد قيل:
وليس كل خلاف جاء معتبراً ** إلا خلافاً له حظ من النظر
فلو رأيت رجلاً أكل لحم إبل وقام يصلي، فلا تنكر عليه، لأن المسألة خلافية، فبعض العلماء يرى أنه يجب الوضوء من أكل لحم الإبل، وبعضهم لا يرى هذا، لكن لا بأس أن تبحث معه وتبين له الحق.
ولو رأيت رجلاً باع عشرة ريالات من الورق بأحد عشر، فهل تنكر عليه أو لا تنكر؟
الجواب:لا أنكر، لأن بعض العلماء يرى أن هذا جائز، وأنه لا ربا في الأوراق، لكني أبين له في المناقشة أن هذا منكر، وعلى هذا فقس.
فإن قال قائل:ما موقفنا من العوام، لأن طالب العلم يرى هذا الرأي فلا ننكر عليه، لكن هل نقول للعوام اتبعوا من شئتم من الناس؟
الجواب:لا، العوام سبيلهم سبيل علمائهم، لأنه لو فتح للعامي أن يتخير فيما شاء من أقوال العلماء لحصلت الفوضى التي لا نهاية لها ، فنقول:أنت عامي في بلد يرى علماؤه أن هذا الشيء حرام، ولا نقبل منك أن تقول:أنا مقلد للعالم الفلاني أو العالم الفلاني.
وهل قوله : ﴿فَلْيُغَيِّرْهُ بيدهِ﴾ على إطلاقه، بمعنى أنه مع القدرة يغير على كل حال؟
الجواب:لا، إذا خاف في ذلك فتنة فلا يغير، لأن المفاسد يدرأ أعلاها بأدناها، كما لو كان يرى منكراً يحصل من بعض الأمراء، ويعلم أنه لو غير بيده استطاع، لكنه يحصل بذلك فتنة:إما عليه هو، وإما على أهله، وإما على قرنائه ممن يشاركونه في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهنا نقول: إذا خفت فتنة فلا تغير، لقوله تعالى: ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (الأنعام: من الآية 108).
4- أن اليد هي آلة الفعل، لقوله: ﴿فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ﴾ لأن الغالب أن الأعمال باليد، ولذلك تضاف الأعمال إلى الأيدي في كثير من النصوص، مثل قوله: ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ (الشورى: من الآية30) والمراد: بما كسبتم بأيديكم أو أرجلكم أو أعينكم أو آذانكم.
5- أنه ليس في الدين من حرج، وأن الوجوب مشروط بالاستطاعة، لقوله: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ﴾ وهذه قاعدة عامة في الشريعة، قال الله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ (التغابن: من الآية 16) وقال عزّ وجل: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾ (البقرة: من الآية 286) وقال النبي ﷺ ﴿مَا نَهَيتُكُم عَنهُ فَاجتَنِبوهُ، وَمَا أَمَرتُكُم بِهِ فَأتوا مِنهُ مَا استَطَعتُم﴾ وهذا داخل في الإطار العام أن الدين يسر.
6- أن الإنسان إذا لم يستطع أن يغير باليد ولا باللسان فليغير بالقلب، وذلك بكراهة المنكر وعزيمته على أنه متى قدر على إنكاره بلسانه أو يده فعل.
فإن قال قائل:هل يكفي في إنكار القلب أن يجلس الإنسان إلى أهل المنكر ويقول:أنا كاره بقلبي؟
فالجواب :لا، لأنه لو صدق أنه كاره بقلبه ما بقي معهم ولفارقهم إلا إذا أكرهوه، فحينئذ يكون معذوراً.
7- أن للقلب عملاً، لقوله: ﴿فَإن لَم يَستَطِع فَبِقَلبِهِ عطفاً على قوله: فَليُغَيرْهُ بيَدِهِ وهو كذلك.
فالقلب له قول وله عمل، قوله عقيدته، وعمله حركته بنية أو رجاء أو خوف أو غير ذلك.
8- أن الإيمان عمل ونية، لأن النبي ﷺ جعل هذه المراتب من الإيمان، والتغيير باليد عمل، وباللسان عمل، وبالقلب نية، وهو كذلك، فالإيمان يشمل جميع الأعمال، وليس خاصاً بالعقيدة فقط، لقول النبي ﷺ: ﴿الإيمَانُ بِضعٌ وَسَبعُونَ شُعبَة﴾، أو قال: ﴿وَستونَ شُعبَة، أَعلاهَا: قَولُ لاَ إِلهَ إِلا الله، وَأَدناهَا إِماطَةُ الأَذَى عَنِ الطَريقِ﴾ فقول: لا إله إلا الله قول لسان، وإماطة الأذى عن الطريق فعل الجوارح والحياء وهذا عمل قلب مِنَ الإيمَانِ ولا حاجة أن نقول ما يدور الآن بين الشباب وطلبة العلم :هل الأعمال من كمال الإيمان أو من صحة الإيمان؟ فهذا السؤال لا داعي له، أي إنسان يسألك ويقول: هل الأعمال شرط لكمال الإيمان أو شرط لصحة الإيمان؟
نقول له: الصحابة رضي الله عنهم أشرف منك وأعلم منك وأحرص منك على الخير، ولم يسألوا الرسول ﷺ هذا السؤال، إذاً يسعك ما يسعهم.
إذا دلّ الدليل على أن هذا العمل يخرج به الإنسان من الإسلام صار شرطاً لصحة الإيمان، وإذا دلّ دليل على أنه لا يخرج صار شرطاً لكمال الإيمان وانتهى الموضوع، أما أن تحاول الأخذ والرد والنزاع، ثم مَنْ خالفك قلت:هذا مرجىء. ومن وافقك رضيت عنه، وإن زاد قلت، هذا من الخوارج، وهذا غير صحيح.
فلذلك مشورتي للشباب ولطلاب العلم أن يدعوا البحث في هذا الموضوع، وأن نقول: ما جعله الله تعالى ورسوله شرطاً لصحة الإيمان وبقائه فهو شرط، وما لا فلا ونحسم الموضوع.
فإن قال قائل: قوله: ﴿فَليُغَيرهُ بيَدِهِ﴾ هل هذا لكل إنسان؟
فالجواب:ظاهر الحديث أنه لكل إنسان رأي المنكر، ولكن إذا رجعنا إلى القواعد العامة رأينا أنه ليس عاماً لكل إنسان في مثل عصرنا هذا، لأننا لو قلنا بذلك لكان كل إنسان يرى شيئاً يعتقده منكراً يذهب ويغيره وقد لا يكون منكراً فتحصل الفوضى بين الناس.
نعم راعي البيت يستطيع أن يغير بيده، لأنه هو راعي البيت، كما أن راعي الرعية الأكبر أو من دونه يستطيع أن يغير باليد .
وليعلم أن المراتب ثلاث: دعوة، أمر، تغيير، فالدعوة أن يقوم الداعي في المساجد و في أي مكان يجمع الناس ويبين لهم الشر ويحذرهم منه ويبين لهم الخير ويرغبهم فيه.
والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر هو الذي يأمر الناس ويقول: افعلوا، أو ينهاهم ويقول لهم: لا تفعلوا. ففيه نوع إمرة.
والمغير هو الذي يغير بنفسه إذا رأى الناس لم يستجيبوا لدعوته ولا لأمره ونهيه، والله الموفق
الشيخ صالح آل الشيخ
هذا الحديث حديث عظيم -أيضا- في بيان وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو حديث معلوم لديكم بتفاصيل الكلام عليه؛ لأنه كثر بيانه، وبيان ما فيه، لكن نختصر المقام، عن أبي سعيد الخدري -رضى الله عنه- قال: سمعت رسول الله -ﷺ- يقول: ﴿من رأى منكم منكرا، فليغيره بيده﴾ المنكر: اسم لما عرف في الشريعة قُبْحه والنهي عنه، فلا يكون منكرا حتى يكون محرما في الشريعة، وهنا قال: ﴿من رأى منكم منكرا، فليغيره بيده﴾ فهنا شرط و جواب الشرط، أما جواب الشرط، فهو الأمر بالتغيير باليد، وهذا الأمر على الوجوب مع القدرة، وأما فعل الشرط فهو قوله: ﴿من رأى منكم منكرا﴾ والفعل رأى هو الذي تعلق به الحكم، وهو وجوب الإنكار، ورأى هنا بصرية؛ لأنها تعدت إلى مفعول واحد، فحصل لنا بذلك أن معنى الحديث من رأى منكم منكرا بعينه، فليغيره بيده، وهذا تقييد لوجوب الإنكار بما إذا رُؤِيَ بالعين، وأما العلم بالمنكر، فلا يكتفى به في وجوب الإنكار، كما دل عليه ظاهر هذا الحديث.
قال العلماء: ظاهر الحديث على أنه لا يجب حتى يرى بالعين، ويُنَزَّل السمع المحقق منزلة الرأي بالعين، فإذا سمع منكرا سماعا محققا، سمع صوت رجل وامرأة في خلوة محرمة سماعا محققا، يعرف بيقين أن هذا محرم، وأنه لا يفعل أن هذا في كلامه إنما هو مع أجنبية وأشبه ذلك، فإنه يجب عليه الإنكار؛ لتنزيل السماع المحقق منزلة النظر.
كذلك إذا سمع أصوات معازف، أو أصوات ملاهٍ، أو أشباه ذلك بسماع محقق، فإنه يجب عليه هنا الإنكار، وأما غير ذلك، فلا يدخل في الحديث، فإذا علم بمنكر، فإنه هنا لا يدخل في الإنكار، وإنما يدخل في النصيحة؛ لأن الإنكار عُلِّق بالرؤية في هذا الحديث، وينزل -كما قال العلماء- السماع المحقق -فقط- منزلة الرؤية قال: ﴿من رأى منكم منكرا﴾ وفي قوله: "منكرا" يظهر تعليق الأمر بالمنكر، دون الواقع فيه، فالحكم بالأمر بالتغيير باليد هذا راجع إلى المنكر، أما الواقع في المنكر، فهذا له بحث آخر.
قال: "فليغيره" يعني: فليغير المنكر، فلا يدخل في الحديث عقاب فاعل المنكر؛ لأن فاعل المنكر تكتنفه أبحاث، أو أحوال متعددة، فقد يكون الواجب معه الدعوة بالتي هي أحسن، وقد يكون التنبيه، وقد يكون الحَيْلولة بينه وبين المنكر والاكتفاء بزجره بكلام، ونحوه، وقد يكون بالتعزير، وقد يكون إلى آخر أحوال ذلك المعروفة، في كل مقام بحسب ذلك المقام، وما جاء فيه من الأحكام.
المقصود: أن الحديث دل بظاهره على تعليق وجوب الإنكار، ووجوب التغيير باليد بالرؤية، وما يقوم مقامها.
والثاني: بالمنكر نفسه، فتغيير المنكر، يعني -مثلا-: رجل أمامه زجاجة خمر، أو أمامه شيء من المُلْهِيات المحرمة، فإنكار المنكر ليس هو التعنيف للفاعل، وإنما هو تغيير هذا المنكر من الخمر، أو من الملاهي المحرمة، أو من الصور المحرمة، أو أشباه ذلك بتغييره باليد مع القدرة.
تغييره باليد مع القدرة، وأما الفاعل له فهذا له حكم آخر.
قال: ﴿فليغيره بيده﴾ والتغيير هنا أوجب التغيير باليد، وهذا مقيد بما إذا كان التغيير باليد مقدورا عليه، وأما إذا كان غير مقدور عليه، فإنه لا يجب، ومن أمثلة كونه مقدورا عليه: أن يكون في بيتك الذي لك الولاية عليه يعني: في زوجك وأبنائك وأشباه ذلك، أو في أيتام لك الولاية عليهم، أو في مكان أنت مسئول عنه، وأنت الولي عليه، هذا نوع من أنواع الاقتدار، فيجب عليك هنا أن تزيله، وإذا لم تغيره بيدك فتأثم، أما إذا كان في ولاية غيرك، فإنه لا تدخل القدرة هنا، أو لا توجد القدرة عليه؛ لأن المقتدر: هو من له الولاية فيكون هنا باب النصيحة لمن هذا تحت ولايته ليغيره من هو تحت ولايته والتغيير في الشرع ليس بمعنى الإزالة.
التغيير: اسم يشمل الإزالة، ويشمل الإنكار باللسان بلا إزالة، يعني أن يقال: هذا حرام، وهذا لا يجوز، ويشمل -أيضا- الاعتقاد أن هذا منكر و محرم؛ ولهذا جاء في هذا الحديث بيان هذه المعاني الثلاث، فقال عليه -الصلاة والسلام:- ﴿فإن لم يستطع - التغيير بيده - فبلسانه﴾ يعني: فليغيره بلسانه، ومن المعلوم أن اللسان لا يزيل المنكر دائما، بل قد يزول معه بحسب اختيار الفاعل للمنكر، وقد لا يزول معه المنكر، تقول مثلا لفلان: هذا حرام، وهذا منكر لا يجوز لك، قد ينتهي وقد لا ينتهي، فإذا أخبرت الخلق، أو المكلف الواقع في هذا المنكر، إذا أخبرته بأنه منكر وحرام فقد غيرت، وإذا سَكَتَّ، فإنك لم تغير.
وإن كنت لا تستطيع باللسان، فتغيره بالقلب تغييرا لازما لك لا ينفك عنك، ولا تعذر بالتخلف عنه، وهو اعتقاد أنه منكر ومحرم، والبراءة من الفعل يعني: بعدم الرضا به؛ لهذا جاء في سنن أبي داود أنه عليه -الصلاة والسلام- قال: ﴿إذا عملت الخطيئة كان من غاب عنها ورضيها كمن عملها، وكان من غاب عنها وكان ممن شهدها، فلم يفعلها كمن فعلها﴾ وهذا يعني: أن الراضي بالشيء كفاعله؛ لأن المنكر لا يجوز أن يقر، يعني: أن يقره المرء، ولو من جهة الرضا، وهذا ظاهر في قوله -جل وعلا-: ﴿فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ وفي الآية الأخرى: ﴿فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.
فمن جلس في مكان يستهزأ فيه بآيات الله، وهو جالس لا يفارق هذا المكان، فهو في حكم الفاعل من جهة رضاه بذلك؛ لأن الراضي بالذنب كفاعله كما قال العلماء، إذا تبين ذلك، فها هنا مسائل تتعلق بهذا الحديث، وهي أن الإنكار - وجوب الإنكار - متعلق بالقدرة بالإجماع، ومتعلق بظن الانتفاع عند كثير من أهل العلم.
قال طائفة من العلماء: إنما يجب الإنكار إذا غلب على ظنه أن ينتفع المنكر، يعني: باللسان، بما لا يدخل تحت ولايته، أما إذا غلب على ظنه أنه لا ينتفع، فإنه لا يجب الإنكار؛ وذلك لظاهر قول الله -جل وعلا:- ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى﴾ فأوجب التذكير بشرط الانتفاع، وهذا ذهب إليه جماعة من أهل العلم منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، ودل عليه عمل عدد من الصحابة -رضوان الله عليهم- كابن عمر وابن عباس وغيرهما، لما دخلوا على الولاة وأمراء المؤمنين في بيوتهم، وكان عندهم بعض المنكرات في مجالسهم، فلم ينكروها؛ وذلك لغلبة الظن أنهم لا ينتفعون بذلك؛ لأنها من الأمور التي أقروها وصارت فيما بينهم، وهذا خلاف قول الجمهور.
والجمهور على أنه يجب مطلقا، سواء غلب على الظن، أو لم يغلب الظن؛ لأن إيجاب الإنكار لحق الله -جل وعلا- وهذا لا يدخل فيه غلبة الظن، والقول الثاني، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية -كما ذكرت لكم- وجماعة، من أنه يجب مع غلبة الظن هذا أوجه من جهة نصوص الشريعة؛ لأن أعمال المكلفين مبنية على ما يغلب على ظنهم، والنبي -ﷺ- قال: ﴿من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه﴾ وعدم الاستطاعة هذه تشمل عدة أحوال، ويدخل فيها غلبة الظن ألا ينتفع الخصم، مثلا: إذا قابلت حليقا للحية، أو قابلت امرأة سفرت وجهها، ونحو ذلك، في بعض الأمكنة نجد حرجا هل ننكر أم لا ننكر؟
يغلب على ظننا في بعض الأحوال، أننا لو أنكرنا لما انتفع أولئك بذلك؛ لعلمهم بهذه المسألة، فيكتفى هنا بالإنكار بالقلب من جهة الوجوب، ويبقى الاستحباب في أنه يستحب أن تبقى هذه الشعيرة، وأن يفعلها من أراد فعل المستحب، وكما ذكرت لك هذا خلاف قول الجمهور، لكنه يتأيد بمعرفة حال الصحابة -رضوان الله عليهم- من أنهم إنما أنكروا ما غلب على ظنهم الانتفاع به، وإلا للزم منه أن يأثموا في ترك كثير من الواجبات في أحوال كثيرة ومعلومة.
قال في آخره: ﴿فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان﴾ ﴿فإن لم يستطع فبقلبه﴾ يعني: ينكر بقلبه، والإنكار بالقلب، يعني: بغض المنكر، وكراهته واعتقاد أنه منكر وأنه محرم ﴿وذلك أضعف الإيمان﴾ يعني: هذا أقل درجات الإيمان؛ لأنه هو الذي يجب على كل أحد، كل أحد يجب عليه هذا ﴿وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل﴾ لأن المنكر المجمع عليه إذا لم يعتقد حرمته، ولم يبغضه مع اعتقاد حرمته، فإنه على خطر عظيم في إيمانه.
هذا الحديث يدخل في بحثه الإنكار على الولاة، والإنكار على عامة الناس، ويدخل -أيضا- مراتب الإنكار، والقواعد التي تحكم ذلك، وهي كثيرة، يعني: مباحثه، أعني: مباحثه وفروعه كثيرة يطول المقام بذكرها، لكن أنبه على مسألة مهمة ذكرتها عدة مرات، وهي أن هناك فرقا ما بين النصيحة والإنكار في الشريعة، وذلك أن الإنكار أَضْيَقُ من النصيحة، فالنصيحة اسم عام يشمل أشياء كثيرة، كما مر معنا في حديث ﴿الدين النصيحة﴾ ومنها الإنكار، فالإنكار حال من أحوال النصيحة؛ ولهذا كان مقيدا بقيود وله ضوابطه، فمن ضوابطه: أن الإنكار الأصل فيه أن يكون عَلَناً؛ لقوله: ﴿من رأى منكم فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه﴾ وهذا بشرط رؤية المنكر.
وهنا ندخل في بحث مسألة بحثناها مرارا، وهي أن الولاة يُنْكَر عليهم إذا فعلوا المنكر بأنفسهم، ورآه من فعل أمامه ذلك الشيء، وعلى هذا يحمل هدي السلف في ذلك.
وكل الأحاديث التي جاءت، وهي كثيرة، أكثر من عشرة، أو اثني عشر حديثا في هذا الباب، فيها إنكار طائفة من السلف على الأمير، أو على الوالي، كلها على هذا الضابط، وهو أنهم أنكروا شيئا رأوه من الأمير أمامهم، ولم يكن هدي السلف أن ينكروا على الوالي شيئا أجراه في ولايته؛ ولهذا لما حصل من عثمان -رضي الله عنه- بعض الاجتهادات وقيل لأسامة بن زيد -رضي الله عنهما-: ألا تنصح لعثمان؟ ألا ترى إلى ما فعل؟ قال: أما إني بذلته له سرا، لا أكون فاتح باب فتنة.
ففرَّق السلف في المنكر الذي يُفعَل أمام الناس كحال الأمير الذي قدم خطبتي العيد على الصلاة، وكالذي أتى للناس وقد لبس ثوبين، وأحوال كثيرة في هذا، فرقوا ما بين حصول المنكر منه أمام الناس علنا، وما بين ما يجريه في ولايته، فجعلوا ما يجريه في ولايته بابا من أبواب النصيحة، وما يفعله علنا يأتي هذا الحديث: ﴿من رأى منكم منكرا فليغيره بيده﴾ مع الحكمة في ذلك؛ ولهذا قال رجل لابن عباس -رضي الله عنهما-: ألا آتي الأمير، فآمره وأنهاه؟ قال: لا تفعل، فإن كان ففيما بينك وبينه. قال: أرأيت إن أمرني بمعصية؟ قال: أما إن كان ذاك فعليك إذَنْ.
فدل هذا على أن الأمر والنهي المتعلق بالولي إنما يكون فيما بين المرء وبينه، فيما يكون في ولايته، وأما إذا كان يفعل الشيء أمام الناس، فإن هذا يجب أن ينكر من رآه بحسب القدرة وبحسب القواعد التي تحكم ذلك، إذا تقرر هذا، فثم مسألة متصلة بهذه، وهي: أن قاعدة الإنكار مبنية على قاعدة أخرى ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وهي أنه لا يجوز إنكار منكر حتى تتيقن أنه لن ينتقل المنكر عليه إلى منكر أشد منه، قال شيخ الإسلام: ومن أنكر ظانا أنه ينتقل، فإنه يأثم، حتى يتيقن أن إنكاره سينقل المنكر عليه إلى ما هو أفضل.
وقد قال بعض أهل العلم: إن هذا مجمع عليه، ومثل لهذا ابن القيم بمسائل كثيرة في كتابه "إعلام الموقعين" فقال مثلا: لو أتيت إلى أناس يلعبون لعبا محرما، أو يشتغلون بكتب مجون، فإن أنكرت عليهم ذلك، فإنه يكتنفه أحوال:
الأول: أن ينتقلوا من هذا المنكر إلى ما هو أنكر منه، فهذا حرام بالإجماع يعني: يخرج من لهوه بالكتب إلى الاتصال بالنساء مباشرة، أو إلى رؤية النساء مباشرة، أو ما أشبه ذلك، فهذا منكر أشد منه، فبقاؤه على الأول أقل خطرا في الشريعة من انتقاله إلى المنكر الثاني.
الحال الثانية: أن ينتقل إلى ما هو خير ودين، فهذا هو الذي يجب معه الإنكار.
والثالث: أن ينتقل منه إلى منكر يساويه، فهذا محل اجتهاد.
والرابع: أن ينتقل منه إلى منكر آخر.
ذكرنا أربعة: منكر أشد منه، ومنكر آخر، ومنكر مساويه، وإلى خير، هذه أربعة أقسام، وإلى منكر آخر، فهذا -أيضا- لا يجوز، وإذا كان إلى منكر مساويه، فهذا محل اجتهاد، وإلى خير فهذا واجب، وإلى منكر أشد منه فهذا لا يجوز، فتحصل منه أن ثم حالتين يحرم فيهما الإنكار، وهي: إذا انتقل من منكر إلى منكر آخر غير مساوٍ، وإلى منكر - يعني: إنك ما تدري إنه مساوٍ - وإلى منكر أشد منه بيقينك، فهذه حرام بالإجماع.
والثالث: أن ينتقل إلى منكر مساوٍ فهذا فيه محل اجتهاد.
والرابع: أن ينتقل إلى خير، فهذا يجب معه الإنكار، وذكر قصة لشيخ الإسلام ابن تيمية أنه مر وطائفة من أصحابه على قوم من التتر يلعبون بالشطرنج، ويشربون الخمر في شارع من شوارع دمشق علنا، فقال أحد أصحاب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ألا ننكر على هؤلاء؟ فقال شيخ الإسلام: دعهم، فإن انشغالهم بذلك أهون من أن يعيثوا في المسلمين، أو أن يعتدوا عليهم، وهذا من الفقه العظيم؛ لأن هذا منكر ومحرم لكنه قاصر، ولإنكاره عليهم قد يكون معه أن ينتقلوا إلى منكر متعدٍ على بعض المسلمين، ومعلوم أن المنكر القاصر أهون من المنكر المتعدي. هذه بعض المباحث التي يحسن ذكرها عند هذا الحديث. نعم. نقف عند هذا، بقي عندنا سبعة أحاديث ننهيها غدا -إن شاء الله-.