الشيخ ابن العثيمين
قوله ﴿فيمَا يَرويهِ عَنْ رَبِّهِ﴾ يسمى هذا الحديث عند العلماء حديثاً قدسياً.
قوله ﴿كَتَبَ﴾ أي كتب وقوعها وكتب ثوابها، فهي واقعة بقضاء الله وقدره المكتوب في اللوح المحفوظ، وهي أيضاً مكتوب ثوابها كما سيبين في الحديث.
أما وقوعها: ففي اللوح المحفوظ.
وأما ثوابها: فبما دل عليه الشرع.
﴿ثُمَ بَيَّنَ ذَلِك﴾ أي فصله.
﴿فَمَن هم بِحَسَنةٍ فَلَم يَعمَلهَا كَتَبَهَا اللهُ عِندَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً﴾ والمهم هنا ليس مجرد حديث النفس، لأن حديث النفس لا يكتب للإنسان ولا عليه، ولكن المراد عزم على أن يفعل ولكن تكاسل ولم يفعل، فيكتبها الله حسنة كاملة.
فإن قيل: كيف يثاب وهو لم يعمل؟
فالجواب: يثاب على العزم ومع النية الصادقة تكتب حسنة كاملة.
وأعلم أن من هم بالحسنة فلم يعملها على وجوه:
الوجه الأول: أن يسعى بأسبابها ولكن لم يدركها، فهذا يكتب له الأجر كاملاً، لقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ (النساء: من الآية 100).
وكذلك الإنسان يسعى إلى المسجد ذاهباً يريد أن يصلي صلاة الفريضة قائماً ثم يعجز أن يصلي قائماً فهذا يكتب له أجر الصلاة قائماً، لأنه سعى بالعمل ولكنه لم يدركه.
الوجه الثاني: أن يهم بالحسنة ويعزم عليها ولكن يتركها لحسنة أفضل منها، فهذا يثاب ثواب الحسنة العليا التي هي أكمل، ويثاب على همه الأول للحسنة الدنيا، ودليل ذلك أن رجلاً أتى إلى النبي ﷺ حين فتح مكة، وقال: يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس؟ فقال: ﴿صَلِِّ هَاهُنَا﴾ فكرر عليه، فقال له ﴿شَأنُكَ إذاً﴾ فهذا انتقل من أدنى إلى أعلى.
الوجه الثالث: أن يتركها تكاسلاً، مثل أن ينوي أن يصلي ركعتي الضحى، فقرع عليه الباب أحد أصحابه وقال له:هيا بنا نتمشى، فترك الصلاة وذهب معه يتمشى، فهذا يثاب على الهم الأول والعزم الأول، ولكن لا يثاب على الفعل لأنه لم يفعله بدون عذر، وبدون انتقال إلى ما هو أفضل.
﴿وَإِن هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا﴾ تكتب عشر حسنات - والحمد لله - ودليل هذا من القرآن قول الله تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ (الأنعام: 160).
﴿كَتَبَهَا اللهُ عِندَهُ عَشرَ حَسَنَاتٍ﴾ هذه العشر حسنات كتبها الله على نفسه ووعد به وهو لا يخلف الميعاد.
﴿إلى سَبعمَائةِ ضِعف﴾ وهذا تحت مشيئة الله تعالى، فإن شاء ضاعف إلى هذا، وإن شاء لم يضاعف.
﴿إلى أَضعَافٍ كَثيرةٍ﴾ يعني أكثر من سبعمائة ضعف.
قال: ﴿وَإِن هَمَّ بِسَيئةٍ فَلَم يَعمَلهَا كَتَبَهَا اللهُ عِندَهُ حَسَنةً كَامِلَةً﴾ جاء في الحديث: ﴿لأنهُ إِنَمّاٍ تَرَكَهَا مِن جَرائي أي من أجلي﴾، فتكتب حسنة كاملة، لأنه تركها لله.
واعلم أن الهم بالسيئة له أحوال:
الحال الأولى: أن يهم بالسيئة أي يعزم عليها بقلبه، وليس مجرد حديث النفس، ثم يراجع نفسه فيتركها لله عزّ وجل، فهذا هو الذي يؤجر، فتكتب له حسنة كاملة، لأنه تركها لله ولم يعمل حتى يكتب عليه سيئة.
الحال الثانية: أن يهم بالسيئة ويعزم عليها لكن يعجز عنها بدون أن يسعى بأسبابها:كالرجل الذي أخبر عنه النبي ﷺ أنه قال: ليت لي مثل مال فلان فأعمل فيه مثل عمله وكان فلان يسرف على نفسه في تصريف ماله، فهذا يكتب عليه سيئة، لكن ليس كعامل السيئة، بل يكتب وزر نيته، كما جاء في الحديث بلفظه: ﴿فَهوَ بِنيَّتهِ، فَهُمَا في الوِزرِ سواء﴾.
الحال الثالثة: أن يهم بالسيئة ويسعى في الحصول عليها ولكن يعجز، فهذا يكتب عليه وزر السيئة كاملاً، دليل ذلك: قول النبي ﷺ : ﴿إِذَا اِلتَقَى المُسلِمَانِ بِسيفَيهِمَا فَالقَاتِل وَالمَقتول في النَّار قَالَ: يَا رَسُول الله هَذا القَاتِلُ، فَمَا بَالُ المَقتُول؟ أي لماذا يكون في النار- قَالَ: لأَنَّهُ كَانَ حَريصَاً عَلَى قَتلِ صَاحِبِهِ﴾ فكتب عليه عقوبة القاتل.
ومثاله: لو أن إنساناً تهيأ ليسرق وأتى بالسلم ليتسلق، ولكن عجز، فهذا يكتب عليه وزر السارق، لأنه هم بالسيئة وسعى بأسبابها ولكن عجز.
الحال الرابعة: أن يهم الإنسان بالسيئة ثم يعزف عنها لا لله ولا للعجز، فهذا لا له ولا عليه، وهذا يقع كثيراً، يهم الإنسان بالسيئة ثم تطيب نفسه ويعزف عنها، فهذا لا يثاب لأنه لم يتركها لله، ولا يعاقب لأنه لم يفعل ما يوجب العقوبة.
وعلى هذا فيكون قوله في الحديث: ﴿كَتَبَهَا عِندَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً﴾ أي إذا تركها لله عزّ وجل.
﴿وَإِن هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ سَيئةً وَاحِدةً﴾، ولهذا قال الله عزّ وجل: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ (الأنعام: من الآية 54) وقال الله تعالى في الحديث القدسي: ﴿إِنَّ رَحْمَتِيْ سَبَقَتْ غَضَبِي﴾ وهذا ظاهر من الثواب على الأعمال، والجزاء على الأعمال السيئة.
قال النووي - رحمه الله - :
فانظر يا أخي وفقنا الله وإياك إلى عظيم لطف الله تعالى، وتأمل هذه الألفاظ
وقوله: ﴿عِندَهُ﴾ إشارة إلى الاعتناء بها.
وقوله : ﴿كَامِلَةً﴾ للتأكيد وشدة الاعتناء بها.
وقال في السيئة التي هم بها ثم تركها ﴿كَتَبَهَا اللهُ عِندَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً﴾ فأكدها بكاملة وإن عملها كتبها سيئة واحدة، فأكد تقليلها بواحدة، ولم يؤكدها بكاملة، فلله الحمد والمنة، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه، وبالله التوفيق.
هذا تعليق طيب من المؤلف - رحمه الله - .
من فوائد هذا الحديث:
1- رواية النبي ﷺ عن ربه، وما رواه عن ربه في الأحاديث القدسية:هل هو من كلام الله عزّ وجل لفظاً ومعنى، أو هو كلام الله معنى واللفظ من الرسول ﷺ؟
اختلف المحدثون في هذا على قولين، والسلامة في هذا أن لا تتعمق في البحث في هذا، وأن تقول: قال النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه عزّ وجل وكفى، وتقدم الكلام على ذلك.
2- اثبات كتابة الحسنات والسيئات وقوعاً وثواباً وعقاباً، لقوله إن الله كتب الحسنات والسيئات.
3- أن الحسنات الواقعة والسيئات الواقعة قد فرِغ منها وكتبت واستقرت.
ولكن ليس في هذا حجة للعاصي على معاصي الله، لأن الله تعالى أعطاه سمعاً وبصراً وفهماً وأرسل إليه الرسل، وبيّن له الحق وهو لا يدري ماذا كُتِبَ له في الأصل، فكيف يقحم نفسه في المعاصي، ثم يقول: قد كتبت عليَّ، لماذا لم يعمل بالطاعات ويقول: قد كتبت لي؟!
فليس في هذا حجة للعاصي على معصيته:
أولاً: للدليل الأثري، وثانياً: للدليل النظري.
أما الأثري: فإن النبي ﷺ لما قال للصحابة: ﴿مَا مِنكُم مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ كُتِبَ مَقعَدهُ مِنَ الجَنةِ وَالنَّار قَالوا:يَا رَسُول الله أَفَلا نَدع العَمَلَ وَنَتَّكِلَ عَلَى الكِتَابِ الأَولِ؟ قَالَ: لاَ، اعمَلوا فَكل ميسر لِمَا خُلِقَ لَهُ﴾ هذا دليل، يعني لا تعتمد على شيء مكتوب وأنت لا تدري عنه ﴿اعمَلوا فَكل ميسرٍ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا أَهلُ السعَادَةِ فَيُيَسّرونَ لِعَمَلِ أَهلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَا أَهَلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرونَ لِعَمَلِ أَهلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَ تَلاَ قَولَهُ تَعالَى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ (الليل: 5-10).
فهذا دليل أثري، أمر النبي ﷺ بقطع الاتكال على ما كتب وأن نعمل.
أما الدليل النظري العقلي فيقال لهذا الرجل: ما الذي أعلمك أن الله كتبك مسيئاً؟ هل تعلم قبل أن تعمل الإساءة؟
الجواب: لا، كلنا لا نعلم المقدور إلا إذا وقع، فلا حجة عقلية ولا حجة أثرية.
4- إثبات أفعال الله عزّ وجل لقوله: ﴿كَتَبَ﴾ وسواء قلنا إنه أمر بأن يكتب، أو كتب بنفسه عزّ وجل.
وهذه المسألة اختلف فيها الناس، وليس هذا موضع ذكر الاختلاف، لأن كلامنا على شرح الحديث.
والذي عليه أهل السنة والجماعة: أن صفات الله عزّ وجل: فعلية متعلقة بمشيئته، وذاتية لازمة لله.
5- عناية الله عزّ وجل بالخلق حيث كتب حسناتهم وسيئاتهم قدراً وشرعاً.
6- أن التفصيل بعد الإجمال من البلاغة، يعني أن تأتي بقول مجمل ثم تفصله، لأنه إذا أتى القول مجملاً تطلعت النفس إلى بيان هذا المجمل، فيأتي التفصيل والبيان وارداً على نفس مشرئبة مستعدة، فيقع منها موقعاً يكون فيه ثبات الحكم.
7- فضل الله عزّ وجل ولطفه وإحسانه أن من هم بالحسنة ولم يعملها كتبها الله حسنة، والمراد بالهم: العزم، لا مجرد حديث النفس، لأن الله تعالى عفا عن حديث النفس لا للإنسان ولا عليه.
وسبق شرح أحوال من هم بالحسنة ولم يعملها فليرجع إليه.
8- مضاعفة الحسنات، وأن الأصل أن الحسنة بعشر أمثالها، ولكن قد تزيد إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة.
ومضاعفة ثواب الحسنات تكون بأمور، منها:
الأول: الزمان، مثاله: قول النبي ﷺ في العشر الأول من ذي الحجة ﴿مَا مِنْ أَيَّام العَمَلُ الصَّالِحُ فِيْهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشر قَالوا: ولاَ الجِهَادُ في سَبيلِ اللهِ، قَالَ: وَلا الجِهَادُ في سَبيلِ الله﴾ هذا عظم ثواب العمل بالزمن.
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ (القدر: 3).
الثاني: باعتبار المكان، ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: ﴿صَلاَةٌّ في مَسجِدي هَذا أَفضَلُ مِنْ أَلفِ صَلاَة فيمَا سِواهُ إِلاَّ مَسجِدِ الكَعبَة﴾.
الثالث: باعتبار العمل فقد قال الله تعالى في الحديث القدسي ﴿مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِيْ بِشَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مَمَّا افتَرَضْتُ عَلَيْهِ﴾ فالعمل الواجب أفضل من التطوع.
الرابع: باعتبار العامل قال النبي ﷺ لخالد بن الوليد وقد وقع بينه وبين عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهما- ما وقع ﴿لاَ تَسِبوا أَصحَابي، فوالذي نَفسي بيَدِهِ لَو أَنفَقَ أَحَدُكُم مِثلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا بَلَغَ مَد أَحَدِكُم ولاَ نصيفَهُ﴾.
وهناك وجوه أخرى في المفاضلة تظهر للمتأمل و متدبر الأدلة.
أيضاً يتفاضل العمل بالإخلاص، فلدينا ثلاثة رجال: رجل نوى بالعمل امتثال أمر الله عزّ وجل والتقرب إليه، وآخر نوى بالعمل أنه يؤدي واجباً، وقد يكون كالعادة، والثالث نوى شيئاً من الرياء أو شيئاً من الدنيا.
فالأكمل فيهم: الأول، ولهذا ينبغي لنا ونحن نقوم بالعبادة أن نستحضر أمر الله بها، ثم نستحضر متابعة الرسول ﷺ فيها، حتى يتحقق لنا الإخلاص والمتابعة.
9- أن من هم بالسيئة ولم يعملها كتبها الله حسنة كاملة، وقد مر التفصيل في ذلك أثناء الشرح، فإن هم بها وعملها كتبها الله سيئة واحدة.
ولكن السيئات منها الكبائر والصغائر، كما أن الحسنات منها واجبات وتطوعات ولكلٍ منهما الحكم والثواب المناسب، والله الموف
الشيخ صالح آل الشيخ
قوله هنا: "فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى" يعني: أن هذا حديث قدسي قال: ﴿إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك﴾ يعني: كتبها عنده، فبينها في القرآن، بين ما تكون به الحسنة، وبين ما تكون به السيئة، يعني: بين العمل الذي يكتب للمرء به حسنة، وبين العمل الذي يكتب للمرء به سيئة، قال: ﴿فمن هم بحسنة فلم يعملها﴾ إلى آخره استدل به على أن الملكين اللذين يكتبان ما يصدر عن العبد، دل على أنهما يعلمان ما يجول في قلبه، الهم معلوم للملك، وهذا بإقدار الله -جل وعلا- لهم إطلاعه إياهم وإذنه بذلك. قد كان بعض الأنبياء يعلم ما في نفس الذي أمامه، والنبي -صلى الله عليه- وسلم أخبر رجلا بما في نفسه، وهكذا حصل من عدد من الأنبياء، فهذا من أنواع الغيب الذي يطلع الله -جل وعلا- إياه من شاء من عباده، فالملائكة أطلعهم الله -جل وعلا- على ذلك كما قال سبحانه: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾.
والرسول هنا يدخل فيه الرسول الملكي، والرسول البشري، قال: ﴿فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة﴾ لأن الهم نوع من الإرادة، وإرادته للحسنة طاعة، فيكتبها الله -جل وعلا- له من رحمته ومنه وكرمه، يكتبها له حسنة.
قال: ﴿فإن هم بها، فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف﴾ يعني: أنه إن هم بالحسنة فعملها، فأقل ما يكتب له عشر حسنات، وقد يصل ذلك إلى سبعمائة ضعف بحسب الحال، وقد ذكرنا لكم تفاصيل ذلك في أوائل هذا الشرح، فإن المسلمين يتفاوتون في ثواب الحسنة، منهم من إذا عملها كُتبت له عشر أضعاف، ومنهم من إذا عملها كُتبت له سبعمائة ضعف، ومنهم مائتا ضعف، ومنهم من تكتب له أكثر من ذلك إلى سبعمائة ضعف، بل إلى أضعاف كثيرة، وهذا يختلف كما ذكرنا باختلاف العلم وتوقير الله -جل وعلا- والرغب في الآخرة؛ ولهذا كان الصحابة - رضوان الله عليهم - أعظم هذه الأمة أجورا، وكانوا أعظم هذه الأمة منزلة.
وقد ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ﴿والذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم، ولا نصيفه﴾ يعني: أنهم مع قلة ما ينفقون وما عملوا، فإنهم أعظم مما لو أنفق أحدكم، وهؤلاء في متأخري الإسلام، فكيف بمن بعدهم؟ لو أنفقوا مثل أحد ذهبا، وهذا يختلف باختلاف حسن الإسلام وحسن اليقين إلى آخره.
قال: ﴿وإن هم بسيئة، ولم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة﴾ "إن هم بسيئة" يعني: أراد سيئة، فلم يعملها، فهذا فيه تفصيل: إن تركها من جراء الله -جل وعلا- يعني: خشية لله ورغبا فيما عنده، فإنه تكتب له حسنة كما ذكر في هذا الحديث، وقد جاء في حديث آخر أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: ﴿فإنما تركها من جرائي﴾ فإذا ترك السيئة التي هم بها، فتركها: يعني فلم ينفذها عملا لله -جل وعلا- فهذا تكتب له حسنة؛ لأن إخلاصه قلب تلك الإرادة السيئة إلى إرادة حسنة، والإرادة الحسنة والهم بالحسن يكتب له به حسنة.
والحال الثانية: أن يهم بالسيئة فلا يعملها؛ لأجل عدم تمكنه منها، والنفس باقية في رغبتها بعمل السيئة، فهذا وإن لم يعمل، فإنه لا تكتب له حسنة في ذلك، بل إن سعى في أسباب المعصية، فإنه تكتب عليه سيئة، كما جاء في الحديث: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا يا رسول الله: هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه .
قال العلماء: إذا تمكن المرء من أسباب المعصية، وصرفه صارف عنها، خارج عن إرادته، فإنه يجزى على همه بالسيئة سيئة، ويكون مؤاخذا بها بدلالة حديث: القاتل والمقتول في النار . قال: وإن هم بها، فعملها كتبها الله سيئة واحدة وهذا من عظيم رحمة الله -جل وعلا- بعباده المؤمنين أنهم إذا عملوا سيئة لا تضاعف عليهم، بل إنما يكتبها الله -جل وعلا- عليهم سيئة واحدة، وأما الحسنات فتضاعف عليهم؛ ولهذا لا يهلك على الله يوم القيامة إلا هالك، لا ترجح سيئات أحد على حسناته إلا هالك؛ لأن الحسنات تضاعف بأضعاف كثيرة، وحتى الهم بالسيئة إذا تركه تقلب له حسنة، والسيئة تكتب بمثلها، فلا يظهر بذلك أن يزيد ميزان السيئات لعبد على ميزان الحسنات إلا، وهو خاسر، وقد سعى في كثير من السيئات، وابتعد عن الحسنات. بهذا نشكر الله -جل وعلا- ونحمدك ربي على إحسانك وفضلك ونعمتك على هذا الكرم، وعلى هذه النعمة العظيمة، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا