الشيخ ابن العثيمين
النووي -رحمه الله- في هذا الكتاب يتساهل كثيراً، فيورد أحاديث ضعيفة وربما يحسّنها هو لأنه من الحفاظ، وابن رجب - رحمه الله- في كتابه: (جامع العلوم والحكم) يتعقّبه كثيراً، ولذلك يحسن منا أن نعلّق على المتن ببيان درجة الحديث، لكن الغالب أن ما يذكره من الأحاديث الضعيفة في هذا الكتاب أن له شواهد يرتقي بها إلى درجة الحسن.
هنا يقول المؤلف - رحمه الله -: رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما فلو أخذنا كلامه على العموم، لكان رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي لدخول هؤلاء في قوله: وغيرهما لكن هذا ليس بوارد، لأنه من عادتهم إذا ذكروا المخرجين الذين دون درجة الصحيحين ثم قالوا: وغيرهما فالمراد ممن هودونهما أو مثلهما، لايريدون أن يدخل من هو أعلى منهما، لأنه لو أرادوا من هو أعلى منهما لعيب على من ذكر الدون وأحال على الأعلى، وهذا واضح، لأن الواجب أن يذكر الأعلىثم يقال: وغيره.
قوله: ﴿إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي﴾ اللام هنا للتعليل، أي تجاوز من أجلي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.
والخطأ: أن يرتكب الإنسان العمل عن غير عمد.
والنسيان: ذهول القلب عن شيءٍ معلوم من قبل.
والاستكراه: أن يكرهه شخص على عمل محرم ولايستطيع دفعه، أي: الإلزام والإجبار.
وهذه الثلاثة أعذار شهد لها القرآن الكريم.
أما الخطأ والنسيان فقد قال الله عزّ وجل: ﴿رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ (البقرة: من الآية 286) وقال الله عزّ وجل: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ (الأحزاب: من الآية 5).
وأما الإكراه: فقال الله عزّ وجل: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (النحل: 106).
فرفع الله عزّ وجل حكم الكفر عن المكرَه، فما دون الكفر من المعاصي من باب أولى لاشك.
إذاً هذا الحديث مهما قيل في ضعفه فإنه يشهد له القرآن الكريم كلام رب العالمين.
من فوائد هذا الحديث:
1- سعة رحمة الله عزّ وجل ولطفه بعباده حيث رفع عنهم الإثم إذا صدرت منهم المعصيةعلى هذه الوجوه الثلاثة، ولو شاء الله لعاقب من خالف أمره على كل حال.
2- أن جميع المحرّمات في العبادات وغير العبادات إذا فعلها الإنسان جاهلاً أو ناسياً أو مكرهاً فلاشيء عليه فيما يتعلق بحق الله، أما حق الآدمي فلا يعفى عنه من حيث الضمان، وإن كان يُعفى عنه من حيث الإثم.
فجميع المحرّمات يرفع حكمها بهذه الأعذار وكأنه لم يفعلها ولايستثنى من هذا شيء، فلنضرب أمثلة:
رجل تكلّم في الصلاة يظن أن هذا الكلام جائز، فلا تبطل صلاته لأنه جاهل مخطئ ارتكب الإثم عن غير قصد، وهذا فيه نص خاص وهو: أن معاوية بن الحكم رضي الله عنه دخل مع النبي ﷺ في صلاة، فسمع عاطساً عطس فحمد الله، فقال له معاوية رضي الله عنه: يرحمك الله ، فرماه الناس بأبصارهم، أي جعلوا ينظرون إليه نظر إنكار فقال: واثكل أمّياه - كلمة توجع - فجعلوا يضربون على أفخاذهم يسكّتونه فسكت، فلمّا انتهت الصلاة دعاه من كان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً محمد ، قال معاوية: فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً أحسن تعليماً منه، ماكهرني، ولاشتمني، ولاضربني، وإنما قال: ﴿إِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ لاَيَصْلُحُ فِيْهَا شَيءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ إِنَّمَا هِيَ التَّكْبِيْرُ والتَّسبِيْحُ وَقِرَاءةُ القُرْآنِ﴾.
وجه الدلالة من هذا الحديث: أنه لم يأمره بالإعادة، ولو كانت الإعادة واجبة عليه لأمره بها كما أمر الذي لايطمئن في صلاته أن يعيد صلاته.
مثال آخر: رجل يصلي، فاستأذن عليه رجل - أي قرع الباب - فقال: تفضّل، نسي أنه في صلاة، فلاتبطل صلاته لأنه ناسٍ ولم يتعمّد الإثم.
مثال ثالث: رجل أكره على أن يأكل في نهار رمضان فأكل، فلا يفسد صومه لأنه مكره، لكن يشترط في الإكراه أن يكون المكره قادراً على تنفيذ ما أكره به، أما إذا كان غير قادر مثل أن يقول لشخص: يافلان كل هذا التمر وإن لم تأكل ضربتك، أو قيدتك وهو أضعف من الصائم، والصائم يستطيع أن يأخذه بيد واحدة ويقذفه، فهذا ليس بإكراه لأنه قادر على التخلّص.
مثال رابع: صائم أكل يظن الشمس غربت ثم تبيّن أنها لم تغرب، كمن سمع أذاناً وظنه أذان بلده فأكل ثم تبيّن أنه لم يؤذن فيه ولم تغرب الشمس، فليس عليه قضاء لأنه جاهل إذ لو علم أن الشمس باقية لم يأكل، ولو ضُرب على هذا لم يأكل، فظن أن الشمس غربت بسماع هذا الأذان فأكل فلاشيء عليه.
وقد جاء النص في هذه المسألة بعينها، فقد روت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنهم أفطروا في يوم غيمٍ على عهد النبي ﷺ ثم طلعت الشمس، إذاً هم أفطروا قبل أن تغرب الشمس ولم يأمرهم النبي ﷺ بالقضاء، ولو كان القضاء واجباً عليهم لأمرهم به لوجوب الإبلاغ عليه، ولو أمرهم به لكان من الشريعة، وإذا كان من الشريعة فالشريعة محفوظة لابد أن تنقل إلينا ولم تنقل، فدل هذا على أنه لا يجب عليهم القضاء.
ومن العلماء من قال: إنه يجب القضاء في هذه الحال استناداً إلى قول بعض الفقهاء.
وموقفنا من هذا القول أن نقول: إن الله تعالى قال: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ (النساء: من الآية 59) وقال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ (الشورى: من الآية 10) وحينئذ لايبقى لأحد كلام.
مثال خامس: رجل جامع زوجته في نهار رمضان وهو يعلم أن الجماع حرام، لكن لايعلم أن فيه كفارة، فهذا تلزمه الكفارة لأن هذا الرجل غير معذور، حيث انتهك حرمة رمضان وهو يعلم أن ذلك حرام فتلزمه الكفارة، ولهذا ألزم النبي ﷺ المجامع في نهار رمضان بالكفارة مع أنه لايعلم، وقصة هذا الرجل:
أنه أتى إلى النبي ﷺ وقال: يارسول الله هلكت؟ فقال: ﴿مَا الَّذِيْ أَهْلَكَكَ؟ قال: أتيتُ أهلي في رمضان وأنا صائم، فقال: ﴿أَعْتِقْ رَقَبَةً﴾، قال: لاأقدر، فقال: ﴿صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ قال: لا أستطيع، فقال: ﴿أَطْعِمْ سِتِّيْنَ مِسْكِيْنَاً﴾ قال: ليس عندي - فكل خصال الكفارة لا يستطيعها- فجلس الرجل فأتي بِمِكْتَلٍ فيه تمر - أي زنبيل- فقال النبي ﷺ: ﴿خُذْ هَذَا تَصَدّقْ بِهِ﴾ ، قال: يارسول الله: أعلى أفقر مني، والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني؟ فضحك النبي ﷺ حتى بدت أنيابه ثم قال: ﴿أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ﴾.
الشاهد من هذا الحديث: أن النبي ﷺ أوجب عليه الكفارة مع أنه كان لايدري أن فيه كفارة.
مثال سادس: رجل زنى يحسب أن الزنى حلال لأنه عاش في غير بلاد الإسلام وهو حديث عهد بإسلام، فلا حدَّ عليه لأنه جاهل حيث أسلم حديثاً ولم يدرِ أن الزنا حرام، فقوله مقبول.
لكن لوقال رجل عاش بين المسلمين: إنه لايدري أن الزنا حرام، فإنه لايقبل ويقام عليه الحدّ.
مثال سابع: رجل زنى وهو يعلم أن الزنى حرام، لكن لا يدري أن الزاني المحصن عليه الرجم، وقال: إنه لو علم أن عليه الرجم ما زنى، فإنه يرجم.
إذاً الجهل بما يترتب على الفعل ليس بعذر، إنما العذر إذا جهل الحكم.
ذكرنا أولاً أن هذا في حق الله، أما في حق المخلوق فلا يسقط الضمان وإن سقط الإثم، مثال ذلك: رجل اجتر شاة ظنها شاته فذكّاها وأكلها، فتبيّن أنها لغيره، فإنه يضمنها لأن هذا حق آدمي، وحقوق الآدمي مبنية على المشاحة، ويسقط عنه الإثم لأنه غير متعمّد لأخذ مال غيره.
ومثال آخر: رجل أكره على قتل إنسان وقال له المكره: إما أن تقتل فلاناً أو أقتلك، وهو يقدر أن يقتله، فقتله، فإن القاتل المكره يقتل، لأن حق الآدمي لايعذر فيه بالإكراه.
فإذا قال: أنا أعلم أنني إذا لم أقتل الرجل قتلني؟
فنقول: هل لك الحق أن تبقي نفسك بإهلاك غيرك؟ ليس لك حق. ولذلك إذا ارتفع قتل هذا المكره عنك فإننا لانرفع عنك القتل بمقتضى الشريعة الإسلامية.
مثال ثالث: جاء رجل قوي شديد وأخذ شخصاً بالغاً عاقلاً وأمسك به وضرب به إنساناً حتى مات المضروب، فإنه لايضمن لأنه ليس له تصرف، فهذا كالآلة فالضمان على الذي أمسكه وضرب به المقتول.
فهذا الحديث عام في كل حق لله عزّ وجل من المحظورات، أما المأمورات فإنها لايسقط أداؤها وقضاؤها، فلابد أن تُفعل. ولكن يسقط الإثم في تأخيرها بعذر.
فلو أن رجلاً أكل لحم إبل وهو على وضوء ولم يعلم أن أكل لحم الإبل ناقض للوضوء، فصلى، فيلزمه أن يعيد الوضوء والصلاة، وذلك لأن الواجب يمكن تداركه مع الجهل، وأما المحرم لايمكن تداركه لأنه فعله وانتهى منه.
فعلىهذا نقول: إذا ترك واجباً فلابد من فعله، ويدل لهذا: أن النبي ﷺ قال: ﴿مَنْ نَامَ عَنْ صَلاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصِلِّهَا إِذَا ذَكَرهَا﴾ فعذره عن التأخير ولم يعذره عن القضاء، بل أمره بالقضاء.
أما بالنسبة للجهل: فالرجل الذي جاء وصلى ولم يطمئن في صلاته قال له النبي ﷺ : ﴿ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ﴾ فرجع وصلى صلاة لا يطمئن فيها، ثم جاء فسلم على النبي ﷺ ، فقال: ﴿ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ﴾ ثلاث مرات حتى قال المصلي: والذي بعثك بالحق لاأحسن غير هذا فعلمني، فعلّمه، فهنا لم يعذره بالجهل لأن هذا واجب، والواجب يمكن تداركه مع الجهل فيفعل.
فإن قال قائل: هذا الرجل لم يأمره النبي ﷺ بإعادة ما مضى من الصلوات مع أنه صرح بأنه لا يحسن غير هذا، فما الجواب وأنتم تقولون: إن الواجبات إذا كان جاهلاً يُعذر فيها بالإثم أي يسقط عنه، لكن لابد من فعلها؟
قلنا:هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء: هل الواجبات تسقط بالجهل مطلقاً، أو يقال:تسقط بالجهل إن كان غير مقصّر، فإن كان مقصّراً لم يعذر؟
والظاهر: أن الواجبات تسقط بالجهل مالم يمكن تداركها في الوقت، ويؤيد هذا أن الحديث الذي ذكرناه لم يأمر فيه النبي ﷺ هذا الرجل بقضاء ما مضى من صلاته، وأمره بقضاء الصلاة الحاضرة لأنه يمكن تداركها، ولأنه الآن هو مطالب بها، لأن وقتها باق.
ويتفرع على هذا مسألة مهمة: كثير من البادية لايعرفون أن المرأة إذاحاضت مبكرة لزمها الصيام، ويظنون أن المرأة لايلزمها الصيام إلا إذا تم لها خمس عشرةسنة، وهي قد حاضت ولها إحدى عشرة سنة مثلاً، فلها خمس سنين لم تصم، فهل نلزمها بالقضاء؟
فالجواب: لا نلزمها بالقضاء، لأن هذه جاهلة ولم تقصّر، لأنه ليس عندها من تسأله، ثم إن أهلها يقولون لها: أنت صغيرة ليس عليك شيء، وكذلك لوكانت لاتصلّي.
فمثل هؤلاء نعذرهم، لأن الواجبات عموماً لاتلزم إلا بالعلم، لقول الله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ (الاسراء: من الآية 15) نعم إذا كان مقصّراً فنلزمه، مثل أن يقول رجل عاميٌّ لآخر مثله: يافلان يجب عليك كذا وكذا، فقال: لا يجب، قال له: اسأل العلماء، فقال: لا أسأل العلماء قال الله عزّ وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ (المائدة: من الآية 101) فهذا نقول: إنه مقصّر ونلزمه.
أيضاً إذاكان الواجب الذي تركه جهلاً يتعلق به حق الغير كالزكاة مثلاً، كرجل مضى عليه سنوات وهو لايزكّي، والمال الذي عنده زكوي، لكن لايدري أن فيه زكاة، فنلزمه بأداء ما مضى، لأن الزكاة ليس لها وقت محدد تفوت بفواته، فلوأخّرها عمداً إلى خمس سنوات لزمه أن يزكّي.
فهذا نلزمه بالزكاة وإن كان جاهلاً لتعلّق حق أ هل الزكاة بها وهو حق آدمي، لكن لانؤثمه لأنه كان جاهلاً.
فالمهم أن هذا الحديث مؤيَّدٌ بالقرآن الكريم كما سبق، وينبغي للإنسان أن ينظر إلى الحوادث التي تقع نسياناً أو جهلاً أو إكراهاً نظرة حازم ونظرة راحم.
نظرة حازم: بأن يلزم الإنسان إذاعلم أن فيه تقصيراً.
ونظرة راحم: إذا علم أنه لم يقصّر، لكنه جاهل لايدري عن شيء.
وكان شيخنا عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - يقول في المسائل الخلافية: إذا كان الإنسان قد فعل وانتهى فلا تعامله بالأشد، بل انظر للأخف وعامله به، لأنه انتهى ولكن انهَهُ أن يفعل ذلك مرّة أخرى، إذا كنت ترى أنه لايفعل. والله الموفّق
الشيخ صالح آل الشيخ
هذا الحديث -أيضا- فيه بيان فضل الله -جل وعلا - ورحمته بالمؤمنين، قال فيه -عليه الصلاة والسلام-: ﴿إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه﴾ ففي قوله: ﴿إن الله تجاوز لي﴾ ما يفهم أن هذا من خصائص هذه الأمة، فغيرنا من الأمم إذا هم بالعبد بحسنة لم تكتب له حسنة، وإذا هم بسيئة فتركها لم تكتب له حسنة، وكذلك في خصائص كثيرة ومنها: التجاوز عن الخطأ والنسيان، فرحم الله -جل وعلا - هذه الأمة بنبيها -ﷺ- وتجاوز لها عن الخطأ والنسيان. ولما نزل قول الله -جل وعلا - في آخر سورة البقرة: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ شق ذلك على الصحابة - رضوان الله عليهم - جدا حتى نزلت الآية الأخرى، وهي قوله -جل وعلا -: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ فدعا بها الصحابة - رضوان الله عليهم - قال الله -جل وعلا-: قد فعلت، فقوله -تعالى-: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ وقوله -جل وعلا -: قد فعلت، في معنى هذا الحديث، بل هذا الحديث في معنى الآية، فدل ذلك على أن من أخطأ فإنه لا إثم عليه، ومن نسي فلا إثم عليه، لكن هذا مختص بالحكم التكليفي. أما الحكم الوضعي، فإنه يؤاخذ بخطئه وبنسيانه، يعني: ما يتعلق بالضمانات، فإذا أخطأ، فقتل مؤمنا خطأ، فإنه يؤاخذ بالحكم الوضعي عليه بالدية، وما يتبع ذلك، وأما الإثم فإنه لا إثم عليه لأنه أخطأ، وكذلك إذا أخطأ، فاعتدى على أحد في ماله، أو في جسمه، أو في أشباه ذلك، فإنه لا إثم عليه من جهة حق الله -جل وعلا-، أما حق العباد في الحكم الوضعي، فإنهم مؤاخذون به، يعني أن الآية و الحديث دلا على التجاوز فيما كان في حق الله؛ لأن الله هو الذي تجاوز، وتجاوزه -جل وعلا- عن حقه -سبحانه وتعالى- وهذا هو المتعلق بالحكم التكليفي، كما هو معروف في بحثه في موضوعه، في علم أصول الفقه، والخطأ غير النسيان، وكذلك الإكراه ما يكره عليه -أيضا- يختلف عنهما، فالخطأ إرادة الشيء و حصول غيره من غير قصد لذلك، والنسيان الذهول عن الشيء، والإكراه، أو قوله: ﴿ما استكرهوا عليه﴾ يعني: ما أكرهوا عليه، فعملوا شيئا على جهة الإكراه، والله -جل وعلا - قال: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ﴾ الآية في سورة النحل، وهذا فيه من حيث التفريعات الفقهية مباحث كثيرة نطويها؛ طلبا للاختصار.