الشيخ ابن العثيمين
هذا حديث قدسي وقد سبق تعريفه.
قوله: ﴿مَا دَعَوتَنِي﴾ (ما) هنا شرطية، وفعل الشرط: (دعا) في قوله: دَعَوتَنِي وجواب الشرط: ﴿غَفَرْتُ﴾.
وإذا أردت أن تعرف: (ما) الشرطية فاجعل بدلها: (مهما) فلو قلت: مهما دعوتني ورجوتني غفرت لك صحّ.
﴿مَا دَعَوتَنِي﴾ الدعاء ينقسم إلى قسمين: دعاء مسألة، ودعاء عبادة.
فدعاء المسألة أن تقول: يا رب اغفر لي. ودعاء العبادة أن تصلي لله
فنحتاج الآن إلى دليل وتعليل على أن العبادة تسمّى دعاءً؟
الدليل: قول الله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ (غافر: 60) فقال: ﴿ادْعُونِي﴾ ثم قال: ﴿يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾ فسمى الدعاء عبادة، وقد جاء في الحديث: ﴿أَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ العِبَادَةُ﴾ ووجهه ظاهر جداً، لأن داعي الله متذلل لله عزّ وجل منكسر له، قد عرف قدر نفسه، وأنه لايملك لها نفعاً ولاضرّاً.
أما كيف كانت العبادة دعاءً: فلأن المتعبّد لله داعٍ بلسان الحال، فلو سألت المصلي لماذا صلى لقال: أرجو ثواب الله، إذاً فهو داع بلسان الحال، وعليه فيكون قوله: مَا دَعَوتَنِيْ وَرَجَوتَنِي يشمل دعاء العبادة ودعاء المسألة، ولكن لاحظ القيد في قوله: وَرَجَوتَنِيْ فلابد من هذا القيد، أي أن تكون داعياً لله راجياً إجابته، وأما أن تدعو الله بقلب غافل فأنت بعيد من الإجابة، فلابد من الدعاء والرجاء.
وقوله: ﴿غَفَرْتُ لَكَ﴾ المغفرة: هي ستر الذّنب والتجاوز عنه.
﴿عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ﴾ أي على ما كان منك من الذنوب والتقصير.
﴿وَلاَ أُبَالِي﴾ أي لا أهتم بذلك.
﴿يَا ابْنَ آدَمَ لَو بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ﴾ المراد بقوله: عَنَانَ السَّمَاء أي أعلى السماء، وقيل إن عَنَانَ السَّمَاء ما عنَّ لك حين تنظر إليها، وقيل عَنَانَ السَّمَاء أي السحاب أعلاه، ولاشك أن السحاب يسمى العنان، لكن الظاهر أن المراد به ( عنان السماء).
والسماء على الأرض كالقبة له جوانب وله وسط، أعلاه بالنسبة لسطح الأرض هو الوسط.
﴿ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي﴾ أي طلبت مني المغفرة، سواء قلت: أستغفر الله، أو قلت: اللهم اغفر لي. لكن لابد من حضر القلب واستحضار الفقر إلى الله عزّ وجل.
﴿يَا ابنَ آدَمَ إنِّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقِرَابِ الأَرْضِ خطَايَا ثُمَّ لَقِيْتَني لاتُشْرِك بِيْ شَيْئَاً لأَتَيْتُكَ بِقِرَابِهَا مَغْفِرَةً﴾
قوله: ﴿لَوْ أَتَيْتَنِي﴾ أي جئتني بعد الموت. بِقِرَابِ الأَرْضِ أي مايقاربها، إما ملئاً، أو ثقلاً، أو حجماً، خَطَايا جمع خطيئة وهي الذنوب، ﴿ثُمَّ لَقِيْتَنِيْ لاَتُشْرِكْ بِي شَيْئَاً﴾ قوله: ﴿شَيئاً﴾ نكرة في سياق النفي تفيد العموم أي لا شركاً أصغر ولا أكبر، وهذا قيد عظيم قد يتهاون به الإنسان ويقول: أنا غير مشرك وهو لايدري، فحُبُّ المال الذي يلهي عن طاعة الله، من الإشراك لقول النبي ﷺ : ﴿تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ ، تَعِسَ عَبْدُ الخَمِيْصَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الخَمِيْلَةِ﴾ فسمّى النبي ﷺ من كان هذا همّه: عبداً لها.
﴿لأَتَيْتُكَ بِقِرَابِهَا مَغْفِرَةً﴾ وهذا لاشكّ من نعمة الله وفضله، بأن يأتي الإنسان ربه بملء الأرض خطايا ثم يأتيه عزّ وجل بقرابهامغفرة، وإلا فمقتضى العدل أن يعاقبه على الخطايا، لكنه جل وعلا يقول بالعدل ويعطي الفضل.
من فوائد هذا الحديث:
1- شرف بني آدم حيث وجه الله إليه الخطاب بقوله ﴿يَا ابْنَ آدَمَ﴾ ولاشك أن بني آدم فضّلوا على كثير ممن خلقهم الله عزّ وجل وكرّمهم الله سبحانه وتعالى، قال الله تبارك وتعالى ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ (الاسراء: 70).
2- أن كلمة (ابن) أو: (بني) أو ما أشبه ذلك إذا أضيفت إلى القبيلة أو إلى الأمة تشمل الذكور والإناث، وإذا أضيفت إلى شيء محصور فهي للذكور فقط. وهي هنا في الحديث مضافة إلى الأمة كلها، حيث قال: يَا ابنَ آدَمَ فيشمل الذكور والإناث.
ويتفرّع على هذه المسألة: لو قال قائل: هذا البيت وقف على بني صالح وهو واحد، فيشمل الذكور فقط، لأنهم محصورون، أما لو قال: هذا وقف على بني تميم شمل الذكور والإناث.
3- أن من دعا الله ورجاه فإن الله تعالىيغفر له.
4- أنه لابد مع الدعاء من رجاء، وأما القلب الغافل اللاهي الذي يذكر الدعاء على وجه العادة فليس حريّاً بالإجابة، بخلاف الذكر كالتسبيح والتهليل وما أشبه ذلك، فهذا يُعطى أجراً به، ولكنه أقل مما لو استحضر وذكر بقلبه ولسانه.
والفرق ظاهر، لأن الداعي محتاج فلابد أن يستحضر في قلبه ما احتاج إليه، وأنه مفتقر إلى الله عزّ وجل.
5- إثبات صفات النفي التي يسميها العلماء الصفات السلبية، لقوله: ﴿وَلاَ أُبَالِي﴾ فإن هذه صفة منفية عن الله تعالى، وهذامن قسم العقائد. وهذا كثير في القرآن مثل قوله: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ﴾ (البقرة: من الآية 255) وقوله: ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾ (الكهف: من الآية 49) وقوله: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾ (الفرقان: من الآية 58) وهي كثيرة.
ولكن اعلم أن المراد بالصفات المنفية إثبات كمال الضد، فيكون نفي المبالاة هنا يراد به كمال السلطان والفضل والإحسان، وأنه لاأحد يعترض على الله أو يجادله فيما أراد.
6- أن الله تعالى يغفر الذنوب جميعاً مهما عظمت لقوله: ﴿لَو بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاء ثُمَّ استَغْفَرْتَنِيْ غَفَرْتُ لَكَ﴾ وأن الإنسان متى استغفر الله عزّ وجل من أي ذنب كان عِظَمَاً وقدراً فإن الله تعالى يغفره، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً﴾ (النساء: 110).
ولكن هل الاستغفار مجرّد قول الإنسان: اللهم اغفر لي، أو أستغفر الله؟
الجواب: لا، لابد من فعل أسباب المغفرة وإلا كان دعاؤه كالاستهزاء كما لو قال الإنسان: اللهم ارزقني ذرية طيبة، ولم يعمل لحصول الذرية، والذي تحصل به المغفرة التوبة إلى الله عزّ وجل.
والتوبة: من تاب يتوب أي رجع. وهي الرجوع من معصية الله إلىطاعته. ويشترط لها خمسة شروط:
الشرط الأول: الإخلاص:
والإخلاص شرط في كل عبادة، والتوبة من العبادات، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ (البينة: من الآية 5) فمن تاب مراءاة للناس، أو تاب خوفاً من سلطان لاتعظيماً لله عزّ وجل فإن توبته غير مقبولة.
الشرط الثاني: الندم على ما حصل:
وهو انكسار الإنسان وخجله أمام الله عزّ وجل أن فعل مانهي عنه، أو ترك ما أوجب عليه.
فإن قال قائل: الندم انفعال في النفس، فكيف يسيطر الإنسان عليه؟
فالجواب: أنه يسيطر عليه إذا أشعر نفسه بأنه في خجل من الله عزّ وجل وحياء من الله ويقول: ليتني لم أفعل وما أشبه ذلك.
وقال بعض أهل العلم: إن الندم ليس بشرط:
أولاً: لصعوبة معرفته.
والثاني: لأن الرجل إذا أقلع فإنه لم يقلع إلا وهونادم، وإلا لاستمر. لكن أكثر أهل العلم -رحمهم الله - على أنه لابد أن يكون في قلبه ندم.
الشرط الثالث: الإقلاع عن المعصية التي تاب منها:
فإن كانت المعصية ترك واجب يمكن تداركه وجب عليه أن يقوم بالواجب، كما لو أذنب الإنسان بمنع ا لزكاة، فإنه لابد أن يؤدي الزكاة، أو كان فعل محرماً مثل أن يسرق لشخص مالاً ثم يتوب، فلابد أن يرد المال إلى صاحبه، وإلا لم تصح توبته.
فإن قال قائل: هذا رجل سرق مالاً من شخص وتاب إلى الله، لكن ا لمشكل كيف يؤدي هذا المال إلى صاحبه؟ يخشىإذا أدى المال إلى صاحبه أن يقع في مشاكل فيدّعي مثلاً صاحب المال أن المال أكثر، أو يتَّهَم هذا الرجل ويشيع أمره، أو ما أشبه ذلك، فماذا يصنع؟
نقول: لابد أن يوصل المال إلى صاحبه بأي طريق، وبإمكانه أن يرسل المال مع شخص لايتهم بالسرقة ويعطيه صاحبه، ويقول: يا فلان هذامن شخص أخذه منك أولاً والآن أوصله إليك، ويكون هذاالشخص محترماً أميناً بمعنى أنه لايمكن لصاحب المال أن يقول: إما أن تعين لي من أعطاك إياه وإلا فأنت السارق، أما إذاكان يمكن فإنه مشكل.
مثال ذلك: أن يعطيه القاضي، أو يعطيه الأمير يقول: هذا مال لفلان أخذته منه، وأنا الآن تائب، فأدّه إليه. وفي هذه الحال يجب على من أعطاه إياه أن يؤدّيه إنقاذاً للآخذ وردّاً لصاحب المال.
فإذا قال قائل: إن الذي أخذت منه المال قد مات، فماذا أصنع؟
فالجواب: يعطيه الورثة، فإن لم يكن له ورثة أعطاه بيت المال.
فإذا قال :أنا لا أعرف الورثة، ولا أعرف عنوانهم؟
فالجواب: يتصدّق به عمن هو له، والله عزّ وجل يعلم هذا ويوصله إلى صاحبه. فهذه مراتب التوبة بالنسبة لمن أخذ مال شخص معصوم.
تأتي مسألة الغيبة: فالغيبة يتخلص منها إذا تاب:
من العلماء من قال: لابد أن يذهب إلى الشخص ويقول: إني اغتبتك فحللني، وفي هذا مشكلة.
ومنهم من فصّل وقال: إن علم بالغيبة ذهب إليه واستحله، وإن لم يعلم فلاحاجة أن يقول له شيئاً لأن هذا يفتح باب شرّ.
ومنهم من قال: لايُعلِمْه مطلقاً، كما جاء في الحديث: ﴿كَفَّارَةُ مَنِ اغْتَبْتَهُ أَنْ تَستَغْفِرَ لَهُ﴾ فيستغفر له ويكفي.
ولكن القول الوسط هو الوسط، وهو أن نقول: إن كان صاحبه قد علم بأنه اغتابه فلابد أن يتحلل منه، لأنه حتى لو تاب سيبقىفي قلب صاحبه شيء، وإن لم يعلم كفاه أن يستغفر له.
الشرط الرابع: العزم على أن لايعود:
فلابد من هذا، فإن تاب من هذا الذنب لكن من نيته أن يعود إليه متىسنحت له الفرصة فليس بتائب، ولكن لو عزم أن لايعود ثم سوّلت له نفسه فعاد فالتوبة الأولى لاتنتقض، لكن يجب أن يجدد توبة للفعل الثاني.
ولهذا يجب أن نعرف الفرق بين أن نقول: من الشرط أن لايعود، وأن نقول:من الشرط العزم على أن لايعود.
الشرط الخامس: أن تكون التوبة وقت قبول التوبة:
فإن كانت في وقت لاتقبل فيه لم تنفعه، وذلك نوعان: نوع خاص، ونوع عام.
النوع الخاص: إذاحضر الإنسان أجله فإن التوبة لاتنفع، لقول الله تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ (النساء: من الآية 18) ولما غرق فرعون قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين فقيل له: ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (يونس: 91).
أي الآن تسلم، ومع ذلك لم ينفعه.
وأما العام: فهو طلوع الشمس من مغربها، فإن الشمس تشرق من المشرق وتغرب من المغرب، فإذا طلعت من المغرب آمن الناس كلهم، ولكن لاينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.
ولهذا قال النبي ﷺ: ﴿لاً تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوبَةُ، وَلاتَنْقَطعُ التَّوبَةُ حَتَّى تَخْرُجَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا﴾.
فهذه هي شروط التوبة، وأكثر العلماء - رحمهم الله - يقولون:شروط التوبة ثلاثة: الندم، والإقلاع، والعزم على أن لايعود.
ولكن ما ذكرناه أوفى وأتمّ، ولابد مما ذكرناه.
6- أن الإنسان إذا أذنب ذنوباً عظيمة ثم لقي الله لايشرك به شيئاً غفر الله له. ولكن هذا ليس على عمومه لقول الله تعالى : ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ (النساء: 48).
فقوله هنا في الحديث: ﴿لأَتيتُكَ بِقِرَابِهَا مَغْفِرَةً﴾ هذا إذا شاء، وأما إذا لم يشأ فإنه يعاقب بذنبه.
7- فضيلة التوحيد وأنه سبب لمغفرة الذنوب، وقد قال الله عزّ وجل: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ (الأنفال: من الآية 38) فمهما عظمت الذنوب إذا انتهى الإنسان عنها بالتوحيد غفر الله له.
8- إثبات لقاء الله عزّ وجل، لقوله: ﴿ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَتُشْرِك بِي شَيْئَاً﴾ وقد دلّ على ذلك كتاب الله عزّ وجل، قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾ (الكهف: من الآية 110) وقال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ﴾ (الانشقاق: 6).
فلابد من ملاقاة الله عزّ وجل، والنصوص في هذا كثيرة، فيؤخذ من ذلك: أنه يجب على الإنسان أن يستعد لملاقاة الله، وأن يعرف كيف يلاقي الله، هل يلاقيه على حال مرضيةٍ عند الله عزّ وجل، أو على العكس؟ ففتّش نفسك واعرف ما أنت عليه.
ومن حسن تأليف المؤلّف - رحمه الله - أنه جعل هذا الحديث آخر الأحاديث التي اختارها - رحمه الله - المختوم بالمغفرة، وهذا يسمّى عند البلاغيين براعة اختتام.
وهناك مايسمّى براعة افتتاح فإذا افتتح الإنسان كتابه بما يناسب الموضوع يسمونه براءة افتتاح، مثل قول ابن حجر - رحمه الله - في بلوغ المرام:
الحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة قديماً وحديثاً يشير إلى أن هذا الكتاب في الحديث.
وإلىهنا ينتهي الكلام على الأربعين النووية المباركة، التي نحثُّ كل طالب علم على حفظها وفهم معناها والعمل بمقتضاها، نسأل الله عزّ وجل أن يجعلنا ممن سمع وانتفع إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
الشيخ صالح آل الشيخ
عن أنس -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -ﷺ- يقول: قال الله -تعالى-: ﴿يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي﴾ المقصود بابن آدم هنا المسلم الذي اتبع رسالة الرسول الذي أرسل إليه، فمن اتبع رسالة موسى -عليه السلام- في زمنه كان منادى بهذا النداء، من اتبع رسالة عيسى في زمنه كان منادى بهذا النداء. وبعد بعثة محمد -ﷺ- من يحظى على هذا الأجر وعلى هذا الفضل والثواب هو من اتبع المصطفى -ﷺ- وأقر له بختم الرسالة، وشهد له بالنبوة والرسالة، واتبعه على ما جاء به. قال -جلا وعلا-: ﴿يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي﴾ وهذه الجملة في معنى قول الله -جل وعلا -: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ فالعبد إذا أذنب وسارع إلى التوبة، ودعا الله -جل وعل- أن يغفر له، ورجى ما عند الله -جل وعلا- فإنه يغفر له على ما كان منه من الذنوب مهما كانت بالتوبة ﴿التوبة تجب ما قبلها﴾. وقوله -جل وعلا- هنا: ﴿إنك ما دعوتني ورجوتني﴾ فيه أن الدعاء مع الرجاء موجبان لمغفرة الله -جل وعلا- وهناك من يدعو، وهو ضعيف الظن بربه، لا يحسن الظن بربه، وقد ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: قال الله -تعالى-: ﴿أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء﴾ والعبد إذا دعا الله -جل وعلا- مستغفرا لذنبه يدعو مستغفرا ومستحضرا أن فضل الله عظيم، وأنه يرجو الله أن يغفر، وأن الله سيغفر له. فإذا عظم الرجاء بالله، وأيقن أن الله -جل وعلا- سيغفر له، وعظم ذلك في قلبه، حصل له مطلوبه؛ لأن في ذلك إحسان الظن بالله، وإعظام الرغبة بالله -جل وعلا- وهناك عبادات قلبية كثيرة تجتمع على العبد المذنب حين طلبه الاستغفار وقبول التوبة، حين طلبه المغفرة وقبول التوبة، تجتمع عليه عبادات قلبية كثيرة توجب مغفرة الذنوب فضلا من الله -جل وعلا- وتكرما. قال: ﴿غفرت لك﴾ والمغفرة: ستر الذنب وستر أثر الذنب في الدنيا والآخرة، والمغفرة غير التوبة؛ لأن المغفرة ستر، غفر الشيء بمعنى ستره، والمقصود من ستر الذنب أن يستر الله -جل وعلا- أثره في الدنيا والآخرة، وأثر الذنب في الدنيا العقوبة عليه، وأثر الذنب في الآخرة العقوبة عليه، فمن استغفر الله -جل وعلا- غفر الله له يعني: من طلب ستر الله عليه في أثر ذنبه في الدنيا والآخرة؛ ستر الله عليه، محا أو ستر أثر الذنب بحجب أثر الذنب من العقوبة في الدنيا والآخرة. قال: ﴿يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء﴾ يعني: من كثرتها بلغت عنان السماء: السحاب العالي، من كثرتها وتراكمها. قال: ﴿ثم استغفرتني غفرت لك﴾ وهذا مما يجعل العبد المنيب يحب ربه -جل وعلا- أعظم محبة؛ لأن الله العظيم الذي له صفات الجلال والجمال والكمال، والذي له هذا الملكوت كله، وهو الذي على كل شيء قدير، وعلى كل شيء وكيل، وهو الذي من صفاته كذا وكذا، من عظيم صفاته وجليل النعوت والأسماء، يتودد إلى عبده بهذا التودد لا شك أن هذا يجعل القلب محبا لربه -جل وعلا- متذللا بين يديه، مؤثرا مرضاة الله على مرضاة غيره -سبحانه وتعالى-. قال الله -جل وعلا- ﴿يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك﴾ وهذا فيه الحث على طلب المغفرة، فإنك إذا أذنبت فاستغفر، فإنه ما أصر من استغفر، ولو عاد في اليوم سبعين مرة كما جاء في الأثر، فمع الاستغفار والندم يمحو الله -جل وعلا- الخطايا. قال: ﴿يا ابن آدم لو آتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لآتيتك بقرابها مغفرة﴾ يعني: لو جاء ابن آدم بملء الأرض خطايا، ثم لقي الله -جل وعلا- مخلصا له الدين لا يشرك به شيئا، لا جليل الشرك ولا صغيره ولا خفيه، بل قلبه مخلص لله -جل وعلا- ليس فيه سوى الله -جل وعلا- وليس فيه رغب إلا إلى الله -جل وعلا- وليس فيه رجاء إلا رجاء الله -جل وعلا- لا يشرك به شيئا، بأي نوع من أنواع الشرك، فإن الله -جل وعلا- يغفر الذنوب جميعا. قال -سبحانه-: ﴿ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لآتيتك بقرابها مغفرة﴾ يعني: بملء الأرض مغفرة، وهذا من عظيم رحمة الله -جل جلاله- بعباده، وإحسانه لهم.