الشيخ صالح آل الشيخ
Перевод шарха на русский язык — прослушать
هذا هو الحديث الأول؛ حديث عمر -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -ﷺ- يقول: ﴿إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى﴾ وهذا الحديث حديث عظيم حتى قال طائفة من السلف، ومن علماء الملة: ينبغي أن يكون هذا الحديث في أول كل كتاب من كتب العلم؛ ولهذا بدأ به البخاري -رحمه الله- صحيحه، فجعله أول حديث فيه حديث ﴿إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى﴾ بحسب اللفظ الذي أورده في أوله.
وهذا الحديث أصل من أصول الدين، وقد قال الإمام أحمد: ثلاثة أحاديث يدور عليها الإسلام:
حديث عمر: ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾، وحديث عائشة: ﴿من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد﴾. وحديث النعمان بن بشير: ﴿الحلال بين والحرام بين﴾. وهذا الكلام من إمام أهل السنة متين للغاية؛ ولذلك أن عمل المكلف دائر على امتثال الأمر، واجتناب النهي، وامتثال الأمر، واجتناب النهي هذا هو الحلال والحرام، وهناك بين الحلال والحرام مشبهات، وهو القسم الثالث. وهذه الثلاث هي التي وردت في حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه- ﴿الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات﴾ وفي رواية: "مشبهات" والعمل لمن أراد أن يعمل، أو فعل الأمر واجتناب النهي لا بد أن يكون بنية حتى يكون صالحًا. فرجع تصحيح ذلك العمل، وهو الإتيان بما فرض الله، أو الانتهاء عما حرم الله إلى وجود النية التي تجعل هذا العمل صالحًا مقبولاً، ثم إن ما فرض الله -جل وعلا- من الواجبات، أو من المستحبات، وما فرض الله -جل وعلا- من الواجبات، أو ما شرع من المستحبات، لا بد فيه من ميزان ظاهر حتى يصلح العمل، وهذا يحكمه حديث ﴿من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد﴾ كما في رواية مسلم للحديث. فإذًا هذا الحديث؛ حديث الأعمال ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾ يحتاج إليه في كل شيء؛ يحتاج إليه في امتثال الأوامر، وفي اجتناب النواهي، وفي ترك المشتبهات، وبهذا يعظم وقع هذا الحديث؛ لأن المرء المكلَّف في أي حالة يكون عليها ما بين أمر يأتيه؛ إما أمر إيجاب، أو استحباب، وما بين نهي ينتهي عنه؛ نهي تحريم، أو نهي كراهة، أو يكون الأمر مشتبهًا، فيتركه، وكل ذلك لا يكون صالحًا إلا بإرادة وجه الله -جل وعلا- به وهي النية.
قوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾ روي أيضًا في الصحيح ﴿إنما العمل بالنية﴾ و روي ﴿إنما الأعمال بالنية﴾ بألفاظ مختلفة والمعنى واحد، فإنه إذا أُفرِد العمل أو النية أريد بها الجنس، فتتفق رواية الإفراد مع رواية الجمع.
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى﴾ هذا فيه حصر؛ لأن لفظ "إنما" من ألفاظ الحصر عند علماء المعاني، والحصر يقتضي أن تكون الأعمال محصورة في النيات، ولهذا نَظَر العلماء ما المقصود بقوله: ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾؟ لأنه حصر الأعمال بالنيات، فقال طائفة من أهل العلم وهو القول الأول: إن قوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾ يعني: إنما الأعمال، وقوعها مقبولة، أو صحيحة بالنية.
و ﴿إنما لامرئ ما نوى﴾ يعني: وإنما يثاب المرء على العمل الذي عمله بما نواه، فتكون الجملة الأولى متعلقة بصحة العمل، والجملة الثانية يراد بها الثواب على العمل ﴿إنما الأعمال بالنيات ﴾الباء هنا للسببية، يعني: إنما الأعمال تقبل، أو تقع صحيحة بسبب النية، فيكون تأصيلًا لقاعدة عامة.
قال: ﴿وإنما لكل امرئ ما نوى﴾ اللام هذه لام الملكية، يعني: مثل التي جاءت في قوله -تعالى-: ﴿وَ أَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾ ﴿وإنما لكل امرئ ما نوى﴾ يعني: من ثواب عمله ما نواه، هذا قول طائفة من أهل العلم.
والقول الثاني: أن قوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾ هذا راجع إلى أن الباء سببية أيضًا، والمقصود بها سبب العمل لا سبب قبوله، قالوا: لأننا لا نحتاج مع هذا إلى تقدير، فقوله: ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾ يعني: إنما الأعمال بسبب النيات، فما من عمل يعمله أحد إلا و له إرادة وقصد فيه وهي النية.
فمنشأ الأعمال؛ سواء كانت صالحة أو فاسدة، طاعة أو غير طاعة، إنما منشؤها إرادة القلب لهذا العمل، وإذا أراد القلب عملًا، وكانت القدرة على إنفاذه تامة، فإن العمل يقع فيكون قوله - عليه الصلاة والسلام- على هذا: ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾ يعني: إنما الأعمال صدورها وحصولها بسبب نية من أصدرها، بسبب إرادة قلبه وقصده لهذا العمل.
﴿وإنما لكل امرئ ما نوى﴾ هذا فيه أن ما يحصل للمرء من عمله ما نواه نية صحيحة، يعني: إذا كانت النية صالحة صار ذلك العمل صالحًا، فصار له ذلك العمل.
والقول الأول أصح؛ وذلك لأن تقريب مبعث الأعمال، وأنها راجعة لعمل القلب، هذا ليس هو المراد بالحديث، كما هو ظاهر من سياقه، وإنما المراد اشتراط النية للعمل، وأن النية هي المصححة للعمل، وهذا فيه وضوح؛ لأن قوله -عليه الصلاة والسلام- ﴿إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى﴾ بيان لما تطلبه الشريعة، لا لما هو موجود في الواقع.
فلهذا نقول: الراجح من التفسيرين أن قوله -عليه الصلاة والسلام- ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾ يعني: إنما الأعمال صحة وقبولاً أو فسادًا بسبب النيات، وإنما لامرئ من عمله ثوابًا وأجرًا ما نواه. إذا تقرر هذا فالأعمال ما هي؟
الأعمال جمع عمل، والمقصود به هنا ما يصدر عن المكلف، ويدخل فيه الأقوال فليس المقصود بالعمل قسيم القول، القول والعمل والاعتقاد قسيم القول والاعتقاد، وإنما الأعمال هنا كل ما يصدر عن المكلف من أقوال وأعمال، قول القلب، وعمل القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح.
فيدخل في قوله: ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾ كل ما يتعلق بالإيمان؛ لأن الإيمان قول وعمل، قول اللسان، وقول القلب وعمل القلب وعمل الجوارح، فقوله: ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾ يدخل فيها جميع أنواع ما يصدر من المكلف.
طبعًا هذا العموم عموم مراد به الخصوص؛ لأن العموم عند الأصوليين على ثلاثة أقسام: عام باق على عمومه، وعام دخله التخصيص، وعام مراد به الخصوص، يعني: أن يكون اللفظ عامًا، ويراد به بعض الأفراد.
وهنا لا يدخل في الأعمال في قوله: ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾ لا يدخل فيها الأعمال التي لا تشترط لها النية مثل أنواع التروك، وإرجاع المظالم، وأشباه ذلك، تطهير النجاسة، وأمثال ذلك، يعني: مما لا يشترط له النية؛ لأنه ترك ونحوه، والنية التي عليها مدار هذا الحديث، النية: قصد القلب وإرادته.
وإذا قلنا: النية قصد القلب وإرادته علقناها بالقلب، فالنية إذًا ليس محلها اللسان ولا الجوارح، وإنما محلها القلب نوى يعني: قصد بقلبه وأراد بقلبه هذا الشيء.
فالأعمال مشروطة بإرادة القلب وقصده، فأي إرادة وقصد هذه المقصود بها إرادة وجه الله -جل وعلا- بذلك؛ ولهذا في القرآن يأتي معنى النية بلفظ الإرادة والابتغاء وأشباه ذلك، كما في قوله: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ﴾ وكما في قوله: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ ونحو ذلك ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ اْلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ﴾ يريد يعني: ينوي يطلب ويقصد، هذه هي النية ﴿وَمَنْ أَرَادَ اْلآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا﴾ هذه النية.
أو لفظ الابتغاء كقوله -جل وعلا-: ﴿إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ اْلأَعْلَى﴾ وكما في قوله -جل وعلا-: ﴿لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾.
فإذًا في النصوص يكثر ورود النية بلفظ أولاً: الإرادة إرادة القلب، ثانيًا: بلفظ الابتغاء، أو بلفظ الإسلام؛ إسلام القلب والوجه لله -جل وعلا- والنية في كلام الله -جل وعلا- أو في الشريعة بعامة يراد بها أحد معنيين: المعنى الأول: نية متجهة للعبادة، والمعنى الثانى: نية متجهة للمعبود.
فالنية قسمان:
نية متعلقة بالعبادة، ونية متعلقة بالمعبود، فأما المتعلقة بالعبادة فهي التي يستعملها الفقهاء في الأحكام حين يأتون إلى الشروط، الشرط الأول: النية، يقصدون بذلك النية المتوجهة للعبادة، وهي تمييز العبادات بعضها عن بعض.
تمييز الصلاة عن الصيام، تمييز الصلاة المفروضة عن النفل، يعني: أن يميز القلب فيما يأتي ما بين عبادة وعبادة، أتى المسجد وأراد أن يركع ركعتين، ميز قلبه هاتين الركعتين هل هي ركعتا تحية المسجد، أو هي ركعتا راتبة؟ أو هل هي ركعتا استخارة؟ إلى آخره... فتمييز القلب ما بين عبادة وعبادة هذه هي النية التي يتكلم عنها الفقهاء في الكتب الفقهية وهي النية المتوجهة للعبادة.
القسم الثانى: النية المتوجهة للمعبود، وهذه هي التي يتحدث عنها باسم الإخلاص: إخلاص القلب، إخلاص النية، إخلاص العمل لله -جل وعلا- وهي التي تستعمل كثيرًا بلفظ النية والإخلاص والقصد.
فإذًا هذا الحديث شَمَل نوعي النية: النية التي توجهت للمعبود، والنية التي توجهت للعبادة، فـ ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾ يعني: إنما العبادات تقع صحيحة، أو مقبولة بسبب النية، يعني: النية التي تميز العبادة بعضها عن بعض أولا.
والنية التي هي إخلاص العبادة للمعبود، وهو الله -جل جلاله- فلهذا لا يصلح أن نقول: النية هنا هي النية التي بمعنى الإخلاص، ونقول: إن كلام الفقهاء في النيات لم يدخل فيه الإخلاص، ولا القسم الثاني، فإن تحقيق المقام انقسام النية إلى هذين النوعين -كما أوضحت لكم-.
قال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿وإنما لكل امرئ ما نوى﴾ يعني: هذا حصر أيضًا، وإنما لكل امرئ من عمله ثوابًا وأجرًا لما نواه بعمله، فإن كان نوى بعمله الله والدار الآخرة، يعني: أخلص لله -جل وعلا- مريدا وجه الله -جل وعلا- فعمله صالح، وإن كان عمله للدنيا فعمله فاسد؛ لأنه للدنيا.
وهذا كما جاء في آيات كثيرة إخلاص الدين لله -جل علا-: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ يعني: الدين يقع على نية الإخلاص، كما في قوله -جل وعلا-: ﴿أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾.
وقد جاء في أحاديث كثيرة بيان إخلاص العمل لله -جل وعلا- كقوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الذي رواه مسلم في الصحيح: ﴿أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه﴾ وفي لفظ آخر قال -عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث القدسي: ﴿فهو للذي أشرك، وأنا منه بريء﴾.
وهذا يدل على أن العمل لا بد أن يكون خالصًا لله -جل وعلا- حتى يكون مقبولاً، ويؤجر عليه العبد، إذا وصلنا إلى هذا فمعناه أن من عمل عملاً، ودخل في ذلك العمل نية غير الله -جل وعلا- بذلك العمل، فإن العمل باطل لقوله: ﴿من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه﴾ ﴿فهو للذي أشرك﴾ ﴿إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى﴾.
وهذه يحتمل أن يكون المراد بذلك العملِ العملَ الذي يكون في أصل العبادة، أو في أثناء العبادة، أو غيَّر نيته بعد العبادة، يحتمل هذا، أو تكون العبادة أيضا في بعضها لله، وفي بعضها لغير الله، فما المراد؟
قال العلماء: تحقيق هذا المقام أن العمل إذا خالطته نية فاسدة، يعني: رياء نوى للخلق، أو سمعة، فإنه إن أنشأ العبادة للخلق فهي باطلة، يعني: صلى دخل في الصلاة، لا لإرادة الصلاة؛ ولكن يريد أن يراه فلان، فهذه الصلاة باطلة.
وهو مشرك كما جاء في الحديث: ﴿من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك﴾ يعني: حين أنشأ الصلاة الواحدة أنشأها يرائي، وإلا فإن إنشاء المسلم عباداته جميعًا على الرياء هذا غير متصور، وإنما يقع الرياء ربما في بعض عبادات المسلم؛ إما في أولها، وإما في أثنائها.
وأما الرياء التام في جميع الأعمال فإن هذا لا يتصور من مسلم، وإنما يكون من الكفار والمنافقين، كما قال -جل وعلا- في وصفهم: ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ و قوله في وصف الكفار: ﴿رِئَاءَ النَّاسِ﴾ يعني: بهذا أن:
القسم الأول: نية ابتدأ بها العبادة لغير الله، فهذه العبادة تكون باطلة: صلاته باطلة، صيامه باطل، وصدقته باطلة، نوى بالعمل غير وجه الله -جل وعلا-.
القسم الثاني: أن يحدث تغيير النية في أثناء العبادة، وهذا له حالان: الحال الأولى: أن يبطل نيته الأصلية، ويجعل العبادة لهذا المخلوق، فهذا حكمه كالأول من أن العبادة فسدت؛ لأنه أبطل نيتها، وجعلها للمخلوق، فنوى في أثناء الصلاة أن الصلاة هذه لفلان، فتبطل الصلاة.
الحال الثانية: من هذا القسم أن يزيد في الصلاة من لأجل رؤية أحد الناس، يعني: يراه أحد طلبة العلم، أو يراه والده، أو يراه كبير القوم، أو يراه إمام المسجد، فبدل أن يسبح ثلاث تسبيحات أطال في الركوع، والركوع عبادة لله -جل وعلا- فأطال على خلاف عادته لأجل رؤية هذا الرائي.
فهذا العمل الزائد الذي نوى به المخلوق يبطل؛ لأن نيته فيه لغير الله، و ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾ لكن أصل العمل صالح؛ لأن هذه النية ما عرضت لأصل العمل، وإنما عرضت لزيادة في بعضه أطال الصلاة، أو إمام أطال القراءة؛ لأن حسن صوته لرؤية إلى الخلق، أو لأن وراءه فلان، أو نحو ذلك من الأعمال، فلا يبطل أصل العمل، وإنما ما زاد فيه لأجل الخلق يكون فيه مشركًا الشرك الأصغر، وهو الرياء -والعياذ بالله-، هذه الحالة الثانية من القسم الثاني.
والحالة الثالثة: أن يعرض له حب الثناء، وحب الذكر بعد تمام العبادة، عمل العبادة لله، صلى لله، حفظ القرآن لله، وصام لله، صام النوافل لله -جل وعلا- مخلصًا، وبعد ذلك رأى من يثني عليه، فسره ذلك، ورغب في المزيد في داخله، فهذا لا يخرم أصل العمل؛ لأنه نواه لله، ولم يكن في أثنائه فيكون شركا، إنما وقع بعد تمامه، فهذا كما جاء في الحديث ﴿تلك عاجل بشرى المؤمن أن يسمع ثناء الناس عليه لعبادته وهو لم يقصد في العمل الذي عمله أن يثني عليه الناس﴾ هذه ثلاثة أحوال.
وإذا تقرر هذا فالأعمال التي يتعلق بها نية مع نيتها لله -جل وعلا- على قسمين أيضا، الأول: أعمال يجب ألا يريد بها، وألا يعرض لقلبه فيها ثواب الدنيا أصلا، وهذه أكثر العبادات، وأكثر الأعمال الشرعية.
والقسم الثاني: عبادات حض عليها الشارع بذكر ثوابها في الدنيا، مثل صلة الرحم حض عليها الشارع بذكر ثواب الدنيا، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه﴾ فحض على صلة الرحم بذكر ثواب الدنيا: النسأ في الأثر، والبسط في الرزق.
أو كقوله في الجهاد: ﴿من قتل قتيلا فله سلبه﴾ يعني: ما عليه من السلاح، وما معه من المال أو كذا، يسلبه ويكون لهذا القاتل، فهذا حض على القتل بذكر ثواب دنيوي، فمن أراد الثواب الدنيوي هنا -في هذا القسم- مستحضرا ما حض الشارع من العمل، يعني: من هذه العبادة، وذكر فيه الثواب الدنيوي فإنه جائز له ذلك؛ لأن الشارع ما حض بذكر الدنيا إلا إذن منه بأن يكون ذلك مطلوبا.
فإذًا من وصل الرحم يريد وجه الله -جل وعلا- ولكن يريد أيضا أن يثاب في الدنيا بكثرة الأرزاق، وبالنسأ في الأثر، يعني: طول العمر، فهذا له ذلك، ولأجل أن الشارع حض على ذلك.
جاهد في سبيل الله يريد أيضا مغنما، ونيته خالصة لله -جل وعلا- لتكون كلمة الله هي العليا؛ ولكن يريد شيئا حض عليه، أو ذكره الشارع في ذلك، هذا قصده ليس من الشرك في النية؛ لأن الشارع هو الذي ذكر الثواب الدنيوي في ذلك.
فإذًا تنقسم الأعمال إلى عبادات ذكر الشارع الثواب الدنيوي عليها، وإلى عبادات لم يذكر الشارع الثواب الدنيوي عليها، وهذا كما جاء في قول الله -جل وعلا-: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ﴾ الآية.
فهذه المسألة مهمة، فإذا تقرر أنه لا يكون مشركًا بذلك، فهل من نوى الدنيا بصلة الرحم مثلا مع نيته لله مساوٍ لمن لم ينو الدنيا، وإنما جعلها خالصة لله لا يختلف الأجر؛ لكن لا يكون مرائيًا، ولا مشركًا بذلك.
فمن كانت نيته خالصة لله -جل وعلا- فأجره أعظم، لهذا لما سئل عدد من الأئمة من السلف والإمام أحمد وجماعة عمن جاهد للمغنم ونيته خالصة لله؟ قال: أجره على قدر نيته، لم يبطل عمله أصلاً، لم يبطل السلف العمل أصلاً، وإنما جعلوا التفاوت بقدر النيات.
فكلما عظمت النية لله في الأعمال التي فيها ذكر الدنيا، وذكر الشارع عليه ثواب الدنيا فإنه كلما عظمت النية الخالصة كلماعظم أجره، وكلما نوى الدنيا مع صحة أصل نيته قل أجره يعني: عن غيره.
هنا قال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله﴾ طبعًا الحديث تفاصيل الكلام في النية، ودخول النية في أبواب كثيرة من العبادات، هذا يطول عليه الكلام جدًّا، وصنفت مصنفات في هذا، وشروح كتب الأحاديث أطالت في شرح هذا الحديث، وإنما نذكر في شرحنا لهذه الأربعين النووية قواعد وتأصيلات متعلقة بشرح الحديث، كما هي العادة في مثل هذه الشروح المختصرة لهذه الكتب المهمة.
قال: ﴿فمن كانت هجرته﴾ الفاء هذه تفصيلية، تفصيل لمثال من الأعمال التي تكون لله وتكون لغير الله، ذكر مثالا للهجرة قال: ﴿من كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه﴾.
الهجرة معناها: الترك، هجر يعني: ترك، وأصل الهجرة هجرة إلى الله -جل وعلا- وإلى رسوله -ﷺ- هجرة إلى الله -جل وعلا- بالإخلاص، وابتغاء ما عنده، والهجرة إلى النبي -ﷺ- باتباعه -عليه الصلاة والسلام- والرغبة فيما جاء به -عليه الصلاة والسلام-.
ومن آثار ذلك، الهجرة إلى الخاصة التي هي ترك بلد الشرك إلى بلد الإسلام، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿فمن كانت هجرته﴾ يعني: من كان تركه لبلد الشرك إلى بلد الإسلام لله ورسوله إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، هذا فيه تكرير للجملة. من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته لله ورسوله.
والمتقرر في علوم العربية أن الجمل إذا تكررت في ترتب الفعل والجزاء فإن شرط الفعل يختلف عن شرط الجزاء؛ فلهذا نقول: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نية وقصدا فهجرته إلى الله ورسوله ثوابًا وأجرًا، فما تعلق بالفعل النية والقصد، وما تعلق بالجواب الأجر والثواب.
وهذا فيه نوع من أنواع البلاغة، وهو أن عمله جليل عظيم بحيث يستغنى لبيان جلالته وعظمه يستغنى عن ذكره؛ لأنه من الوضوح والبيان بحيث لا يحتاج إلى ذكره، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله﴾ هذا تعظيم، ورفع لهذا العمل، وهو أن تكون الهجرة إلى الله ورسوله، يعني: نية وقصدًا وتعظيما للثواب والأجر بقوله: ﴿فهجرته إلى الله ورسوله﴾ ثوابًا وأجرًا، يعني: حدث عن ثوابه وعظم ذلك.
ثم بين الصنف الثاني فقال: ﴿ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها﴾ ﴿لدنيا يصيبها﴾ هذا حال التاجر الذي هاجر لكي يكسب مالاً، أو هاجر ليكسب زوجة أو امرأة، فهذا هجرته إلى ما هاجر إليه.
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿فمن كانت هجرته لدنيا﴾ هذه النية يعني: هاجر العمل الظاهر يشارك فيه، من هاجر إلى الله ورسوله؛ لكن نيته أنه في هجرته يريد التجارة، أو يريد أن يتزوج امرأة فنيته فاسدة، قال: ﴿فهجرته إلى ما هاجر إليه﴾ يعني: من حيث أنه لا ثواب له فيها ولا أجر، وقد يكون عليه فيها وزر. والهجرة هي ترك -كما ذكرت لك- ترك بلد الشرك إلى بلد الإسلام، أو ترك بلد تظهر فيه البدعة إلى بلد لا تظهر فيه البدعة، وإنما تظهر فيه السنة، أو القسم الثالث: ترك بلد تظهر فيه الفواحش والمنكرات إلى بلد تقل فيه الفواحش والمنكرات ظهورًا، وهذه كل واحدة منها لها أحكام مذكورة في كتب الفقه بالتفصيل.
الشيخ ابن العثيمين
﴿عَنْ أَمِيرِ المُؤمِنينَ﴾ وهو أبو حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه، آلت إليه الخلافة بتعيين أبي بكر الصديق رضي الله عنه له، فهو حسنة من حسنات أبي بكر، ونصبه في الخلافة شرعي، لأن الذي عينه أبو بكر، وأبو بكر تعين بمبايعة الصحابة له في السقيفة، فخلافته شرعية كخلافة أبي بكر، ولقد أحسن أبو بكر اختياراً حيث اختار عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وفي قوله سَمِعْتُ دليل على أنه أخذه من النبي ﷺ بلا واسطة. والعجب أن هذا الحديث لم يروه عن رسول الله إلا عمر رضي الله عنه مع أهميته، لكن له شواهد في القرآن والسنة. ففي القرآن يقول الله تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ (البقرة: من الآية 272) فهذه نية، وقوله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً ﴾ (الفتح: من الآية 29) وهذه نيّة. وقال النبي ﷺ لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ﴿وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِيْ بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلا أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلَهُ فِي فِيّ امْرَأَتِك﴾ فقوله: ﴿تَبْتَغِي بِها وَجْهَ اللهِ﴾ فهذه نية، فالمهم أن معنى الحديث ثابت بالقرآن والسنة. ولفظ الحديث انفرد به عمر رضي الله عنه، لكن تلقته الأمة بالقبول التام، حتى إن البخاري رحمه الله صدر كتابه الصحيح بهذا الحديث.
قوله ﴿إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى﴾ لهذه الجملة من حيث البحث جهتان: نتكلم أولاً على مافيه من البلاغة:
فقوله: ﴿إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ﴾ فيه من أوجه البلاغة الحصر، وهو: إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما سواه، وطريق الحصر: ﴿إِنَّمَا﴾ لأن (إنما) تفيد الحصر، فإذا قلت: زيد قائم فهذا ليس فيه حصر، وإذا قلت: إنما زيد قائم، فهذا فيه حصر وأنه ليس إلا قائماً. وكذلك قوله. ﴿وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى﴾.
وفي قوله ﴿وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا أو امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيهِ﴾ من البلاغة: إخفاء نية من هاجر للدنيا، لقوله: ﴿فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ﴾ ولم يقل: إلى دنيا يصيبها، والفائدة البلاغية في ذلك هي: تحقير ماهاجر إليه هذا الرجل، أي ليس أهلاً لأن يُذكر، بل يُكنّى عنه بقوله: إلى ماهاجر إليه.
وقوله: ﴿مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ﴾ الجواب: ﴿فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ فذكره تنويهاً بفضله، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا أو امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيهِ ولم يقل: إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، لأن فيه تحقيراً لشأن ما هاجر إليه وهي: الدنياأو المرأة.
* أما من جهة الإعراب، وهو البحث الثاني:
فقوله ﴿إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ﴾ مبتدأ وخبر، الأعمال: مبتدأ، والنيات: خبره.
﴿وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى﴾ أيضاً مبتدأ وخبر، لكن قُدِّم الخبر على المبتدأ؛ لأن المبتدأ في قوله: ﴿وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى﴾ هو: مانوى متأخر.
﴿فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ هذه جملة شرطية، أداة الشرط فيها: مَنْ، وفعل الشرط: كانت، وجواب الشرط: فهجرته إلى الله ورسوله.
وهكذا نقول في إعراب قوله: ﴿وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا﴾.
أما في اللغة فنقول:
الأعمال جمع عمل، ويشمل أعمال القلوب وأعمال النطق، وأعمال الجوارح، فتشمل هذه الجملة الأعمال بأنواعها.
فالأعمال القلبية: مافي القلب من الأعمال: كالتوكل على الله، والإنابة إليه، والخشية منه وما أشبه ذلك.
والأعمال النطقية: ماينطق به اللسان، وما أكثر أقوال اللسان، ولاأعلم شيئاً من الجوارح أكثر عملاً من اللسان، اللهم إلا أن تكون العين أو الأذن.
والأعمال الجوارحية: أعمال اليدين والرجلين وما أشبه ذلك.
﴿الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ﴾ النيات: جمع نية وهي: القصد. وشرعاً: العزم على فعل العبادة تقرّباً إلى الله تعالى، ومحلها القلب، فهي عمل قلبي ولاتعلق للجوارح بها.
﴿وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ﴾ أي لكل إنسانٍ مَا نَوَى أي ما نواه.
وهنا مسألة: هل هاتان الجملتان بمعنى واحد، أو مختلفتان؟
الجواب: يجب أن نعلم أن الأصل في الكلام التأسيس دون التوكيد، ومعنى التأسيس: أن الثانية لها معنى مستقل. ومعنى التوكيد: أن الثانية بمعنى الأولى. وللعلماء رحمهم الله في هذه المسألة رأيان، يقول أولهما: إن الجملتان بمعنى واحد، فقد قال النبي ﷺ ﴿إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ﴾ وأكد ذلك بقوله: ﴿وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى﴾.
والرأي الثاني يقول: إن الثانية غير الأولى، فالكلام من باب التأسيس لامن باب التوكيد.
* والقاعدة: أنه إذا دار الأمر بين كون الكلام تأسيساً أو توكيداً فإننا نجعله تأسيساً، وأن نجعل الثاني غير الأول، لأنك لو جعلت الثاني هو الأول صار في ذلك تكرار يحتاج إلى أن نعرف السبب.
* والصواب: أن الثانية غير الأولى، فالأولى باعتبار المنوي وهو العمل. والثانية باعتبار المنوي له وهو المعمول له، هل أنت عملت لله أو عملت للدنيا. ويدل لهذا مافرعه عليه النبي ﷺ في قوله: ﴿فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ وعلى هذه فيبقى الكلام لاتكرار فيه.
والمقصود من هذه النية تمييز العادات من العبادات، وتمييز العبادات بعضها من بعض.
* وتمييز العادات من العبادات مثاله:
— أولاً: الرجل يأكل الطعام شهوة فقط، والرجل الآخر يأكل الطعام امتثالاً لأمر الله عزّ وجل في قوله: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ (لأعراف: من الآية 31) فصار أكل الثاني عبادة، وأكل الأول عادة
— ثانياً: الرجل يغتسل بالماء تبرداً، والثاني يغتسل بالماء من الجنابة، فالأول عادة، والثاني: عبادة، ولهذا لوكان على الإنسان جنابة ثم انغمس في البحر للتبرد ثم صلى فلا يجزئه ذلك، لأنه لابد من النية، وهو لم ينو التعبّد وإنما نوى التبرّد.
ولهذا قال بعض أهل العلم: عبادات أهل الغفلة عادات، وعادات أهل اليقظة عبادات. عبادات أهل الغفلة عادات مثاله: من يقوم ويتوضأ ويصلي ويذهب على العادة. وعادات أهل اليقظة عبادات مثاله: من يأكل امتثالاً لأمر الله، يريد إبقاء نفسه، ويريد التكفف عن الناس، فيكون ذلك عبادة. ورجل آخر لبس ثوباً جديداً يريد أن يترفّع بثيابه، فهذا لايؤجر، وآخرلبس ثوباً جديداً يريد أن يعرف الناس قدر نعمة الله عليه وأنه غني، فهذا يؤجر. ورجل آخر لبس يوم الجمعة أحسن ثيابه لأنه يوم جمعة، والثاني لبس أحسن ثيابه تأسياً بالنبي ﷺ ، فهو عبادة.
* تمييز العبادات بعضها من بعض مثاله:
رجل يصلي ركعتين ينوي بذلك التطوع، وآخر يصلي ركعتين ينوي بذلك الفريضة، فالعملان تميزا بالنية، هذا نفل وهذا واجب، وعلى هذا فَقِسْ.
* إذاً المقصود بالنيّة: تمييز العبادات بعضها من بعض كالنفل مع الفريضة، أوتمييز العبادات عن العادات.
واعلم أن النية محلها القلب، ولايُنْطَقُ بها إطلاقاً، لأنك تتعبّد لمن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والله تعالى عليم بما في قلوب عباده، ولست تريد أن تقوم بين يدي من لايعلم حتى تقول أتكلم بما أنوي ليعلم به، إنما تريد أن تقف بين يدي من يعلم ماتوسوس به نفسك ويعلم متقلّبك وماضيك، وحاضرك. ولهذا لم يَرِدْ عن رسول الله ولاعن أصحابه رضوان الله عليهم أنهم كانوا يتلفّظون بالنيّة ولهذا فالنّطق بها بدعة يُنهى عنه سرّاً أو جهراً، خلافاً لمن قال من أهل العلم: إنه ينطق بها جهراً، وبعضهم قال: ينطق بها سرّاً ، وعللوا ذلك من أجل أن يطابق القلب اللسان.
ياسبحان الله، أين رسول الله عن هذا ؟ لوكان هذا من شرع الرسول ﷺ لفعله هو وبيّنه للناس، يُذكر أن عاميّاً من أهل نجد كان في المسجد الحرام أراد أن يصلي صلاة الظهر وإلى جانبه رجل لايعرف إلاالجهر بالنيّة، ولما أقيمت صلاة الظهر قال الرجل الذي كان ينطق بالنية: اللهم إني نويت أن أصلي صلاة الظهر، أربع ركعات لله تعالى، خلف إمام المسجد الحرام، ولما أراد أن يكبّر قال له العامي: اصبر يارجل، بقي عليك التاريخ واليوم والشهر والسنة، فتعجّب الرجل.
وهنا مسألة: إذا قال قائل: قول المُلَبِّي: لبّيك اللهم عمرة، ولبيك حجّاً، ولبّيك اللهم عمرة وحجّاً، أليس هذا نطقاً بالنّية؟
فالجواب: لا، هذا من إظهار شعيرة النُّسك، ولهذا قال بعض العلماء: إن التلبية في النسك كتكبيرة الإحرام في الصلاة، فإذا لم تلبِّ لم ينعقد الإحرام، كما أنه لولم تكبر تكبيرة الإحرام للصلاة ما انعقدت صلاتك. ولهذا ليس من السنّة أن نقول ما قاله بعضهم: اللهم إني أريد نسك العمرة، أو أريد الحج فيسّره لي، لأن هذا ذكر يحتاج إلى دليل ولادليل. إذاً أنكر على من نطق بها، ولكن بهدوء بأن أقول له: يا أخي هذه ما قالها النبي ﷺ ولا أصحابه، فدعْها.
فإذا قال: قالها فلانٌ في كتابهِ الفلاني؟
فقل له: القول ما قال الله تعالى ورسوله.
وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى هذه هي نيّة المعمول له، والناس يتفاوتون فيها تفاوتاً عظيماً، حيث تجد رجلين يصلّيان بينهما أبعد مما بين المشرق والمغرب أو مما بين السماء والأرض في الثواب، لأن أحدهما مخلص والثاني غير مخلص.
وتجد شخصين يطلبان العلم في التّوحيد، أو الفقه، أو التّفسير، أو الحديث، أحدهما بعيد من الجنّة والثاني قريب منها، وهما يقرآن في كتاب واحد وعلى مدرّسٍ واحد. فهذا رجل طلب دراسة الفقه من أجل أن يكون قاضياً والقاضي له راتبٌ رفيعٌ ومرتبة ٌرفيعة، والثاني درس الفقه من أجل أن يكون عالماً معلّماً لأمة محمدٍ ، فبينهما فرق عظيم. قال النبي ﷺ ﴿مَنْ طَلَبَ عِلْمَاً وَهُوَ مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ لا يُرِيْدُ إِلاِّ أَنْ يَنَالَ عَرَضَاً مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ﴾ ، أخلص النية لله عزّ وجل.
* ثم ضرب النبي ﷺ مثلاً بالمهاجر فقال:
﴿فَمَنْ كَانَتْ هِجرَتُهُ﴾ الهجرة في اللغة: مأخوذة من الهجر وهو التّرك.
وأما في الشرع فهي: الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام.
وهنا مسألة: هل الهجرة واجبة أو سنة؟
والجواب: أن الهجرة واجبة على كل مؤمن لايستطيع إظهار دينه في بلد الكفر، فلايتم إسلامه إذا كان لايستطيع إظهاره إلا بالهجرة، وما لايتم الواجب إلا به فهوواجب. كهجرة المسلمين من مكّة إلى الحبشة، أو من مكّة إلى المدينة.
﴿فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ كرجل انتقل من مكة قبل الفتح إلى المدينة يريد الله ورسوله، أي: يريد ثواب الله، ويريد الوصول إلى الله كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ (الأحزاب: من الآية 29) إذاً يريد الله: أي يريد وجه الله ونصرة دين الله، وهذه إرادة حسنة.
ويريد رسول الله: ليفوز بصحبته ويعمل بسنته ويدافع عنها ويدعو إليها والذبّ عنه، ونشر دينه، فهذا هجرته إلى الله ورسوله، والله تعالى يقول في الحديث القدسي ﴿مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرَاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعَاً﴾ فإذا أراد الله، فإن الله تعالى يكافئه على ذلك بأعظم مما عمل.
* وهنا مسألة: بعد موت الرسول ﷺ هل يمكن أن نهاجر إليه عليه الصلاة والسلام؟
والجواب: أما إلى شخصه فلا، ولذلك لايُهاجر إلى المدينة من أجل شخص الرسول ﷺ ، لأنه تحت الثرى، وأما الهجرة إلى سنّته وشرعه فهذا مما جاء الحث عليه وذلك مثل: الذهاب إلى بلدٍ لنصرة شريعة الرسول ﷺ والذود عنها. فالهجرة إلى الله في كل وقت وحين، والهجرة إلى رسول الله لشخصه وشريعته حال حياته، وبعد مماته إلى شريعته فقط.
نظير هذا قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرسول﴾ (النساء: من الآية 59) إلى الله دائماً، وإلى الرسول ﷺ نفسه في حياته، وإلى سنّته بعد وفاته. فمن ذهب من بلدٍ إلى بلد ليتعلم الحديث، فهذا هجرته إلى الله ورسوله، ومن هاجر من بلد إلى بلد لامرأة يتزوّجها، بأن خطبها وقالت لاأتزوجك إلا إذا حضرت إلى بلدي فهجرته إلى ماهاجر إليه. ﴿فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا﴾ بأن علم أن في البلد الفاني تجارة رابحة فذهب إليها من أجل أن يربح، فهذا هجرته إلى دنيا يصيبها، وليس له إلا ما أراد. وإذا أراد الله عزّ وجل ألا يحصل على شيء لم يحصل على شيء.
قوله رحمه الله: (رواه إماما المحدّثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري من بخارى وهو إمام المحدّثين ومسلم بن الحجّاج بن مسلم القشيري النيسابوري في صحيحيهما اللذين هما أصحّ الكتب المصنّفة أي صحيح البخاري وصحيح مسلم وهما أصحّ الكتب المصنّفة في علم الحديث، ولهذا قال بعض المحدّثين: إن ما اتفقا عليه لايفيد الظن فقط بل يفيد العلم.
وصحيح البخاري أصحّ من صحيح مسلم، لأن البخاري - رحمه الله - يشترط في الرواية أن يكون الراوي قد لقي من روى عنه، وأما مسلم- رحمه الله - فيكتفي بمطلق المعاصرة مع إمكان اللقيّ وإن لم يثبت لقيه، وقد أنكر على من يشترط اللقاء في أول الصحيح إنكاراً عجيباً، فالصواب ما ذكره البخاري - رحمه الله - أنه لابد من ثبوت اللقي. لكن ذكر العلماء أن سياق مسلم - رحمه الله - أحسن من سياق البخاري، لأنه - رحمه الله- يذكر الحديث ثم يذكر شواهده وتوابعه في مكان واحد، والبخاري - رحمه الله - يفرِّق، ففي الصناعة صحيح مسلم أفضل، وأما في الرواية والصحة فصحيح البخاري أفضل.
تشاجر قومٌ في البخاري ومسلم فقلت: لقد فاق البخاري صحة لديّ.
وقالوا: أيّ زين تقدّم كما فاق في حسن الصناعة مسلم.
قال بعض أهل العلم: ولولا البخاري ما ذهب مسلم ولا راح، لأنه شيخه.
فالحديث إذاً صحيح يفيد العلم اليقيني، لكنه ليس يقينياً بالعقل وإنما هو يقيني بالنظر لثبوته عن النبي ﷺ.
من فوائد هذا الحديث:
1- هذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، ولهذا قال العلماء: مدار الإسلام على حديثين: هما هذا الحديث، وحديث عائشة: ﴿مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلِيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ﴾ فهذا الحديث عمدة أعمال القلوب، فهو ميزان الأعمال الباطنة، وحديث عائشة: عمدة أعمال الجوارح، مثاله:
رجل مخلص غاية الإخلاص، يريد ثواب الله عزّ وجل ودار كرامته، لكنه وقع في بدع كثيرة. فبالنظر إلى نيّته: نجد أنها نيّة حسنة. وبالنظر إلى عمله: نجد أنه عمل سيء مردود، لعدم موافقة الشريعة.
ومثال آخر: رجلٌ قام يصلّي على أتمّ وجه، لكن يرائي والده خشية منه، فهذا فقد الإخلاص، فلا يُثاب على ذلك إلا إذا كان أراد أن يصلي خوفاً أن يضربه على ترك الصلاة فيكون متعبّداً لله تعالى بالصلاة.
2- من فوائد الحديث: أنه يجب تمييز العبادات بعضها عن بعض، والعبادات عن المعاملات لقول النبي ﷺ ﴿إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ﴾ ولنضرب مثلاً بالصلاة، رجل أراد أن يصلي الظهر، فيجب أن ينوي الظهر حتى تتميز عن غيرها. وإذا كان عليه ظُهْرَان، فيجب أن يميز ظهر أمس عن ظهر اليوم، لأن كل صلاة لها نية.
ولوخرج شخصٌ بعد زوال الشمس من بيته متطهراً ودخل المسجد وليس في قلبه أنها صلاة الظهر، ولاصلاة العصر، ولا صلاة العشاء، ولكن نوى بذلك فرض الوقت، فهل تجزئ أو لاتجزئ؟
الجواب: على القاعدة التي ذكرناها سابقاً: لاتجزئ؛ لأنه لم يعين الظهر، وهذا مذهب الحنابلة.
وقيل تجزئ: ولايشترط تعيين المعيّنة، فيكفي أن ينوي الصلاة وتتعين الصلاة بتعيين الوقت. وهذه رواية عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- فإذا نوى فرض الوقت كفى، وهذا القول هو الصحيح الذي لايسع الناس العمل إلا به، لأنه أحياناً يأتي إنسان مع العجلة فيكبر ويدخل مع الإمام بدون أن يقع في ذهنه أنها صلاة الظهر، لكن قد وقع في ذهنه أنها هي فرض الوقت ولم يأتِ من بيته إلا لهذا، فعلى المذهب نقول: أعدها، وعلى القول الصحيح نقول: لاتعدها، وهذا يريح القلب، لأن هذا يقع كثيراً، حتى الإمام أحياناً يسهو ويكبر على أن هذا فرض الوقت، فهذا على المذهب لابد أن يعيد الصلاة، وعلى القول الرّاجح لايعيد.
3- من فوائد الحديث: الحثّ على الإخلاص لله عزّ وجل، لأن النبي ﷺ قسّم الناس إلى قسمين:
قسم: أراد بعمله وجه الله والدار الآخرة.
وقسم: بالعكس، وهذا يعني الحث على الإخلاص لله عزّ وجل.
والإخلاص يجب العناية به والحث عليه، لأنه هو الركيزة الأولى الهامة التي خلق الناس من أجلها، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذريات: 56).
4- ومن فوائد الحديث: حسن تعليم النبي ﷺ وذلك بتنويع الكلام وتقسيم الكلام، لأنه قال: ﴿إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وهذا للعمل وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى﴾ وهذا للمعمول له.
ثانيهما: تقسيم الهجرة إلى قسمين: شرعية وغير شرعية، وهذا من حسن التعليم، ولذلك ينبغي للمعلم أن لايسرد المسائل على الطالب سرداً لأن هذا يُنْسِي، بل يجعل أصولاً، وقواعد وتقييدات، لأن ذلك أقرب لثبوت العلم في قلبه، أما أن تسرد عليه المسائل فما أسرع أن ينساها.
5- من فوائد الحديث: قرن الرسول ﷺ مع الله تعالى بالواو حيث قال: إلى الله ورسوله ولم يقل: ثم رسوله، مع أن رجلاً قال للرسول ﷺ ﴿مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ، فَقَالَ: بَلْ مَاشَاءَ اللهُ وَحْدَه﴾ فما الفرق؟
والجواب: أما ما يتعلّق بالشريعة فيعبر عنه بالواو، لأن ماصدر عن النبي ﷺ من الشرع كالذي صدر من الله تعالى كما قال: ﴿مَنْ يُطِعِ الرسول ﷺ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ (النساء: من الآية 80).
وأما الأمور الكونية: فلا يجوز أن يُقرن مع الله أحدٌ بالواو أبداً، لأن كل شيئ تحت إرادة الله تعالى ومشيئته.
فإذا قال قائلٌ: هل ينزل المطر غداً؟
فقيل: الله ورسوله أعلم، فهذا خطأ، لأن الرسول ﷺ ليس عنده علم بهذا.
مسألة: وإذا قال: هل هذا حرامٌ أم حلال؟
قيل في الجواب: الله ورسوله أعلم، فهذا صحيح، لأن حكم الرسول ﷺ في الأمور الشرعية حكم الله تعالى كما قال عزّ وجل: ﴿مَنْ يُطِعِ الرسول ﷺ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ (النساء: من الآية 80).
مسألة: أيهما أفضل العلم أم الجهاد في سبيل الله؟
والجواب: العلم من حيث هو علم أفضل من الجهاد في سبيل الله، لأن الناس كلهم محتاجون إلى العلم، وقد قال الإمام أحمد: العلم لايعدله شيئ لمن صحّت نيّته. ولايمكن أبداً أن يكون الجهاد فرض عين لقول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾ (التوبة: 122).
فلوكان فرض عين لوجب على جميع المسلمين: ﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ﴾ [التوبة: 122] أي وقعدت طائفة. ﴿لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122] ولكن باختلاف الفاعل واختلاف الزمن، فقد نقول لشخص: الأفضل في حقّك الجهاد، والآخر الأفضل في حقك العلم، فإذا كان شجاعاً قوياً نشيطاً وليس بذاك الذكي فالأفضل له الجهاد؛ لأنه أليَق به، وإذا كان ذكيّاً حافظاً قوي الحجة فالأفضل له العلم وهذا باعتبار الفاعل. أما باعتبار الزمن فإننا إذا كنّا في زمن كثر فيه العلماء واحتاجت الثغور إلى مرابطين فالأفضل الجهاد، وإن كنّا في زمن تفشّى فيه الجهل وبدأت البدع تظهر في المجتمع وتنتشر فالعلم أفضل، وهناك ثلاثة أمور تحتّم على طلب العلم:
١ - بدع بدأت تظهر شرورها.
٢ - الإفتاء بغير علم.
٣ - جدل كثير في مسائل بغير علم.
وإذا لم يكن مرجّحاً فالأفضل العلم
6- ومن فوائد الحديث: أن الهجرة هي من الأعمال الصالحة لأنها يقصد بها الله ورسوله، وكل عمل يقصد به الله ورسوله فإنه من الأعمال الصالحة لأنك قصدت التقرّب إلى الله والتقرب إلى الله هو العبادة.
مسألة: هل الهجرة واجبة أم مستحبة؟
الجواب: فيه تفصيل ، إذا كان الإنسان يستطيع أن يظهر دينه وأن يعلنه ولايجد من يمنعه في ذلك، فالهجرة هنا مستحبة. وإن كان لايستطيع فالهجرة واجبة وهذا هو الضابط للمستحبّ والواجب. وهذا يكون في البلاد الكافرة، أما في البلاد الفاسقة -وهي التي تعلن الفسق وتظهره- فإنا نقول: إن خاف الإنسان على نفسه من أن ينزلق فيما انزلق فيه أهل البلد فهنا الهجرة واجبة، وإن لا، فتكون غير واجبة. بل نقول إن كان في بقائه إصلاح، فبقاؤه واجب لحاجة البلد إليه في الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والغريب أن بعضهم يهاجر من بلد الإسلام إلى بلد الكفر لأنه إذا هاجر أهل الإصلاح من هذا البلد، من الذي يبقى لأهل الفساد، وربما تنحدر البلاد أكثر بسبب قلة أهل الإصلاح وكثرة أهل الفساد والفسق. لكن إذا بقي ودعا إلى الله بحسب الحال فسوف يصلح غيره، وغيره، يصلح غيره حتى يكون هؤلاء على أيديهم صلاح البلد، وإذا صلح عامة الناس فإن الغالب أن من بيده الحكم سيصلح، ولو عن طريق الضغط، ولكن الذي يفسد هذا - للأسف - الصالحون أنفسهم، فتجد هؤلاء الصالحين يتحزبون ويتفرقون وتختلف كلمتهم من أجل الخلاف في مسألة من مسائل الدين التي يغتفر فيها الخلاف، هذا هو الواقع، لاسيما في البلاد التي لم يثبت فيها الإسلام تماماً، فربما يتعادون ويتباغضون ويتناحرون من أجل مسألة رفع اليدين في الصلاة، وأقرأ عليكم قصة وقعت لي شخصياً في منى، في يوم من الأيام أتى لي مدير التوعية بطائفتين من إفريقيا تكفّر إحداهما الأخرى، على ماذا ؟؟ قال: إحداهما تقول: السنة في القيام أن يضع المصلي يديه على صدره، والأخرى تقول السنة أن يُطلق اليدين، وهذه المسألة فرعية سهلة ليست من الأصول والفروع، قالوا: لا، النبي ﷺ يقول ﴿مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِيْ فَلَيْسَ مِنِّي﴾ وهذا كفر تبرّأ منه الرسول ﷺ فبناء على هذا الفهم الفاسد كفّرت إحداهما الأخرى.
فالمهم: أن بعض أهل الإصلاح في البلاد التي ليست مما قوي فيها الإسلام يبدع ويفسق بعضهم بعضاً، ولو أنهم اتفقوا وإذا اختلفوا اتسعت صدورهم في الخلاف الذي يسوغ فيه الخلاف وكانوا يداً واحدة، لصلحت الأمة، ولكن إذا رأت الأمة أن أهل الصلاح والاستقامة بينهم هذا الحقد والخلاف في مسائل الدين، فستضرب صفحاً عنهم وعما عندهم من خير وهدى، بل يمكن أن يحدث ركوس ونكوس وهذا ماحدث والعياذ بالله، فترى الشاب يدخل في الاستقامة على أن الدين خير وهدى وانشراح صدر وقلب مطمئن ثم يرى مايرى من المستقيمين من خلاف حاد وشحناء وبغضاء فيترك الاستقامة لأنه ماوجد ماطلبه، والحاصل أن الهجرة من بلاد الكفر ليست كالهجرة من بلاد الفسق، فيقال للإنسان: اصبر واحتسب ولاسيما إن كنت مصلحاً، بل قد يقال: إن الهجرة في حقك حرام.
الشيخ صالح آل الشيخ
هذا هو الحديث الأول؛ حديث عمر -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -ﷺ- يقول: ﴿إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى﴾ وهذا الحديث حديث عظيم حتى قال طائفة من السلف، ومن علماء الملة: ينبغي أن يكون هذا الحديث في أول كل كتاب من كتب العلم؛ ولهذا بدأ به البخاري -رحمه الله- صحيحه، فجعله أول حديث فيه حديث ﴿إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى﴾ بحسب اللفظ الذي أورده في أوله.
وهذا الحديث أصل من أصول الدين، وقد قال الإمام أحمد: ثلاثة أحاديث يدور عليها الإسلام:
حديث عمر: ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾، وحديث عائشة: ﴿من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد﴾. وحديث النعمان بن بشير: ﴿الحلال بين والحرام بين﴾. وهذا الكلام من إمام أهل السنة متين للغاية؛ ولذلك أن عمل المكلف دائر على امتثال الأمر، واجتناب النهي، وامتثال الأمر، واجتناب النهي هذا هو الحلال والحرام، وهناك بين الحلال والحرام مشبهات، وهو القسم الثالث. وهذه الثلاث هي التي وردت في حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه- ﴿الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات﴾ وفي رواية: "مشبهات" والعمل لمن أراد أن يعمل، أو فعل الأمر واجتناب النهي لا بد أن يكون بنية حتى يكون صالحًا. فرجع تصحيح ذلك العمل، وهو الإتيان بما فرض الله، أو الانتهاء عما حرم الله إلى وجود النية التي تجعل هذا العمل صالحًا مقبولاً، ثم إن ما فرض الله -جل وعلا- من الواجبات، أو من المستحبات، وما فرض الله -جل وعلا- من الواجبات، أو ما شرع من المستحبات، لا بد فيه من ميزان ظاهر حتى يصلح العمل، وهذا يحكمه حديث ﴿من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد﴾ كما في رواية مسلم للحديث. فإذًا هذا الحديث؛ حديث الأعمال ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾ يحتاج إليه في كل شيء؛ يحتاج إليه في امتثال الأوامر، وفي اجتناب النواهي، وفي ترك المشتبهات، وبهذا يعظم وقع هذا الحديث؛ لأن المرء المكلَّف في أي حالة يكون عليها ما بين أمر يأتيه؛ إما أمر إيجاب، أو استحباب، وما بين نهي ينتهي عنه؛ نهي تحريم، أو نهي كراهة، أو يكون الأمر مشتبهًا، فيتركه، وكل ذلك لا يكون صالحًا إلا بإرادة وجه الله -جل وعلا- به وهي النية.
قوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾ روي أيضًا في الصحيح ﴿إنما العمل بالنية﴾ و روي ﴿إنما الأعمال بالنية﴾ بألفاظ مختلفة والمعنى واحد، فإنه إذا أُفرِد العمل أو النية أريد بها الجنس، فتتفق رواية الإفراد مع رواية الجمع.
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى﴾ هذا فيه حصر؛ لأن لفظ "إنما" من ألفاظ الحصر عند علماء المعاني، والحصر يقتضي أن تكون الأعمال محصورة في النيات، ولهذا نَظَر العلماء ما المقصود بقوله: ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾؟ لأنه حصر الأعمال بالنيات، فقال طائفة من أهل العلم وهو القول الأول: إن قوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾ يعني: إنما الأعمال، وقوعها مقبولة، أو صحيحة بالنية.
و ﴿إنما لامرئ ما نوى﴾ يعني: وإنما يثاب المرء على العمل الذي عمله بما نواه، فتكون الجملة الأولى متعلقة بصحة العمل، والجملة الثانية يراد بها الثواب على العمل ﴿إنما الأعمال بالنيات ﴾الباء هنا للسببية، يعني: إنما الأعمال تقبل، أو تقع صحيحة بسبب النية، فيكون تأصيلًا لقاعدة عامة.
قال: ﴿وإنما لكل امرئ ما نوى﴾ اللام هذه لام الملكية، يعني: مثل التي جاءت في قوله -تعالى-: ﴿وَ أَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾ ﴿وإنما لكل امرئ ما نوى﴾ يعني: من ثواب عمله ما نواه، هذا قول طائفة من أهل العلم.
والقول الثاني: أن قوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾ هذا راجع إلى أن الباء سببية أيضًا، والمقصود بها سبب العمل لا سبب قبوله، قالوا: لأننا لا نحتاج مع هذا إلى تقدير، فقوله: ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾ يعني: إنما الأعمال بسبب النيات، فما من عمل يعمله أحد إلا و له إرادة وقصد فيه وهي النية.
فمنشأ الأعمال؛ سواء كانت صالحة أو فاسدة، طاعة أو غير طاعة، إنما منشؤها إرادة القلب لهذا العمل، وإذا أراد القلب عملًا، وكانت القدرة على إنفاذه تامة، فإن العمل يقع فيكون قوله - عليه الصلاة والسلام- على هذا: ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾ يعني: إنما الأعمال صدورها وحصولها بسبب نية من أصدرها، بسبب إرادة قلبه وقصده لهذا العمل.
﴿وإنما لكل امرئ ما نوى﴾ هذا فيه أن ما يحصل للمرء من عمله ما نواه نية صحيحة، يعني: إذا كانت النية صالحة صار ذلك العمل صالحًا، فصار له ذلك العمل.
والقول الأول أصح؛ وذلك لأن تقريب مبعث الأعمال، وأنها راجعة لعمل القلب، هذا ليس هو المراد بالحديث، كما هو ظاهر من سياقه، وإنما المراد اشتراط النية للعمل، وأن النية هي المصححة للعمل، وهذا فيه وضوح؛ لأن قوله -عليه الصلاة والسلام- ﴿إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى﴾ بيان لما تطلبه الشريعة، لا لما هو موجود في الواقع.
فلهذا نقول: الراجح من التفسيرين أن قوله -عليه الصلاة والسلام- ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾ يعني: إنما الأعمال صحة وقبولاً أو فسادًا بسبب النيات، وإنما لامرئ من عمله ثوابًا وأجرًا ما نواه. إذا تقرر هذا فالأعمال ما هي؟
الأعمال جمع عمل، والمقصود به هنا ما يصدر عن المكلف، ويدخل فيه الأقوال فليس المقصود بالعمل قسيم القول، القول والعمل والاعتقاد قسيم القول والاعتقاد، وإنما الأعمال هنا كل ما يصدر عن المكلف من أقوال وأعمال، قول القلب، وعمل القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح.
فيدخل في قوله: ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾ كل ما يتعلق بالإيمان؛ لأن الإيمان قول وعمل، قول اللسان، وقول القلب وعمل القلب وعمل الجوارح، فقوله: ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾ يدخل فيها جميع أنواع ما يصدر من المكلف.
طبعًا هذا العموم عموم مراد به الخصوص؛ لأن العموم عند الأصوليين على ثلاثة أقسام: عام باق على عمومه، وعام دخله التخصيص، وعام مراد به الخصوص، يعني: أن يكون اللفظ عامًا، ويراد به بعض الأفراد.
وهنا لا يدخل في الأعمال في قوله: ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾ لا يدخل فيها الأعمال التي لا تشترط لها النية مثل أنواع التروك، وإرجاع المظالم، وأشباه ذلك، تطهير النجاسة، وأمثال ذلك، يعني: مما لا يشترط له النية؛ لأنه ترك ونحوه، والنية التي عليها مدار هذا الحديث، النية: قصد القلب وإرادته.
وإذا قلنا: النية قصد القلب وإرادته علقناها بالقلب، فالنية إذًا ليس محلها اللسان ولا الجوارح، وإنما محلها القلب نوى يعني: قصد بقلبه وأراد بقلبه هذا الشيء.
فالأعمال مشروطة بإرادة القلب وقصده، فأي إرادة وقصد هذه المقصود بها إرادة وجه الله -جل وعلا- بذلك؛ ولهذا في القرآن يأتي معنى النية بلفظ الإرادة والابتغاء وأشباه ذلك، كما في قوله: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ﴾ وكما في قوله: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ ونحو ذلك ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ اْلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ﴾ يريد يعني: ينوي يطلب ويقصد، هذه هي النية ﴿وَمَنْ أَرَادَ اْلآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا﴾ هذه النية.
أو لفظ الابتغاء كقوله -جل وعلا-: ﴿إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ اْلأَعْلَى﴾ وكما في قوله -جل وعلا-: ﴿لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾.
فإذًا في النصوص يكثر ورود النية بلفظ أولاً: الإرادة إرادة القلب، ثانيًا: بلفظ الابتغاء، أو بلفظ الإسلام؛ إسلام القلب والوجه لله -جل وعلا- والنية في كلام الله -جل وعلا- أو في الشريعة بعامة يراد بها أحد معنيين: المعنى الأول: نية متجهة للعبادة، والمعنى الثانى: نية متجهة للمعبود.
فالنية قسمان:
نية متعلقة بالعبادة، ونية متعلقة بالمعبود، فأما المتعلقة بالعبادة فهي التي يستعملها الفقهاء في الأحكام حين يأتون إلى الشروط، الشرط الأول: النية، يقصدون بذلك النية المتوجهة للعبادة، وهي تمييز العبادات بعضها عن بعض.
تمييز الصلاة عن الصيام، تمييز الصلاة المفروضة عن النفل، يعني: أن يميز القلب فيما يأتي ما بين عبادة وعبادة، أتى المسجد وأراد أن يركع ركعتين، ميز قلبه هاتين الركعتين هل هي ركعتا تحية المسجد، أو هي ركعتا راتبة؟ أو هل هي ركعتا استخارة؟ إلى آخره... فتمييز القلب ما بين عبادة وعبادة هذه هي النية التي يتكلم عنها الفقهاء في الكتب الفقهية وهي النية المتوجهة للعبادة.
القسم الثانى: النية المتوجهة للمعبود، وهذه هي التي يتحدث عنها باسم الإخلاص: إخلاص القلب، إخلاص النية، إخلاص العمل لله -جل وعلا- وهي التي تستعمل كثيرًا بلفظ النية والإخلاص والقصد.
فإذًا هذا الحديث شَمَل نوعي النية: النية التي توجهت للمعبود، والنية التي توجهت للعبادة، فـ ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾ يعني: إنما العبادات تقع صحيحة، أو مقبولة بسبب النية، يعني: النية التي تميز العبادة بعضها عن بعض أولا.
والنية التي هي إخلاص العبادة للمعبود، وهو الله -جل جلاله- فلهذا لا يصلح أن نقول: النية هنا هي النية التي بمعنى الإخلاص، ونقول: إن كلام الفقهاء في النيات لم يدخل فيه الإخلاص، ولا القسم الثاني، فإن تحقيق المقام انقسام النية إلى هذين النوعين -كما أوضحت لكم-.
قال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿وإنما لكل امرئ ما نوى﴾ يعني: هذا حصر أيضًا، وإنما لكل امرئ من عمله ثوابًا وأجرًا لما نواه بعمله، فإن كان نوى بعمله الله والدار الآخرة، يعني: أخلص لله -جل وعلا- مريدا وجه الله -جل وعلا- فعمله صالح، وإن كان عمله للدنيا فعمله فاسد؛ لأنه للدنيا.
وهذا كما جاء في آيات كثيرة إخلاص الدين لله -جل علا-: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ يعني: الدين يقع على نية الإخلاص، كما في قوله -جل وعلا-: ﴿أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾.
وقد جاء في أحاديث كثيرة بيان إخلاص العمل لله -جل وعلا- كقوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الذي رواه مسلم في الصحيح: ﴿أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه﴾ وفي لفظ آخر قال -عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث القدسي: ﴿فهو للذي أشرك، وأنا منه بريء﴾.
وهذا يدل على أن العمل لا بد أن يكون خالصًا لله -جل وعلا- حتى يكون مقبولاً، ويؤجر عليه العبد، إذا وصلنا إلى هذا فمعناه أن من عمل عملاً، ودخل في ذلك العمل نية غير الله -جل وعلا- بذلك العمل، فإن العمل باطل لقوله: ﴿من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه﴾ ﴿فهو للذي أشرك﴾ ﴿إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى﴾.
وهذه يحتمل أن يكون المراد بذلك العملِ العملَ الذي يكون في أصل العبادة، أو في أثناء العبادة، أو غيَّر نيته بعد العبادة، يحتمل هذا، أو تكون العبادة أيضا في بعضها لله، وفي بعضها لغير الله، فما المراد؟
قال العلماء: تحقيق هذا المقام أن العمل إذا خالطته نية فاسدة، يعني: رياء نوى للخلق، أو سمعة، فإنه إن أنشأ العبادة للخلق فهي باطلة، يعني: صلى دخل في الصلاة، لا لإرادة الصلاة؛ ولكن يريد أن يراه فلان، فهذه الصلاة باطلة.
وهو مشرك كما جاء في الحديث: ﴿من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك﴾ يعني: حين أنشأ الصلاة الواحدة أنشأها يرائي، وإلا فإن إنشاء المسلم عباداته جميعًا على الرياء هذا غير متصور، وإنما يقع الرياء ربما في بعض عبادات المسلم؛ إما في أولها، وإما في أثنائها.
وأما الرياء التام في جميع الأعمال فإن هذا لا يتصور من مسلم، وإنما يكون من الكفار والمنافقين، كما قال -جل وعلا- في وصفهم: ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ و قوله في وصف الكفار: ﴿رِئَاءَ النَّاسِ﴾ يعني: بهذا أن:
القسم الأول: نية ابتدأ بها العبادة لغير الله، فهذه العبادة تكون باطلة: صلاته باطلة، صيامه باطل، وصدقته باطلة، نوى بالعمل غير وجه الله -جل وعلا-.
القسم الثاني: أن يحدث تغيير النية في أثناء العبادة، وهذا له حالان: الحال الأولى: أن يبطل نيته الأصلية، ويجعل العبادة لهذا المخلوق، فهذا حكمه كالأول من أن العبادة فسدت؛ لأنه أبطل نيتها، وجعلها للمخلوق، فنوى في أثناء الصلاة أن الصلاة هذه لفلان، فتبطل الصلاة.
الحال الثانية: من هذا القسم أن يزيد في الصلاة من لأجل رؤية أحد الناس، يعني: يراه أحد طلبة العلم، أو يراه والده، أو يراه كبير القوم، أو يراه إمام المسجد، فبدل أن يسبح ثلاث تسبيحات أطال في الركوع، والركوع عبادة لله -جل وعلا- فأطال على خلاف عادته لأجل رؤية هذا الرائي.
فهذا العمل الزائد الذي نوى به المخلوق يبطل؛ لأن نيته فيه لغير الله، و ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾ لكن أصل العمل صالح؛ لأن هذه النية ما عرضت لأصل العمل، وإنما عرضت لزيادة في بعضه أطال الصلاة، أو إمام أطال القراءة؛ لأن حسن صوته لرؤية إلى الخلق، أو لأن وراءه فلان، أو نحو ذلك من الأعمال، فلا يبطل أصل العمل، وإنما ما زاد فيه لأجل الخلق يكون فيه مشركًا الشرك الأصغر، وهو الرياء -والعياذ بالله-، هذه الحالة الثانية من القسم الثاني.
والحالة الثالثة: أن يعرض له حب الثناء، وحب الذكر بعد تمام العبادة، عمل العبادة لله، صلى لله، حفظ القرآن لله، وصام لله، صام النوافل لله -جل وعلا- مخلصًا، وبعد ذلك رأى من يثني عليه، فسره ذلك، ورغب في المزيد في داخله، فهذا لا يخرم أصل العمل؛ لأنه نواه لله، ولم يكن في أثنائه فيكون شركا، إنما وقع بعد تمامه، فهذا كما جاء في الحديث ﴿تلك عاجل بشرى المؤمن أن يسمع ثناء الناس عليه لعبادته وهو لم يقصد في العمل الذي عمله أن يثني عليه الناس﴾ هذه ثلاثة أحوال.
وإذا تقرر هذا فالأعمال التي يتعلق بها نية مع نيتها لله -جل وعلا- على قسمين أيضا، الأول: أعمال يجب ألا يريد بها، وألا يعرض لقلبه فيها ثواب الدنيا أصلا، وهذه أكثر العبادات، وأكثر الأعمال الشرعية.
والقسم الثاني: عبادات حض عليها الشارع بذكر ثوابها في الدنيا، مثل صلة الرحم حض عليها الشارع بذكر ثواب الدنيا، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه﴾ فحض على صلة الرحم بذكر ثواب الدنيا: النسأ في الأثر، والبسط في الرزق.
أو كقوله في الجهاد: ﴿من قتل قتيلا فله سلبه﴾ يعني: ما عليه من السلاح، وما معه من المال أو كذا، يسلبه ويكون لهذا القاتل، فهذا حض على القتل بذكر ثواب دنيوي، فمن أراد الثواب الدنيوي هنا -في هذا القسم- مستحضرا ما حض الشارع من العمل، يعني: من هذه العبادة، وذكر فيه الثواب الدنيوي فإنه جائز له ذلك؛ لأن الشارع ما حض بذكر الدنيا إلا إذن منه بأن يكون ذلك مطلوبا.
فإذًا من وصل الرحم يريد وجه الله -جل وعلا- ولكن يريد أيضا أن يثاب في الدنيا بكثرة الأرزاق، وبالنسأ في الأثر، يعني: طول العمر، فهذا له ذلك، ولأجل أن الشارع حض على ذلك.
جاهد في سبيل الله يريد أيضا مغنما، ونيته خالصة لله -جل وعلا- لتكون كلمة الله هي العليا؛ ولكن يريد شيئا حض عليه، أو ذكره الشارع في ذلك، هذا قصده ليس من الشرك في النية؛ لأن الشارع هو الذي ذكر الثواب الدنيوي في ذلك.
فإذًا تنقسم الأعمال إلى عبادات ذكر الشارع الثواب الدنيوي عليها، وإلى عبادات لم يذكر الشارع الثواب الدنيوي عليها، وهذا كما جاء في قول الله -جل وعلا-: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ﴾ الآية.
فهذه المسألة مهمة، فإذا تقرر أنه لا يكون مشركًا بذلك، فهل من نوى الدنيا بصلة الرحم مثلا مع نيته لله مساوٍ لمن لم ينو الدنيا، وإنما جعلها خالصة لله لا يختلف الأجر؛ لكن لا يكون مرائيًا، ولا مشركًا بذلك.
فمن كانت نيته خالصة لله -جل وعلا- فأجره أعظم، لهذا لما سئل عدد من الأئمة من السلف والإمام أحمد وجماعة عمن جاهد للمغنم ونيته خالصة لله؟ قال: أجره على قدر نيته، لم يبطل عمله أصلاً، لم يبطل السلف العمل أصلاً، وإنما جعلوا التفاوت بقدر النيات.
فكلما عظمت النية لله في الأعمال التي فيها ذكر الدنيا، وذكر الشارع عليه ثواب الدنيا فإنه كلما عظمت النية الخالصة كلماعظم أجره، وكلما نوى الدنيا مع صحة أصل نيته قل أجره يعني: عن غيره.
هنا قال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله﴾ طبعًا الحديث تفاصيل الكلام في النية، ودخول النية في أبواب كثيرة من العبادات، هذا يطول عليه الكلام جدًّا، وصنفت مصنفات في هذا، وشروح كتب الأحاديث أطالت في شرح هذا الحديث، وإنما نذكر في شرحنا لهذه الأربعين النووية قواعد وتأصيلات متعلقة بشرح الحديث، كما هي العادة في مثل هذه الشروح المختصرة لهذه الكتب المهمة.
قال: ﴿فمن كانت هجرته﴾ الفاء هذه تفصيلية، تفصيل لمثال من الأعمال التي تكون لله وتكون لغير الله، ذكر مثالا للهجرة قال: ﴿من كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه﴾.
الهجرة معناها: الترك، هجر يعني: ترك، وأصل الهجرة هجرة إلى الله -جل وعلا- وإلى رسوله -ﷺ- هجرة إلى الله -جل وعلا- بالإخلاص، وابتغاء ما عنده، والهجرة إلى النبي -ﷺ- باتباعه -عليه الصلاة والسلام- والرغبة فيما جاء به -عليه الصلاة والسلام-.
ومن آثار ذلك، الهجرة إلى الخاصة التي هي ترك بلد الشرك إلى بلد الإسلام، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿فمن كانت هجرته﴾ يعني: من كان تركه لبلد الشرك إلى بلد الإسلام لله ورسوله إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، هذا فيه تكرير للجملة. من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته لله ورسوله.
والمتقرر في علوم العربية أن الجمل إذا تكررت في ترتب الفعل والجزاء فإن شرط الفعل يختلف عن شرط الجزاء؛ فلهذا نقول: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نية وقصدا فهجرته إلى الله ورسوله ثوابًا وأجرًا، فما تعلق بالفعل النية والقصد، وما تعلق بالجواب الأجر والثواب.
وهذا فيه نوع من أنواع البلاغة، وهو أن عمله جليل عظيم بحيث يستغنى لبيان جلالته وعظمه يستغنى عن ذكره؛ لأنه من الوضوح والبيان بحيث لا يحتاج إلى ذكره، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ﴿فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله﴾ هذا تعظيم، ورفع لهذا العمل، وهو أن تكون الهجرة إلى الله ورسوله، يعني: نية وقصدًا وتعظيما للثواب والأجر بقوله: ﴿فهجرته إلى الله ورسوله﴾ ثوابًا وأجرًا، يعني: حدث عن ثوابه وعظم ذلك.
ثم بين الصنف الثاني فقال: ﴿ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها﴾ ﴿لدنيا يصيبها﴾ هذا حال التاجر الذي هاجر لكي يكسب مالاً، أو هاجر ليكسب زوجة أو امرأة، فهذا هجرته إلى ما هاجر إليه.
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ﴿فمن كانت هجرته لدنيا﴾ هذه النية يعني: هاجر العمل الظاهر يشارك فيه، من هاجر إلى الله ورسوله؛ لكن نيته أنه في هجرته يريد التجارة، أو يريد أن يتزوج امرأة فنيته فاسدة، قال: ﴿فهجرته إلى ما هاجر إليه﴾ يعني: من حيث أنه لا ثواب له فيها ولا أجر، وقد يكون عليه فيها وزر. والهجرة هي ترك -كما ذكرت لك- ترك بلد الشرك إلى بلد الإسلام، أو ترك بلد تظهر فيه البدعة إلى بلد لا تظهر فيه البدعة، وإنما تظهر فيه السنة، أو القسم الثالث: ترك بلد تظهر فيه الفواحش والمنكرات إلى بلد تقل فيه الفواحش والمنكرات ظهورًا، وهذه كل واحدة منها لها أحكام مذكورة في كتب الفقه بالتفصيل.