الشيخ صالح آل الشيخ
هذا الحديث، حديث ابن عمر -رضي الله عنه- ووصية النبي -ﷺ- له به حياة القلوب؛ لأن به الابتعاد عن الاغترار بهذه الدنيا بشباب المرء، أو بصحته، أو بعمره، أو بما حوله. قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: ﴿أخذ رسول الله -ﷺ- بمنكبي﴾ وهذا يدل على الاهتمام بابن عمر، وكان إذ ذاك شابا صغيرا في العشر الثانية من عمره، قال: أخذ بمنكبي، فقال: ﴿كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل﴾ وهذه من أعظم الوصية المطابقة للواقع لو عقل الناس، فإن الإنسان ابتدأ حياته في الجنة ونزل إلى هذه الأرض ابتلاء، فهو فيها غريب، أو عابر سبيل، فزيارته للدنيا - زيارة الجنس البشري - بأجمعه للدنيا هذه زيارة غريب، وإلا فإن مكان آدم ومن تبعه على إيمانه وتقواه وتوحيد الله -جل وعلا- والإخلاص له، فالمنزل هو الجنة، وإنما أخرج آدم من الجنة ابتلاء وجزاء على معصيته، وهذا إذا تأملته وجدت أن المرء المسلم حقيق أن يوطن نفسه، وأن يربيها على أن منزله الجنة، وليس هي هذه الدنيا، وهو في هذه الدنيا في دار ابتلاء، وإنما هو غريب، أو عابر سبيل كما قال المصطفى، ﷺ. وما أحسن استشهاد ابن القيم -رحمه الله تعالى- إذا ذكر أن حنين المسلم للجنة، وأن حبه للجنة ورغبه فيها هو بسبب أنها موطنه الأول، وأنه هو الآن سبي للعدو، ورحل عن أوطانه بسبب سبي إبليس لأبينا آدم، وهل ترى أن يرجع إلى داره الأولى أم لا؛ ولهذا ما أحسن قول الشاعر:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى مـا الحـب إلا للحبيب الأول
وهو الله -جلا جلاله-:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينـــه أبــدا لأول مــنزل
وهي الجنة. وهذا إنما يخلص له قلب المنيبين إلى الله -جل وعلا- دائما، المخبتين له، الذين تعلقت قلوبهم بالله حبا ورغبا ورهبا وطاعة، وتعلقت قلوبهم بدار الكرامة بالجنة، ويعملون لها وكأنها بين أعينهم، فهم في الدنيا كأنهم غرباء، أو كأنهم عابرو سبيل، ومن كان على هذه الحال غريب، أو عابر سبيل، فإنه لا يأنس بمقامه؛ لأن الغريب لا يأنس إلا بين أهله، وعابر السبيل دائما على عجل من أمره، وهذه حقيقة الدنيا، فإنه لو عاش ابن آدم ما عاش، عاش نوح ألف سنة منها تسعمائة وخمسون سنة في قومه: ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا﴾ ثم مضت وانتهت، وعاش أقوام مئات السنين ومضوا وانتهوا، وعاش قوم مائة سنة وثمانين، وأربعين وخمسين. فالحقيقة أنهم غرباء وعابرو سبيل، مروا بهذه الدنيا وذهبوا، والموت يصبح المرء ويمسيه، فيجب على المرء أن ينتبه إلى نفسه، وأعظم ما يصاب به العبد أن يصاب بالغفلة عن هذه الحقيقة، الغفلة عن حقيقة الدنيا ما هي، فإذا من الله عليك بمعرفة حقيقة الدنيا، وأنها دار غربة، وأنها دار ابتلاء، دار اختبار، دار ممر وليست دار مقر، فإنه يصحو قلبه، وأما إذا غفل عن هذه الحقيقة، فإنه يصاب قلبه من مقاتله، أيقظنا الله وإياكم من أنواع الغفلات.
ابن عمر -رضي الله عنه- كان يوصي بمقتضى الوصية، فيقول: ﴿إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء﴾ يعني: كن على حذر دائما من الموت أن يفاجأك، فكن على استعداد، وقد قيل في عدد من علماء السلف علماء الحديث: كان فلان لو قيل له: إنك تموت الليلة لما استطاع أن يزيد في عمله. لو قيل له: إنك تموت الليلة لما استطاع أن يزيد في عمله، وهذا يكون باستحضار حق الله -جل وعلا- دائما، وأنه إذا تعبد، فإنه يستحضر ذلك، ويخلص فيه لربه، وإذا خالف أهله يكون على الإخلاص وامتثال الشريعة، وإذا باع، أو اشترى يكون على الإخلاص، ويكون على الرغب في إتيان الحلال، وهكذا في كل أمر يأتيه، فإنه يكون على علم، وهذا فضل أهل العلم أنهم إذا تحركوا وعملوا، ففي كل حال يكونون فيه يستحضرون الحكم الشرعي فيه، فيمتثلون، أو يفعلون، وإن غلطوا، أو إن أذنبوا فسرعان ما يستغفرون، فيكونون بعد الاستغفار أمثل مما هم قبله، وهذه مقامات؛ ولهذا قال: ﴿وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك﴾ رواه البخاري.
الشيخ ابن العثيمين
قوله: ﴿أَخَذَ بِمنْكَبَيَّ﴾ أي أمسك بكفتي من الأمام. وذلك من أجل أن يستحضر مايقوله النبي ﷺ وقال: ﴿كُنْ فِي الدُّنِيا كَأَنَّكَ غَرِيْبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيْلٍ﴾ فالغريب لم يتخذها سكناً وقراراً، وعابر السبيل: لم يستقر فيها أبداً، بل هو ماشٍ.
وعابر السبيل أكمل زهداً من الغريب، لأن عابر السبيل ليس بجالس، والغريب يجلس لكنه غريب.
﴿كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيْبٌ أَوْ عَابرُ سَبِيْلٍ﴾ وهذا يعني الزهد في الدنيا، وعدم الركون إليها، لأنه مهما طال بك العمر فإن مآلك إلى مفارقتها. ثم هي ليست بدار صفاء وسرور دائماً، بل صفوها محفوف بكدرين، وسرورها محفوف بحزنين كما قال الشاعر:
لذاتُهُ بادّكارِ الموتِ والهَرَمِ ** ولاطيبَ للعيشِ مَا دامت منغّصةً
إذاً كيف تركن إليها؟ كن فيها كأنك غريب لاتعرف أحداً ولايعرفك أحد، أوعابر سبيل أي ماشٍ لاتنوي الإقامة.
﴿وَكَانُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَقُوْلُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ﴾. رواه البخاري.
هذه كلمات من ابن عمر رضي الله عنهما يقول:
﴿إِذَا أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ﴾ والمعنى: اعمل العمل قبل أن تصبح ولاتقل غداً أفعله، لأن منتظر الصباح إذا أمسى يؤخر العمل إلى الصباح، وهذا غلط، فلا تؤخر عمل اليوم لغد.
﴿وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ﴾ أي اعمل وتجهّز، وهذا أحد المعنيين في الأثر.
أو المعنى: ﴿إِذَا أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاح﴾ لأنك قد تموت قبل أن تصبح. ﴿وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ المَسَاء﴾ لأنك قد تموت قبل أن تمسي. وهذا في عهدنا كثير جداً، انظر إلى الحوادث كيف نسبتها؟ تجد الرجل يخرج من بيته وهو يقول لأهله هيؤوا لي الغداء، ثم لا يتغدى، يصاب بحادث ويفارق الدنيا، أو يموت فجأة، وقد شوهد من مات فجأة. وفي هذا يقول بعضهم: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً) والمعنى: الدنيا لاتهمّك، الذي لاتدركه اليوم تدركه غداً فاعمل كأنك تعيش أبداً، والآخرة اعمل لها كأنك تموت غداً، بمعنى: لاتؤخر العمل.
وهذا يروى حديثاً عن النبي ﷺ ولكنه ليس بحديث.
﴿وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ﴾ فالإنسان إذا كان صحيحاً تجده قادراً على الأعمال منشرح الصدر، يسهل عليه العمل لأنه صحيح، وإذا مرض عجز وتعب، أو تعذر عليه الفعل، أو إذا أمكنه الفعل تجد نفسه ضيّقة ليست منبسطة، فخذ من الصحة للمرض، لأنك ستمرض أو تموت.
﴿وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ﴾ الحي موجود قادر على العمل، وإذامات انقطع عمله إلا من ثلاث، فخذ من الحياة للموت واستعد.
هذه كلمات نيّرات، ولو أننا سرنا على هذا المنهج في حياتنا لهانت علينا الدنيا ولم نبال بها واتخذناها متاعاً فقط.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ينبغي للإنسان أن يجعل المال كأنه حمار يركبه، أو كأنه بيت الخلاء يقضي فيه حاجته فهذا هو الزّهد. وأكثر الناس اليوم يجعلون المال غاية فيركبهم المال، ويجعلونه مقصوداً فيفوتهم خير كثير.
من فوائد هذا الحديث:
1- التزهيد في الدنيا وأن لايتخذها الإنسان دار إقامة، لقوله: ﴿كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيْبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيْلٍ﴾.
2- حسن تعليم النبي ﷺ بضرب الأمثال المقنعة، لأنه لو قال: ازهد في الدنيا ولاتركن إليها وما أشبه ذلك لم يفد هذا مثل ما أفاد قوله: ﴿كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَريْبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيْلٍ﴾.
3- فعل ما يكون سبباً لانتباه المخاطب وحضور قلبه، لقوله: أَخَذَ بِمنْكَبَيَّ ، ونظير ذلك: أن النبي ﷺ لما علَّمَ ابن مسعود رضي الله عنه التشهد أمسك كفه وجعله بين كفيه حتى ينتبه.
4- أنه ينبغي للعاقل مادام باقياً والصحة متوفرة أن يحرص على العمل قبل أن يموت فينقطع عمله.
5- الموعظة التي ذكرها ابن عمر رضي الله عنهما: أن من أصبح لاينتظر المساء، وذكرنا لها وجهين في المعنى، وكذلك من أمسى لاينتظر الصباح.
والموعظة الثانية: أن يأخذ الإنسان من صحته لمرضه، لأن الإنسان إذا كان في صحة تسهل عليه الطاعات واجتناب المحرمات بخلاف ما إذاكان مريضاً، وكذلك أيضاً أن يأخذ الإنسان من حياته لموته.
6- فضيلة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حيث تأثّر بهذه الموعظة من رسول الله. والله أعلم
الشيخ صالح آل الشيخ
هذا الحديث، حديث ابن عمر -رضي الله عنه- ووصية النبي -ﷺ- له به حياة القلوب؛ لأن به الابتعاد عن الاغترار بهذه الدنيا بشباب المرء، أو بصحته، أو بعمره، أو بما حوله. قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: ﴿أخذ رسول الله -ﷺ- بمنكبي﴾ وهذا يدل على الاهتمام بابن عمر، وكان إذ ذاك شابا صغيرا في العشر الثانية من عمره، قال: أخذ بمنكبي، فقال: ﴿كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل﴾ وهذه من أعظم الوصية المطابقة للواقع لو عقل الناس، فإن الإنسان ابتدأ حياته في الجنة ونزل إلى هذه الأرض ابتلاء، فهو فيها غريب، أو عابر سبيل، فزيارته للدنيا - زيارة الجنس البشري - بأجمعه للدنيا هذه زيارة غريب، وإلا فإن مكان آدم ومن تبعه على إيمانه وتقواه وتوحيد الله -جل وعلا- والإخلاص له، فالمنزل هو الجنة، وإنما أخرج آدم من الجنة ابتلاء وجزاء على معصيته، وهذا إذا تأملته وجدت أن المرء المسلم حقيق أن يوطن نفسه، وأن يربيها على أن منزله الجنة، وليس هي هذه الدنيا، وهو في هذه الدنيا في دار ابتلاء، وإنما هو غريب، أو عابر سبيل كما قال المصطفى، ﷺ. وما أحسن استشهاد ابن القيم -رحمه الله تعالى- إذا ذكر أن حنين المسلم للجنة، وأن حبه للجنة ورغبه فيها هو بسبب أنها موطنه الأول، وأنه هو الآن سبي للعدو، ورحل عن أوطانه بسبب سبي إبليس لأبينا آدم، وهل ترى أن يرجع إلى داره الأولى أم لا؛ ولهذا ما أحسن قول الشاعر:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى مـا الحـب إلا للحبيب الأول
وهو الله -جلا جلاله-:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينـــه أبــدا لأول مــنزل
وهي الجنة. وهذا إنما يخلص له قلب المنيبين إلى الله -جل وعلا- دائما، المخبتين له، الذين تعلقت قلوبهم بالله حبا ورغبا ورهبا وطاعة، وتعلقت قلوبهم بدار الكرامة بالجنة، ويعملون لها وكأنها بين أعينهم، فهم في الدنيا كأنهم غرباء، أو كأنهم عابرو سبيل، ومن كان على هذه الحال غريب، أو عابر سبيل، فإنه لا يأنس بمقامه؛ لأن الغريب لا يأنس إلا بين أهله، وعابر السبيل دائما على عجل من أمره، وهذه حقيقة الدنيا، فإنه لو عاش ابن آدم ما عاش، عاش نوح ألف سنة منها تسعمائة وخمسون سنة في قومه: ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا﴾ ثم مضت وانتهت، وعاش أقوام مئات السنين ومضوا وانتهوا، وعاش قوم مائة سنة وثمانين، وأربعين وخمسين. فالحقيقة أنهم غرباء وعابرو سبيل، مروا بهذه الدنيا وذهبوا، والموت يصبح المرء ويمسيه، فيجب على المرء أن ينتبه إلى نفسه، وأعظم ما يصاب به العبد أن يصاب بالغفلة عن هذه الحقيقة، الغفلة عن حقيقة الدنيا ما هي، فإذا من الله عليك بمعرفة حقيقة الدنيا، وأنها دار غربة، وأنها دار ابتلاء، دار اختبار، دار ممر وليست دار مقر، فإنه يصحو قلبه، وأما إذا غفل عن هذه الحقيقة، فإنه يصاب قلبه من مقاتله، أيقظنا الله وإياكم من أنواع الغفلات.
ابن عمر -رضي الله عنه- كان يوصي بمقتضى الوصية، فيقول: ﴿إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء﴾ يعني: كن على حذر دائما من الموت أن يفاجأك، فكن على استعداد، وقد قيل في عدد من علماء السلف علماء الحديث: كان فلان لو قيل له: إنك تموت الليلة لما استطاع أن يزيد في عمله. لو قيل له: إنك تموت الليلة لما استطاع أن يزيد في عمله، وهذا يكون باستحضار حق الله -جل وعلا- دائما، وأنه إذا تعبد، فإنه يستحضر ذلك، ويخلص فيه لربه، وإذا خالف أهله يكون على الإخلاص وامتثال الشريعة، وإذا باع، أو اشترى يكون على الإخلاص، ويكون على الرغب في إتيان الحلال، وهكذا في كل أمر يأتيه، فإنه يكون على علم، وهذا فضل أهل العلم أنهم إذا تحركوا وعملوا، ففي كل حال يكونون فيه يستحضرون الحكم الشرعي فيه، فيمتثلون، أو يفعلون، وإن غلطوا، أو إن أذنبوا فسرعان ما يستغفرون، فيكونون بعد الاستغفار أمثل مما هم قبله، وهذه مقامات؛ ولهذا قال: ﴿وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك﴾ رواه البخاري.